أرشيف المقالات

منكرات الموالد

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
10الكاتب: محمد رشيد رضا __________ نظام الحب والبغض تابع حب القوة..
رابطة المدنية (تمهيد) (ما اجتمع اثنان فأكثر اجتماعًا تراد به المصلحة إلا احتاجوا في انتظام شملهم وتحصيل مصلحتهم إلى ناموس، إما فطري بشيء من التعليم، وإما تعليمي مشوب بمقتضيات الفطرة) لتحفظ هذه الكلمة، فإننا نحسبها أصل الأصول في الأخلاق والشرائع.
ولكن لا يحيط بها سريعًا إلا ذهن الذين سيروا تلك الأصول وسيجدونها عينًا صغيرة تتفجر منها مياه كثيرة أو عينًا صغيرة تنطبع فيها محسوسات كبيرة.
أو مرآة صغيرة تقابلها أشكال متعددة فترى فيها صورها، وأما غيرهم فيناسبهم شرح هذه الكلمة. فافرضوا أن المجتمعين أربعة: امرآن وامرأتان , وافرضوا أن مصلحتهم الأولى من الاجتماع أن يحفروا لهم غارًا ليسكنوا فيه ويأمنوا العوادي من حر وبرد ووحش، ويجمعوا أقواتهم فيه. هذا القدر، افرضوا فقط فإنكم ستروننا نشرح لكم في هذا الاجتماع إجمال كثير مما يدعو علماء الأخلاق والشرائع أن يبحثوا فيه.
وإليكم هذا النموذج من بيان ذلك: (الأول) مما يلزم لأولئكم قبل مباشرة حفر الغار محبة كل منهم ذاته إذ لو كانوا بحيث لا يحب كل منهم ذاته لما كانوا ليقدموا على هذا العمل الذي تحصل به لجميعهم مصلحة لكل منهم حصة من فوائدها.
ولو كان واحد منهم لا يحب ذاته لنكف وحده عن العمل (امتنع أو عدل) فيكون الثلاثة قد خسروه وما خسروا إلا معينًا، ولو نكف اثنان لخسر الآخران معينين ولو نكف ثلاثة لعمت المصائب الأربعة. فأنتم ترون أن حب الإنسان ذاته هو أول ما يلزم للمجتمعين وهو أول ما يبحث فيه فلاسفة الأخلاق؛ إذ هو الأصل الأعظم في صلاح الأخلاق إن صلح، وفي فسادها إن فسد، وهو موجود في الفطرة ولكن لطروء المرض يحتاج لطب التعليم. (الثاني) مما يلزم لهؤلاء محبة كل منهم غيره؛ إذ محبة الغير هي الأصل في تحصيل مصالح الذات وهي الأصل الأعظم في اجتماع المتعددين , ولولاها لكان هؤلاء الأربعة متنافرين متناحرين، لا متضافرين متناصرين. (الثالث) مما يلزم لهؤلاء العدل، ومعناه إعطاء المرء لغيره عدل ما أعطاه أي شيئًا يعادله.
فإذا عمل كل واحد من هؤلاء مثل ما يعمل صحبه كان ذلك من دواعي محبة بعضهم بعضًا ومما يطِد اجتماعهم.
وأما إذا أراد أحد منهم أن يفضل نفسه عليهم فلا يعمل معهم كما يعملون ويريد أن ينتفع بما عملوا، أو أن ينتفع بنصيب هو أكبر من أنصبائهم، فربما أوجب أن ينقموا منه ذلك؛ لأن (بدل الأصل سبب الوصل، وبدل الفضل سبب الفصل) . (الرابع) مما يلزم لهؤلاء الإحسان، ومعناه: رضا النفس بإيجاد الحسن ولو من غير بدل أو ببدل أقل مما هو عدله.
فإذا كان أحد هؤلاء أضعف من الباقين فيحسن بهم أن يحسنوا فيعملوا عمل الأقوياء، ويقبلوا من الضعيف عمل الضعفاء، على أنهم في النصيب سواء وفي الإحسان مباحثات ومحاورات ليس هذا محلها , وربما أتينا بها في محل آخر.
والذي لا خلاف فيه بين المعتدلين هو أن الإحسان لا يجب وجوبًا كالعدل بل يحسن بالإنسان التحلي به وقد يشتد لزومه في المجتمعين القليلين. (الخامس) مما يلزم لهؤلاء المعرفة، إذ كل عمل لا يكون إلا بعلم فإن صلح العلم صلح العمل، وإن فسد العلم فسد العمل.
