أرشيف المقالات

من الأدب الإنجليزي

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
8 كنار يموت للدكتور و.
ج.
لونج في الصيف الماضي ضربت خيمتي خلف عين ماء وسط الغاية، وكنت كثيرا ما أستلقي بجوارها لا لأشرب، بل لأكون بقربها برهة ألاحظ في هدوء حبيبات سيالها البارد تنسل من ثنايا أرضها السوداء، محوطة بفقاقع راقصة، ثم تضرب في زحمتها الدائمة نباتي السرخس والطحلب المحيطين بشواطئ العين، ومن حين إلى آخر كانت الحيوانات البرية تسمع نداء دعوتها الخافت لمن أحرقه العطش، فتأتي مسرعة مهطعة.
ولكنها حينما تراني تتراجع إلى مرقبها من نبات السرخس.
حيث تختبئ هناك متسمعة، ولكن الغدير الصغير يستمر في ندائه الخافت، فسرعان ما تخرج من مخبئها معتبرة إياي صديقا لها لطول جلوسي بقرب غديرها. وفي ذات يوم ذهبت إلى الغدير، فرأيت على غصن شجرة دائمة الخضرة كنارا صغيرا طالما لاحظته من قبل مستريحا بجوار الغدير، أو متنقلا في دعة هادئة فوق الأعشاب السندسية، وخيل إلي أنه ما كان يأتي إلى هنا إلا لشغفه بحب الغدير مثلي، فنادرا ما رأيته يستقي منه، ولكنه كان دائما هناك، لقد كان كهلا وحيدا.
وقد أخذ اللون الأغبر يغير على تاجه اللامع السواد، وأخرج له العمر الطويل قشورا كثيرة حول ساقيه، ولم يكن لتبين عليه الرهبة أو تتملكه رعشة الخوف.
فكأنما بعث فيه كر الليالي وداعة الحياة، فكان يتحرك مبتعدا في أناة إذا ما اقتربت من مكانه، ولكنه لا يذهب بعيدا، وبلغت به الوداعة أنه كثيرا ما قاربني يظنني لاهيا عنه بتحديقي الدائم في الغدير. واليوم قد جلس على هذا الغصن المعلق فوق مياه الغدير، في هدوء أكثر من هدوئه الأول، وكان وديعا مستسلما، حتى لم يبد نفوراً حينما مددت يدي أتحسسه، بل اتكأ في سكون ودعة على إصبعي وأسبل عينيه في طمأنينة، ومضت نصف ساعة، وهو في حالته هذه مسرور يهتز مهوما من آن إلى آخر، فاتحا عينيه في فترات، محدقا بها في اتساع، كلما وضعت له على إصبعي نقطة من الماء الذي رواه صغيرا، وصاحبه كبيرا.
ولما أقبل المساء وصمتت ألسنة الغابة واستولى عليها سكون موحش، وضعته في رقة ولطف على الشجرة الفينانة؛ حيث راح في سبات عميق قبل أن أوليه ظهري، وفي الصباح كان موقعه أقرب إلى الغدير الحبيب، وعلى غصن دني من غصنه بالأمس، واستكان مرة أخرى في كنف أصابعي، ورشف في امتنان قطرات الماء من فوق أناملي. وفي المساء وجدته ناشبا بحذر من جذور شجرته المعهودة، وقد تدلى رأسه إلى أسفل، وعلقت مخالبه بلحاء الجذر علوقاً أبديا، وقد لمس منقاره في خفة ذلك الماء النمير، وقد فتح فكيه قليلا للمرة الأخيرة، وراح في سبات دائم آمن، بجوار الغدير الذي عرفه طوال حياته.
وظل بجواره إلى أن لفظ الروح في جنباته؛ بجوار الغدير الذي قبلت مياهه منقاره قبلة الوداع، وحفظت صورته في أعماقها إلى اللحظة الأخيرة. لقد ذهب هذا الكنار كما يذهب أغلب سكان الغابة في هدوء وفي أمن، بجوار الغدير الذي عاش على حبه، ومات بقربه.
وليست قصته إلا مشهدا من فصل الموت في رواية الغابة يتجدد دائما باستمرار: فحين يحس الحيوان بغريزته تدفعه إلى البعد عن رفاقه، يمعن في البعد حتى يصل إلى غدير أحبه، ويرقد هنالك مختفيا في انتظار الراحة القادمة، وحينما يأتيه الموت لا يظنه إلا غفوة تأخذ تعبه معها، ثم يعود بعدها حرا طليقا، وهناك في رقدته الأبدية تخفيه أوراق الأشجار، التي ألفها وألفته؛ عن أعين أصدقائه وأعدائه على السواء.
محمد أبو الفتح البشبيشي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