أرشيف المقالات

الحكم الأدبي

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 بقلم: السيد محمد نوفل لا تختلف الآراء وتتشعب المذاهب اختلافها وتشعبها في الآثار الأدبية، فهذا يرضى عن قطعة أدبية يضيق بها الآخر، وذاك يعجب بمعاني قصيدة يراها غيره مرذولة.

ومن العسير أن ترجع مخالفك في مسألة فنية عن رأيه مادام يستطيع إلى الدفاع عنه سبيلاً.
ولا عاب في هذا، إنما العاب في ألا يخلص الناقد للحقيقة في بحثه، ويندفع مع الهوى في رأيه وليس من شك في أن للوهم أثراً بيناً في الأحكام الأدبية، فالكاتب الذي يرفعه الجد إلى مرتبة الشهرة يستجيد جل الناس ما يصدر عنه، إن جيداً وإن رديئاً، ولا يكادون يستمعون لاعتراض معترض عليه أو لنقد ناقد له، بينما المغمور يلاقي من عنت الناس وإرهاقهم الشيء الكثير.
بل ندر أن يخرج الأديب من غمرة المجتمع ويحتل مرقباً بارزاً فيه بغير يد مشهور يقدمه إلى الجمهور بصوته المسموع، بعد أن ينثر عليه درر المدح ويكسوه حلل التقريظ.
.
ومن أوضح الأمثلة لهذا ما لقيه الكاتب الكبير جولد سمث، فقد ذاق البؤس أعواماً مكث فيها يعرض آثاره الأدبية القيمة والناس يعرضون عنها حتى ألف قصته التمثيلية البارعة (تمسكنت فتمكنت) وصار يقدمها إلى مديري المسارح وهم يرفضونها إلى أن أيده الله بزعيم الأدب في عصره الدكتور جونسون، فعرضها عرضاً جميلاً وأثنى عليها بالذي هي أهله، فكان تمثيلها وإعجاب الجمهور بها واستمرار عرضها أياماً عدة، وبدأ ظهور نجم جولد سمث، وكان هذا رداً قوياً على بعض مشاهير الكتاب السكسونيين الذاهبين إلى أن الإنسان سيد نفسه وليس للمقادير تحكم فيه.
ولعل إمام البيان الجاحظ كان يرى هذا الرأي حينما نصح لمن يريد مزاولة الأدب أن يعرض ثمرة عقله على العلماء (في عرض رسائل أو أشعار أو خطب) لمشاهير أهل البيان، فإن رأى الأسماع تصغي له والعيون تحدج إليه، علم أنه ذو موهبة أدبية واستمر في سبيل الأدب وإلا انصرف عنه إلى غيره مما ترتاح له طبيعته، ولا تشق عليه مزاولته.
نعم كان الجاحظ يرى أن للوهم تأثيراً في الحكم الأدبي، وإن لم يوفق إلى طريقة سديدة يختبر بها الناشئ في الأدب نفسه، فإن الوهم الذي يصرف العلماء عن الحكم له لخموله هو بعينه الذي سيصرفهم عن الحكم على غيره لشهرته، وكان الأولى أن يرشده الجاحظ إلى هذا الناقد الذي يتجرد من المحاباة وينظر إلى ما يقال لا إلى ما من يقول، ولا يحكم سوى عقله الصائب وخبرته الأدبية ولكن الجاحظ الذي أخفق في هذا الوضع - وما أقل أن يخفق! - كاد يدلنا على هذا الناقد الذي يصح أن يعتمد عليه، ويركن في الأحكام الأدبية إليه، حينما تعرض لشرح موقف الجمهور في المفاضلة بين بليغين فذكر أن الناس في هذا ثلاثة رجال: رجل يعطى كلامهما من التعظيم والتبجيل على قدر ما لهما في نفسه وموقعهما من قلبه، ورجل يتهم نفسه فيسرف في اتهام من يعظمه خشية أن تكون منزلته عنده قد خدعته في أمره، فالأول يزيد في حقه لما له في نفسه، والآخر ينقصه من حقه لتهمته نفسه.
أما الذي في استطاعته أن يقدر المعاني حق قدرها ويعطي للأشياء قيمتها الحقيقية فهو العالم الحكيم المعتدل المزاج القوي المنة الوثيق العقدة الذي لا يميل مع يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكثر ولكن هل العلم وقوة المنة، والتجرد من الوهم كل شيء في الحكم الأدبي؟ أو بعبارة أخرى، هل من تتحقق لهم هذه الصفات تتشابه أحكامهم الأدبية، ولا تتباين آراؤهم الفنية؟ الحق أن هناك عوامل أخرى تعمل في تكوين الحكم الأدبي، وبقدر وجودها كاملة أو منقوصة تكون قوة الأحكام الأدبية وضعفها وهي: - أولاً: الاستعداد الذاتي - فهناك فضائل في الإنسان يصح اعتبارها مواهب فطرية، كخصب القريحة وصفاء الذهن ودقة النظر ومرونة الطبع.
فمن المؤكد أن بعض العقول تستفيد أو يظهر أنها تستفيد في أيامها الأولى أكثر من غيرها، كما يظهر أنها أكثر انتباهاً ويقظة، وأحفظ لما تستفيد من الجزئيات، وأقدر على تكوين كل منها، وعلى حفظها متفرقة كما هي، ثم أقدر على تهيئ نفسها للإجابة على مطالب الوجود الجديدة والحكم على المسائل المستحدثة، وآية أن هذه الصفات فطرية لا اكتسابية هو أنها قد تتهيأ للمتعلم كما قد تتهيأ للأمي، وقد يحظى بها المهمل كما قد يحظى بها المثقف، ولكن لا ننس أن هذا الاستعداد ليس صفة ثابتة كصلابة المعدن مثلاً، بل يعظم بالمران حتى أنه في استطاعة صاحب الاستعداد تقوية استعداده إلى درجة كبيرة تضؤل بجانبها حاله الأولى ثانيا: النقل بأوسع معانيه - فقل من يستفيد من شعوره وتفكيره الذاتيين، ولكن معظم الناس يستفيد خبرته ممن حوله، وهذا النقل يبتدئ مع الإنسان من يوم ميلاده، حتى أن علماء التربية ذهبوا إلى أن الطفل يتعلم عن طريق حاسة اللمس في أيامه الأولى.
ويروي صمول سميلز (أن أماً سألت قساً عن الوقت المناسب لتربية طفلها الذي كان عمره حينئذ أربع سنين فأجابها: (لقد فقدت هذه السنين إن كنت لما تبتدئي في تربيته) ولكن الواقع أن تربيته قد بدأت بالفعل، وإن توهمت أمه غير ذلك، فالطفل يتعلم بالمحاكاة البسيطة، وهذا التكوين الأولي لخلق الطفل يلازمه طيلة حياته.
ومن هنا صح قول ملتون (الطفولة عنوان الرجولة كما أن الصبح عنوان النهار) ويقوى هذا النقل ويعظم بالتربية المدرسية والإطلاع على أحوال الأجيال الغابرة، وتعرف بالآداب الماضية والحاضرة وهذا العامل مع ما سبقه في تنازع مستمر وتجاذب دائم وهذا التنازع هو الذي يفرق بين الناس، فمنهم ضعيف الاستعداد الذاتي، مستسلم لما ينقل لا يرى رأياً جديداً، ومنهم ناقد لما يختار وقلما يرى رأي غيره، ولا يراه إلا بعد تدقيق وتمحيص.
وعامل النقل ظاهر الأثر في الحكم الأدبي، فرأي القارئ في قصيدة مثلاً مرتبط بكيفية معرفته المعاني العرفية المتعددة لكلماتها وتصورها، وبكيفية ائتلاف هذه المعاني في ذهنه، وبالحد التي تضبط إليه خبرته الذاتية العامة المعنى المركب الذي ألفته هذه المعاني الجزئية.
وهكذا فما يأتي في ذهن القارئ نتيجة مجموعة مبهمة من التأثيرات الخارجية ثالثاً: سلامة الفكر أو النزاهة - وهذه الصفة هي التي تجعل الحكم محكماً وتربط بين العقول، أو بعبارة جامعة تجعلنا إنسانيين.
وأصدق التعاريف لها هو (تقدير كل الاحتمالات الممكنة، وعدم ترجيح إحداها إلا بمرجح) فأي قصيدة مثلاً تقدم نفسها إلينا على أنها محتملة مقاصد كثيرة، وهذه الاحتمالات ميادين صالحة للمران العقلي، وقد يؤثر بعضها في بعض، وما دامت هذه الاحتمالات تنال نصيباً من عنايتنا فإن أحكامنا تكون نسبية في مأمن من الزلل، ونحن حين نفرض كل الاحتمالات الممكنة نكون أكمل في معنى الإنسانية البعيدة عن التحيز منا حين نستبد بفرض واحد بعينه ثم نلتمس له بالبراهين.
ثم الرأي القائم على النزاهة لا يكاد يتسرب إليه الوهن، لأننا قبل الأخذ به نفند ما عداه من الآراء رابعاً: فهم صاحب الأثر المنقود - وهذا يكون بتعرف خلقه وما فيه من لين وقسوة وقوة وضعف.
فأدب القوة ينتجه أديب قوي، وأدب الضعف ينتجه أديب ضعيف، ولا عيب على كل منهما من الناحية الأدبية، فما عيب من يصدر عنه ما يمثل نفسه؟ أما أن يطابق الأدب المثل العليا أو لا يطابقها فهذه مرتبة ثانية والأمة التي تريد أدباً قوياً، عليها أن تعمل على تكوين أدباء أقوياء، وإلا كانت كمن يتطلب في الماء جذوة نار.

