أرشيف المقالات

- قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم اسبلنزاني ثاني غزاة المكروب (مات لوفن هوك وآ أسفاه! فمن بعده لدراسة تلك الحيوانات الصغيرة؟).
هكذا تساءل رجال الجمعية الملكية بإنجلترا، وهكذا تساءل روُمور، ورجال الأكاديمية الفرنسية الألمعية في باريس.
سؤال أجابته الأيام سريعاً، فان قماش (دلُفت)، لم يكد يُغمض عينته في عام 1723 ليستريح تلك الراحة الطويلة الأبدية التي استحقها بعد طول جهد وعناء، حتى ولد في عام 1729 صيادٌ للمكروب جديد، وذلك في بلدة (إسكانديانو) في شمال إيطاليا على بعد ألف ميل من مضجع (لوفن هوك).
وكان اسم هذا المولود الجديد (لازارو اسبلنزاني) نشأ وترعرع فإذا به ولد يلثغ بالشعر بينا هو يلعب بالطين يصنع منه الكعك والفطير، ثم يعزُف عن طينه ويذهب في فطيره ليلهو بالخنافس والبق والذباب وأشتات الديدان يُجري عليها تجارب قاسية، هي عبث الصبي الذي لا يَحذق التجربة ولا يدر مبلغ الألم الذي تأتيه يداه.
كان يُغرم بالطبيعة ويهوي الأشياء الحية، وبدلاً من أن يُبرم والديه بكثرة السؤال عنها، كان يمتحنها بنفسه، فينزع عن هذه رجليها، وعن هذه جناحيها، ثم يحاول أن يُثبتهما حيت كانا.
كان يجب أن يعرف كيف تعمل الأشياء، ولم يكن يأبه كثيراً بأشكالها وظواهرها وخاصم أهله كما فعل (لوفن) في تقرير ما يدرس من العلوم، وجاهدهم كثيراً من أجل دراسة المكروب.
وكان أبوه محامياً، فبذل مجهوداً كبيراً في أن يُحبب إلى ابنه وثائق من القانون طويلة، وصحائف من حجج الدفاع عريضة، ولكن الصبي كان يهرب من هذا وذاك، فيذهب إلى بعض الجداول فيقذف سطحها برقيق الحجر، ويعجب من أن الحجر يقشط الماء ولا يغطس فيه وكان يُغصب في الامساء على الجلوس إلى دروس لا لذة له فيها، فلا يكاد أبوه يوليه ظهر، حتى يقوم إلى الشباك ينظر إلى سماء إيطاليا وهي ناعمةٌ كالقطيفة السوداء قد تبعثرت عليها النجوم البيضاء، ثم يُصبح الصباح فيأتي رِفاقَه في اللعب يُلقى عليهم دروساً فيها حتى أسموه المنجم وتأتي الإجازات فيضرب بجسمه العظيم في الغابات؛ فذات مرة وقعت عينه فيها على نافورات طبيعية يخرج منها الماء راغياً مزبداً، فحملق فيها من الدهشة، وذهب عنه لعب الطفولة وعبثها، وعاد أدراجَه يفكر تفكير الرجال.
ما سبب هذه العيون وكيف كانت؟ لم يُحر جواباً إلا حكاية حكاها له ذووه والقسيس: أن فتيات جميلات ذهبن في الغاب فَضلِلْنَ الطريق بين أحراجه، فأحَسن الوحشة، فبكين، فانقلبت دموعهن عيوناً تتفجر ما شاء الله وكان (لازارو) ابناً طيعاً، وان فيه خُلق الساسة، فلم يجادل أباه ولا القسيس، وإنما سخر من تعليلهم وأخفى سخريته في نفسه، واعتزم أن يكشف عن سر هذه النوافير يوماً وكان (اسبلنزاني) في صباه شغوفاً بالكشف عن أسرار الطبيعة شغف (لوفن هوك)، ولكنه خالفه في السبيل التي سلك ليكون عالماً باحثاُ.
قال لنفسه: (والدي يصر على تعليمي القانون، وأنا أصر على غير القانون، إذن فسيعلمن مشيئة من تكون).