ومعنى العلم وجدان الذهن: ما هو الشيء؟ أو كيف هو؟ أو أين هو؟ أو لم هو؟ أو متى هو؟ أو كم هو؟ أو بم هو؟ فيلزم هؤلاء أن يعرفوا أين يحفرون؟ وكيف يحفرون؟ وبم يحفرون؟ وكم يحفرون؟ (السادس) مما يلزم لهؤلاء التعريف.
ومعناه: إحضار ما وجده العارف بقوة ذهنه بغير واسطة إلا الإلهام إلى ذهن من لم يجد ذلك بواسطة الدلالات على اختلافها.
ومن البديهي أن الأذهان مختلفة في قبول الفائضات، ولا يتم العمل اللازم للكثيرين إلا بتعليم من علم لمن لم يعلم، ومن ثمة عندما تكثر اللوازم ويقل العالمون بها يعد تعليمها أو تعليم الوسائل المؤدية إليها عملاً عظيمًا يعادل أكبر عمل من أعمال الموجدين للوازم. هذا وبينما كان هَمُّ هؤلاء واحدًا ومصلحتهم واحدة أي تعاونهم في حفر الغار ليأووا إليه؛ إذ حدثت لهم بعد حفر الغار مصالح أخرى منها: حراسة المنزل خشية أن يطرقه طارق من وحش؛ إذا خرجوا جميعًا، ومنها: الاشتراك في تحصيل القوت رجاء أن يكونوا باجتماعهم أقوى إذا انفردوا، ومنها التراضي في أمر الوقاع؛ لأن في فطرة كل من المرء والمرأة اقتضاء الوقاع، وإن ترك هذا الأمر بلا قاعدة بينهم يتراضون بها يؤدي إلى تفرقهم أو تجادلهم أو تذابحهم، وهم أشد من في الأرض احتياجًا للاجتماع والتآلف والتناصر، فهم في هذه المصالح المتعددة (وهي من أولى المصالح) محتاجون الى تدبيرها.
وفي تدبيرها محتاجون على الأقل إلى ثلاثة أشياء: (1) اقتسام الأعمال، و (2) نظام العائلة , و (3) نظام التساكن. فاقتسام الأعمال هو اللازم (السابع) وهو عبارة عن أن يعمل كل واحد عملاً يحتاجه الكل على أن يكون له نصيب في عمل الآخر.
فمن قام في المنزل حارسًا فله حق بما يأتي به من سار للقوت محصلاً. ونظام العائلة هو اللازم الثامن (الثامن) وهو عبارة عن العهد الذي يقيمه المرء مع المرأة على أن يكون كل منهما للآخر زوجًا بشرط كذا وكذا..
على ما يظهر لهما من المعاهدة. ونظام التساكن هو اللازم (التاسع) وهو عبارة عن السبيل الحسن الذي يسير عليه جماعة أقامتهم الحاجة في منزل واحد، ثم بينما هم في حاجة لأفراد آخرين ليتم بهم تعاونهم على مشاق الأعباء التي لا يستطيعون وحدهم تحملها لما يصادفهم من الطوارئ الخارجية كغلبة الوحوش , والداخلية كالضعف بنحو مرض أو تغير قلوب متحدة، أو اختلال نظام عائلة أو نظام تساكن؛ إذ جبر نقصهم، وسدت حاجتهم بالأنسال التي أخذت تتزايد في كل عام. ولكن هل يوجد خير غير مشوب بما يقابله من ضد؟ كلا: إن هؤلاء لما أصابهم هذا الخير الذي هو توفير العدد لإتمام العدد أصابهم في مقابلته شر هو توسع الفرق والتفاوت بين أفراد المجتمعين، فأصبحوا كثيرين بينهم الضعفاء من صغار، ومرضى مثلاً، وأصبح الأقوياء فيهم منهم عارف بقيمة الحي (وإن كان صغيرًا، فإنه يكبر وإن كان مريضًا فإنه يصح) ، ومنهم غير عارف، ومنهم محسن، ومنهم غير محسن، ومنهم واف بالعهود، ومنهم غير وافٍ، وبالجملة أصبحت تلك الوحدة ممزقة، وهاتيك الأوضاع متغيرة، أو ضاق بهم ذلك الوطن الواحد فاضطروا إلى تعديد الوطن وبتعديده انقلب شكل تلك الوحدة فبينما كانوا أربعة يتفكرون بتدبير مصالح لهم مشتركة باتحاد القلوب وتعادل الأعمال إذ صاروا أربعين مثلاً، وبينما كان غار واحد إذ صارت غيران عشرة مثلا. وبينما كان العمال متعادلين صار العمال متفاوتين , وبينما كانوا يضربون في جهة واحدة لتحصيل القوت صاروا يضربون في جهات متعددة، وبينما كانوا يخافون من الوحوش فقط، صاروا يخاف بعضهم من بعض؛ لأنه وجد بينهم غير العادل وغير الوافي بالعهود، ولولا أن وجد هؤلاء لكان مليار من البشر المتناسلين من أولئك المفروضين أولاً على وتيرة واحدة في كل شيء، فلا أريد مليارًا على هذا النحو، ولا مليونًا، ولا مائة ألف، ولا عشرة آلاف، ولا ألفًا، ولا مائة أريد اثني عشر إنسانًا ليس فيهم مخادع. التفاوت بين البشر أمر طبيعي - أي: من جملة سنة الله في خلقه - ومن اقتضاء التفاوت أن يكون التضاد، ومن اقتضاء التضاد أن تكون المنازعات، ومن اقتضاء المنازعات أن يتعاون المتقاربون -في أكثر الأشياء المحسوسة والمنصورة- على المتباعدين عنهم - المتقاربين أيضًا في أكثر الأشياء - ومن اقتضاء الاجتماع تقارب المنازل.