ثم لا بد مع هذا من قراءة أعظم قدر من بيان الأديب المنقود، حتى يألف الناقد أسلوبه في التفكير وطريقته في الأداء ولكن لسوء الحظ ينسى الكثيرون هذه العوامل فيتوهمون أنه ليس في الموضوع شيء خارج عن ذات القصيدة الواحدة التي يقرأها القراء فيصورونها صوراً مختلفة، ولكن الحق هو أن اختلافهم بالقياس إلى هذه العوامل هو سبب اختلافهم في كل شيء، حتى تفسير القصيدة وتعيين مدلولات مفرداتها فيه مجال واسع للاختلاف بين القراء تبعاً لاختلاف مؤهلاتهم الخاصة، فمن قرأ كثيراً من شعر شاعر فهم ألفاظه فهماً مخالفاً لفهم من لم يقرأ له أو قرأ قليلا.
وهكذا فكيفية فهم القارئ للقصيدة مثلاً يتوقف على استعداده الذاتي وكيفية تلقيه، وكيفية حيازته للمعاني الاجتماعية الموروثة والفرص التي تهيأت له للاستخدام هذه المعاني منسقة، والبيئة التي نشأ فيها وحاكاها، وتنازع استعداده الذاتي والنقل السيطرة على فكره وغلبة أحدهما للآخر، وما يعرف من خلق صاحبها وشعره، ولأن الحكم الأدبي يتوقف على هذا كله كان أكثر الأحكام تعرضاً للزلل وأقربها من الخطأ ووجب على من يتعرض له أن يحذر حذراً تاماً السيد محمد نوفل بكلية الآداب

شارك الخبر

المرئيات-١