من ثمرات القراءة واتخاذ الكتاب جليسا ورفيقا
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
من ثمرات القراءة واتخاذ الكتاب جليسًا ورفيقًامقدمة:
للقراءة ثمرات كثيرة طيبة، تستحق أن نبذل في سبيل جَنْيِها الوُسْعَ والوقتَ والمال، وأن نجعل لها مرتبة متقدمة ضمن مراتب اهتماماتنا وانشغالاتنا، وفي هذا المقال عرض موجز ومختصر لبعضها:
الثمرة الأولى: السير على خُطى أولي النهى والألباب، لبلوغ ما بلغوه من مجالسة الكتاب:
مجالسة الكتاب دأب العلماء والأدباء، وأولي الألباب والنُّبَهاء، والقراءة مأدبتهم لا يشبعون منها، ولا يبغون عنها حِولًا، وفيما يلي نماذج منهم:
• ذكر ابن عبدالبر رحمه الله أن عبدالله بن عبدالله بن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز كان لا يجالس الناس، ونزل المقبرة، فكان لا يكاد يُرى إلا وفي يده دفتر، فسُئل عن ذلك، فقال: لم أَرَ قطُّ أوعظَ من قبر، ولا أمتع من دفتر، ولا أسلمَ من وحدة.
• وعن الحس اللؤلؤي - إن صح عنه - أنه قال: "لقد غبرت لي أربعون عامًا، ما قمت ولا نمت إلا والكتاب على صدري".
• وسُئل أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري عن دواء للحفظ، فقال: "إدمان النظر في الكتب"[1].
• وقال ابن الجوزي رحمه الله: "وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أرَه، فكأني وقعت على كنز، ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشاب، وكانت أحمالًا، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها، ومن ملاحظة سِيَرِ القوم، وقدر هِمَمِهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصِرْتُ أستزري – أحتقر - ما الناس فيه، وأحتقر هِمَمَ الطلاب، ولله الحمد"[2].
فالكتاب خير جليس وأفضل أنيس لأُولِي النُّهى والألباب؛ قال الشاعر:
نِعْمَ المؤانس والجليس كتاب
تخلو به إن مَلَّكَ الأصحابُ
لا مفشيًا سرًّا ولا متكبرًا
وتُفاد منه حكمة وصوابُ[3]
الثمرة الثانية: فتح حصون العلوم وقلاع الآداب:
من أراد أن يكتسب علمًا ويزداد أدبًا، فعليه بالقراءة؛ فإنها مِفتاحُ حصون العلوم وقِلاع الآداب، ذلك أن أهل العلم والأدب قد دوَّنوا صنوف علومهم، وضروب آدابهم في الدواوين والكتب، فمن فاته مجالستهم والتلقِّي عنهم مشافهة، فلا يفوته أن يتلقى عنهم بواسطة ما سطَّروه في كتبهم، لكن بشرط أن يعرف اصطلاحاتهم، ويفهم مرادهم ومقاصد كلامهم، فـ"لا تَستَفِدْ من كتاب حتى تعرف اصطلاح مؤلفه فيه، وكثيرًا ما تكون المقدمة كاشفة عن ذلك، فابدأ من الكتاب بقراءة مقدمته"[4]؛ قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "وإذا ثبت أنه لا بدَّ من أخْذِ العلم؛ فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة: وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لِما لها من خاصية يشهدها كل من زاوَلَ العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ويحفظها فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهِمها بغتة! وهذا الفهم يحصل بقرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، ونحو ذلك مما يتيسر به الفهم...
فهذا من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ يُفتَح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم...
الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنِّفين، ومدوني الدواوين: وهو أيضًا نافع في بابه، بشرط أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا، دون فتح العلماء، وهو مُشاهد معتاد"[5].
فالعلم يُقيَّد في الكتب، والقراءة مفتاح قيوده؛ لأجل ذلك خاطب الله تعالى الأمة بـ: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]؛ لأن "العلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان؛ ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا أرشدها إلى أهمية الكتابة، وإعمال القلم في تقييد العلوم؛ فقال: ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 3 - 5]، وفي الأثر: قيِّدوا العلم بالكتابة"[6].
الثمرة الثالثة: السموُّ والرُّقيُّ:
ذلك أن القراءة تنير القلب، وتغذِّي العقل، وتهذِّب النفس، بما تُيَسِّر من سُبُل الاستزادة من الإيمان، وبما تفتح من أبواب العلوم والمعارف والآداب؛ فيرقى القارئ ويسمو عبر مدارج الكمال إلى أسمى المقامات؛ ومن ذلك:
(أ) سمو القلب والروح:
فإن القراءة مبصرة لطريق الإيمان؛ أي مضيئة ومنيرة له، ومبصرة لقلب المؤمن؛ أي كاشفة للغشاوة عنه، ورافعة للحُجُبِ التي تَحُول بينه وبين الإبصار؛ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
فالمؤمن الذي قرأ وتعلَّم طريق الإيمان قبل أن يسلكه يرى بوضوح بداية الطريق ونهايته، ويفقه قوانينه وقواعده، ويعرف محطاته ومراحله، ويُبصِر علاماته وإشاراته، ويحذر عقباته ومعوقاته، فيسلكه على هدًى وبصيرة.