وتظاهر أمام والده بحب القانون والإقبال على الوثائق الشرعية، ولكنه أقبل في كل أوقات فراغه إقبالاً مريعاً على دراسة الرياضة والمنطق واللغة الإغريقية والفرنسية، وفي عطلاته كان ينظر إلى الأحجار تطير فتكشط جلد الأنهار، وإلى الماء الفوار يتدفع من النبع الثرثار، ويحلم بالبراكين تقذف بالنيران مختلفة الألوان، ويحلم باليوم الذي يفقه فيه منشأها ومنتهاها واستيقظت في نفسه الحيلة، فذهب إلى العالم الطبيعي الشهير (فالسنيري) وأفضى إليه بمكنون علمه فأكبره الرجل العظيم وصاح به: (إنك يا بني خلقت للعلوم فما إضاعة وقتك في كتب القانون؟).
فقال الماكر: (ولكن، سيدي، إن أبي يصر، وما للابن غير الطاعة!) فذهب فالسنيري إلى أبيه غاضباً حانقاً، فلما لقيه وبخه على العبث بمواهب إبنه وإضاعته في تعلم صناعة لا يعود عليه منها غير النفع والمال.
(إن ولدك يا هذا يبشر أن يكون بحاثة كبيراً.
إنه يشبه جاليليو.
وسيشرف اسكانديانو ويرفع ذكرها في الوجود)
ورضي الوالد وذهب الإبن إلى جامعة ريجيو ليحترف دراسة العلوم وكان الزمان قد استدار قليلاً، فأصبح طالب العلوم الطبيعية ذا حظ أوفر من احترام الناس، ونصيب أكبر من الأمن على نفسه وحياته عما كان الحال يوم بدأ (لوفن هوك) ينحت عدساته.
فان محكمة التفتيش كانت قد بدأت تتخاذل قليلاً، وتستر أنياباً كشفت عنها طويلا، فأخذت تطلب الزندقة، لا عند المعروفين النابهين أمثال سرفيتوس وجاليلو، بل عند النكرات الخاملين، فعلى هؤلاء المستضعفين تجنت، وألسنتهم قطعت، وأبدانهم حرقت ولم تعد (المدرسة المتسترة) تتستر، فقد كانت خرجت عن أقبيتها السوداء وقيعانها الظلماء، إلى ظهر الأرض حيث الهواء والضياء.
ونالت الجمعيات العلمية في كل مكان رعاية الملوك وحماية البرلمانات.
وأصبح من المأذون به أن يتشكك الناس في الخرافات، وأن يتحدث الناس حديث الترهات الشاسعة، حتى لبدأ أن يكون ذلك سمة العصر، والطراز الجديد المختار لذلك الزمان.
وأخذ الناس يطلبون الحقيقة وقاموا يبحثون عنها في الطبيعة.
ولم يلبث البحث العلمي، بما يتضمنه من لذة وما بلغه من وقار، أن شق لنفسه طريقاً إلى حظائر الفلاسفة، فقطع عليهم عزلتهم وحركهم عن سكونهم.
فقام فولتير إلى ريف فرنسا وأوحاشها، وقضى فيها السنين الطوال يتفقه فيما اكتشفه نيوتن، لينشره في قومه من بعد ذلك ويؤلفهم عليه.
ودخل العلم حتى في دور الندوة، والصالونات الفخمة، فاختلط فيها بالسمر النادر، واختلط فيها أحياناً بالعهر الفاخر.
وأكب ذوات العصر، وذوات المجتمع أمثال مدام بمبادور على دائرة المعارف المحرمة يطلبون عندها فن توريد الخدود وتزجيج الحواجب، وصناعة الجوارب، وإلى جانب ما أثاره العصر المجيد الذي عاش فيه اسبالنزاني من الاهتمام بكل شيء كبير وصغير، من ميكانيكا النجوم إلى رقصات الأحياء الصغيرة في الماء، أخذ يشيع في الناس احتقارا مسموعا للدين، ولكل رأي حمته سلطة من أي نوع كانت، حتى تلك الآراء التي بلغت من القدم والقداسة مبلغاً كبيراً.
ففي القرن الأسبق كان الرجل يعرض نفسه للأذى وحياته للخطر إذا هو قرأ كتب أرسطو في الحيوان، وضحك على ما فيها من حيوانات معكوسة مقلوبة لا تمت إلى الممكنات بسبب قريب أو بعيد.
أما في هذا القرن فالرجل كان يستطيع أن يكشف عن سنه في نور النهار باسماً ساخراً وأن يقول ولو في شيء من الخفوت: لأنه أرسطو لا بد من تصديقه ولو كذب.
على أن الدنيا كان لا يزال بها جهل كثير، وعلم كاذب كثير، حتى في الجمعيات الملكية والأكاديميات.