ومن اقتضاء تقارب المنازل اقتسام الأعمال , ومن اقتضاء العدل التراضي بتعيين الحدود والمقادير، ومن اقتضاء التراضي تكون نظام، ومن اقتضاء النظام وجوب حفظه، ومن اقتضاء حفظه إيجاد قوة حافظة له، ولا بد للقوة من مركز ومحور لحركتها، ولا بد من أن يكون هذا المركز حيًّا سميعًا بصيرًا عليمًا مريدًا قادرًا متكلمًا - أي: إنسانًا بالغًا سن الرشد والقوة سالمًا من نواقص الجسد والعقل. انظروا كم ترون في هذه الحالات من حاجات.
كل هذه الحاجات مرت على الإنسان، وكل حلقة من هذه الحلق بقيت محفوظة في هذه السلسلة حتى هذا اليوم , وفي هذه الحاجات والمقتضيات كانت تحدث لهؤلاء المجتمعين القليلين صناعات يتبادلونها فيما بينهم , ويغلب في الظن أن صنع آلات الدفاع والهجوم له حظ من التقدم، ويظهر أن أول ما صنع الإنسان من هذا القبيل - بعد حفر الغيران التي هي معاقل - هو ترقيق شبا الصلد من الحجارة بواسطة حجارة أخرى، حتى يقطع بها ما شاء. ربما صنعت هذه المدى الصوانية لأمر، ثم تبين أن لها نفعًا في أمور أخرى كثيرة، ويظهر أنه بها نجر الشظايا من الأشجار على هيئات مختلفة لمقاصد متعددة، فكان لهم من تلك الشظايا مغزل يفتلون به أوبار الحيوانات التي يصطادونها، وكان لهم منها منسج يجمعون عليه الخيوط المفتولة، حتى تكون كسفًا، وكان لهم منها مخيط يضمون به بعض الكسف إلى بعض ليكون لهم من مجموع ذلك أكسية (يستبدلونها بما كانوا يكتسونه من جلود المصيدات من الحيوانات، أو المنسوج من الأعواد ولحاء الأشجار أو بعض الأوراق) وأخبية (يستبدلونها بما كانوا يختبئون فيه من الغيران الطبيعية أو الصناعية) ، ولا يخفى أن الحاجة كانت هي الدافعة بهم إلى استبدال الأكسية والأخبية المنسوجة من الأوبار بالجلود والغيران؛ إذ الجلود ثقيلة مثقلة للحركة، ولا تفي بستر البدن على الوجه الكافي , وهذه الأكسية الجديدة - التي شرح وصفها - يتكون منها لباس كاف واف بالحاجة.
منه الرقيق والصفيق، ومنه الطويل والقصير , ومنه الصغير والكبير؛ وإذا تراكمت عليه الأوضار كانت تنحيتها متيسرة , وهذه الأخبية الجديدة يتكون منها مآوٍ كافية وافية بالحاجة للظعن والإقامة فإذا استوبلوا أرضًا تركوها ونزلوا فيما استطابوا لا يحتاجون الى حفر مآو جديدة. ومما يغلب في الظن أيضًا أنهم شعروا باحتياجهم لادخار زوائد من المكسوبات اللازمة للقوت والكساء والخباء والزينة، نعم، إن الادخار للمجتمعين لابد منه ليكون بالزوائد المحفوظة غناء يوم لا يغني سعيهم في الكسب شيئًا. وقد سمي الزائد المدخر - في لغتنا - مالاً كأن أهل هذا اللسان سموه بهذا الاسم المشتق؛ لأن النفوس تميل إليه بالفطرة أو بحسب التجربة والاحتياج , وهم يقولون لمن حوى مكسوبات زائدة تمول. ...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
(ع.
ز)
((يتبع بمقال تالٍ)) __________

شارك الخبر

المرئيات-١