وكلما ازداد إبصارًا بالطريق، جدَّ في السير، واجتهد في بلوغ المطلوب، فسما قلبه وارتقى عبر منازل الإيمان، ووجد السكون والاطمئنان.
(ب) سمو العقل:
والقراءة تسمو بالعقل؛ إذ تُخرِجه من ضيق الجهل، إلى سعة العلوم والمعارف، وتُوسِّع آفاقه ومداركه، فتسمو مطالبه، ويرتقي عبر مقامات التفكُّر والتدبُّر، والفهم والإبصار، فتكون رؤيته للأمور دقيقة وواضحة وشاملة، فإن صَدَرَ له فيها رأي، كان سديدًا، أو اتخذ إزاءها موقفًا، كان قويمًا.
(ج) القراءة وسمو النفس:
والقراءة تسمو بالنفس أيضًا؛ إذ تفتح لها أبواب الآداب، فتهذبها، وتحررها من سجن الجسد ومطالبه الطينية، فإن النفس تُثْقِلُها قيود الجسد، وتشدُّها إلى العالم السفلي الطيني، وتتأثر بكثافته وثقله، فتعاني ضيقًا وكآبة، لكن إذا أخذت حظها من الآداب، هُذِّبت وتحررت، وخفَّت وارتقت، وانطلقت نحو آفاق أرحب وأوسع؛ حيث القيم المثلى والمعاني الإنسانية الفطرية السامية.
فالحاصل: إن القراءة تسمو وترقى بالإنسان روحًا وعقلًا ونفسًا، بما توفره لهذه المكونات من غذاء الإيمان والعلم والأدب.
وما لم يكتسب الإنسان قدرًا كافيًا من هذه العناصر المغذِّية للروح والعقل والنفس: (الإيمان + العلم والمعرفة + الآداب)، انتقصت قيمته بحسبه جزاءً وِفاقًا، فإن عدمها كلية، عُزِلَ عن المكانة التي أرادها الله له، وانحط إلى درك أسفل سافلين: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ [التين: 4، 5].
فلا قيمة للإنسان إن لم يكتسب إيمانًا وعلمًا وأدبًا، ولا وزن له إن كانت خطته في الحياة محدودة بحدود جغرافية جسده، وكان همُّه لا يعدو تلبية مطالبه الطينية من مطعم ومشرب، ومنكح وملبس، وإنما يكون له من القيمة والوزن بقدر ما يكتسب من إيمان وعلم وأدب، ولا عِبرةَ بعد ذلك بمظهره وصورته، وثوبه وهيئته؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله:
عليَّ ثياب لو تُباع جميعها
بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفسٌ لو تُقاس ببعضها
نفوس الورى كانت أجَلَّ وأكبرا
وما ضرَّ نصلُ السيف إخلاق غمدِهِ
إن كان عضبًا حيث وجَّهتَه فَرَى
فإن تكن الأيام أزْرَتْ ببِزَّتي
فكم من حُسامٍ في غِلافٍ تكسَّرا[7]
خاتمة:
• أدركت الأُمَّة الإسلامية في سابق عهدها ما للقراءة من أهمية بالغة، فاحتفت بالكتاب قراءة وتأليفًا وترجمة، ونسخًا ونشرًا، وأنشأت أعظم المكتبات في بغداد ودمشق، والقاهرة وفاس، وقرطبة وإشبيلية وغرناطة، وفي غيرها من البلاد والحواضر التي فتحها المسلمون، وكان ذلك من أسباب ما تحقق لها من عزة ورُقِيٍّ وريادة.
• فحرِيٌّ بنا أن نُحييَ فِعْلَ القراءة في الأمة، سيرًا على نهج من سبقونا، عسى أن نجني من ثمراتها مثل ما جَنَوه، ويتحقق لنا من العزة والريادة مثل ما تحقق لهم.
[1] جامع بيان العلم وفضله، للإمام أبي عمر يوسف بن عبدالله النمري القرطبي، ص: 448، دار ابن حزم، بيروت - لبنان، ط1: 1427ه - 2006م.
[2] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص: 389، تح: محمد بيومي، دار الغد الجديد، القاهرة - المنصورة، ط1: 1430ه - 2009م.
[3] جامع بيان العلم وفضله، ص: 447.
[4] حلية طالب العلم، الشيخ بكر أبو زيد، ص: 54، ضمن مجموعة رسائل فضيلة الشيخ بكر عبدالله أبو زيد، دار ابن حزم، القاهرة، 1432/ 2011م.
[5] الموافقات في أصول الشريعة مج1، ج1، ص67 - 69 بتصرف، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، بدون تاريخ.
[6] تفسير القرآن العظيم، مج4، ج8، ص273 - 274 بتصرف، مكتبة الصفا، القاهرة، ط1 (1425ه - 2004م).
[7] ديوان الإمام الشافعي، ص: 225 - 226، جمعه وشرحه ورتَّبه محمد عبدالرحيم، إشراف مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر، بيروت – لبنان، 1420ه - 2000م.