وما كاد (اسبالنزاني) أن يتخلص من دراسة القانون، ومما يتبعه من مستقبل مليء بالمحاكمات التي لا حصر لها، والمخاصمات التي لا نهاية لها، حتى قام يحصل بكل ما فيه من قوة كل ما يستطيع من معرفة، من أي نوع كانت، ويمتحن شتى النظريات من أي مصدر جاءت، وأن ينفض عن نفسه احترام المحجّات الثّقات مهما علا صيتهم وشاع ذكرهم، واختلط بكل الناس من الأساقفة السمان، إلى موظفي الحكومة، إلى أساتذة العلم، إلى ممثلي المسارح، إلى العازفين بالأشعار على القيثار كان في خلقه نقيضَ (لوفن هوك) أبعد النقض عاش (لوفن) عزوفاُ جلداً صبوراً، ونحت العدَس وحدق في الأشياء زُهاء عشرين عاماً قبل أن يسمع به أحد، أو يُحس وجوده العلماء.
أما (أسبالنزاني) ففي سن الخامسة والعشرين ترجم عن القدماء من الشعراء، وانتقد الترجمة الإيطالية لهوميروس، وكانت لها في قلوب الناس منزلة مستقرة وتقدير مكين، ودرس الرياضيات مع ابنة خاله (لورا باسي) الأستاذة الشهيرة بجامعة ريجيو فبرع فيها، وعندئذ أخذ يكشط سطح المياه بالحجارة، لا اللهو واللعب كما كان يفعل صبياً، بل للجد والدراسة؛ وكتب بحثاً في الحجارة، وكشطها لسطح الماء، وترسم قسيساً في الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يرتزق بما يقيم من القداديس قلنا إنه يحتقر في الخفاء كل سلطة، ومع ذلك نجده تملق هذه السلطات نفسها وكسب عطفها، وعاش هادئاً في أكنافها يعمل في مأمن من كل تهويش وإزعاج، وترسم قساً حامياً للدين، مدافعاً دفاع الأعمى عن حوزة اليقين؛ فإذا به يطلق لنفسه العنان إطلاقاً يسومها على التشكك في كل شيء، وعلى رفض التسليم بأي شيء، إلا وجود الله، لا إله الكنيسة التي صورته، ولكن إله عظيم فخم يهيمن على تلك الخلائق أجمعين.
وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره تعين أستاذاً بجامعة (ريجيو) فأنصت لدروسه الطلبة في حماس ظاهر وإعجاب ثائر.
وهنا في تلك الجامعة بدأ تجاربيه على تلك الحيوانات الصغيرة الضئيلة العجيبة التي أغراها (لوفن هوك) بالصبر الطويل والحيلة الواسعة على البروز من ذلك الخضّم الشاسع المظلم الذي احتجبت فيه منذ الخليقة عن عين الإنسان، والتي أوشكت من بعد وفاته أن تنسل راجعة إلى ظلمة ذلك المجهول بالترك والإهمال والنسيان لقد كان من الجائز المقدور أن تُنسى تلك الخلائق الصغيرة، وإن عطف عليها القدر، فقد كان من الجائز الميسر أن تحظى بين الناس بنصيب من الذكر بقدر ما تحظى به الأعاجيب يتلاهى الناس بها ويتفاكهون عليها، ولكن نقاشاً قام بين أرباب الفكر بسببها ضمن لها الحياة كاملة، لأنه كان نقاشاً عنيفاً خاصم فيه الأصدقاء الأصدقاء، وود فيه العلماء الأساتذة أن يفلقوا جماجم الأحبار القساوسة.
أما موضوع الخصام فهو ذاك: أيمكن من العدم أن تُخلق الأحياء، أم لا بد لها من آباء؟ أخلق الله الخلائق في ستة أيام، ثم نفض يديه من الخليقة واستوى على العرش يُهيمن ويَسوس، أو هو لا يزال يتسلى من آن لآن بخلق جديد؟ أما الرأي الشائع في ذلك الزمان، فكان أن الشيء قد يخرج من لا شيء، وأنه لا ضرورة للآباء في كل حالة لتكون الأبناء، وإن في الأقذار المركومة والأوساخ المهيلة تتولد المواليد من غير والد.
وإليك وصفة من تلك الوصفات يضمن لك ذلك العصر أنك تحصل بها على ثول عظيم من النحل: خذ ثوراً صغيراً واقتله بضربة على رأسه، وادفنه واقفاً في الأرض حتى لا يظهر منه إلا قرناه، واتركه شهراً، ثم عد إليه فانشر قرنيه يخرج مهما النحل طائراً في كثرة وزحام أحمد زكي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