أرشيف المقالات

عهد زاهر!

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 نشرت الصحف أخيراً بعض إحصاءات عن التعليم في مصر؛ ومنها يستفاد أن التقدم مضطرد في عدد المدارس وعدد الطلبة، ولكن ذلك يلفت النظر بنوع خاص ما ورد فيها عن حالة التعليم الأولى؛ وذلك أن المكاتب والمدارس المخصصة لهذا النوع من التعليم لا يتجاوز عددها في مختلف أنحاء القطر ألفين ومائة، فيما نحو 850 ألف تلميذ وتلميذة.
ومعنى ذلك أن الذين يتلقون التعليم الأولي في هذه البلاد لا تزيد نسبتهم على خمسة في المائة من مجموع السكان؛ فإذا علمنا أن باقي المتعلمين على اختلاف طبقاتهم لا يتجاوز عددهم أيضاً نحو أربعة أو خمسة في المائة، استطعنا أن نقدر إلى أي مدى ما زالت الأمية تفتك بعقول الشعب المصري. لقد اعتدنا في العهد الأخير أن نسمع نغمة ما تزال تتردد في كل فرصة، لمناسبة وغير مناسبة، هي أن مصر تجتاز في ميدان التعليم والثقافة والآداب عهداً زاهراً لم تبلغه من قبل في أي مرحلة من مراحل تاريخها، وأنها تظفر لأول مرة في تاريخها بجامعة مدنية كبرى وجامعة دينية، ومجمع علمي، وطائفة كبيرة من المعاهد والمدارس الفنية، والجماعات العلمية المختلفة.
ولقد بولغ في ترديد هذه النغمة، وإذاعة هذه الدعوة، حتى كادت تطمس الحقائق، وحتى كدنا نؤمن بهذا التمويه، وننسى ما يعتور سير التربية والتعليم في هذه البلاد من ضروب النقص والضعف والفساد. نعم، لقد زاد عدد المدارس والطلبة زيادة كبيرة، والتعليم يتقدم من حيث العدد بلا ريب، ولكن هل يتقدم التعليم من حيث النوع؛ وهل ارتفع لدينا مقياس التربية والثقافة عما كان عليه منذ جيل؟ لقد كان التعليم قبل الحرب آلياً يخرج لحكومة تسيطر عليها إرادة المستعمر عمالاً خاضعين لا رأي عندهم ولا شخصية لهم؛ وما يزال التعليم يصطبغ في عصرنا بهذه الصبغة الخطرة، صبغة العقم وفقدان الشخصية؛ وشأن المتعلمين شأنهم بالأمس في التطل إلى الوظائف حتى بلغ تهافتهم عليه حداً يدعو إلى الرثاء؛ وهم في الحياة حيارى لا عزم لهم، لأنهم لم يتلقوا من صنوف التعليم ما يسلحهم بمثل هذا العزم، أو يمدهم بتلك الشخصية التي تصمد لمصاعب الحياة العملية ومتاعبها، وتستغل معارفها ومواهبها استغلالاً صالحاً منظماً. وفي مصر جامعة مدنية كبرى، وجامعة دينية كبرى لها ماض مجيد؛ ولكن هل نتمتع حقاً بالتعليم الجامعي؟ وهل استطعنا أن نخلق فيهما تلك البيئة العلمية الرفيعة، وتلك الحرية الفكرية، وذلك الاستقلال في البحث، وهي أسمى المزايا الجامعية؟ إن الجامعة عندنا اسم على غير مسمى؛ وليست في الواقع أكثر من مدرسة عادية، تخضع لكل ما تمليه أهواء الذين يرون في الاستعباد الفكري وسيلة ناجعة لتدعيم الاستعباد السياسي. ولدينا حقاً مجمع علمي للغة العربية، ولكن هل يثير ذكر هذا المجمع وظروف تكوينه غير الابتسام؟ وهل نذكر قصة إنشائه إلا على أنها لون من ألوان ذلك الطلاء الخلاب الذي يعتمد على الأسماء دون المسميات. ولدينا جماعات علمية ذات أسماء ضخمة، ولكنها أجنبية في روحها وغايتها، وهي قلما تعني بأعمال علمية خطيرة، ولا تعني إلا بإذاعة ما يوحي إليها به من الدعايات. وفي كل عام ننفق عشرات الألوف على بعثات الطلبة خارج القطر؛ ولدينا الآن من خريجي هذه البعثات ألوف من خيرة الشباب المثقف المتخصص قي مختلف العلوم والفنون؛ ولكن هل استطعنا أن نستغني بهم عن أولئك الأجانب الذين ينبثون في كل فروع الحكومة، ويستأثرون بأرفع المناصب بحجة أنهم خبراء وفنيون؟ الواقع أن هذه النهضة العلمية تقوم على كثير من العوامل المصطنعة والمظاهر الخلابة، وينقصها كثير من المزايا الحقيقية؛ فهي أشد ما تكون ضعفاً من الناحية الوطنية، وما زالت خاضعة لكثير من المؤثرات الأجنبية التي لا تتفق في كثير من الأحيان مع الغايات القومية؛ وهي مازالت من الناحية العملية قاصرة عن أن تجعل من الشباب المتعلم عمالاً نافعين لأنفسهم وللوطن.
ومن الأسف أن المظاهر هي في كثير من الأحيان كل ما يعنى به، وأن الأسماء الرنانة هي كل ما يهم ذكره وتعداده.
وقد ذهبنا بعيداً عن التشبث بهذه المظاهر والتهويل من شأنها، وغفلنا عن معالجة أوجه النقص الحقيقية.
ويكفي لأدراك هذه الحقيقة أن نذكر أن البلاد بعد هذه الجهود كلها ما زالت تتخبط في ظلام الأمية، وأن مصر بعد عشرة أعوام من تنفيذ مشروع التعليم الإلزامي لم تستطع أن تنقذ من الأمية المطبقة أكثر من أربعة أو خمسة في المائة من بينها. لقد آن الوقت الذي يجب أن نستعرض فيه مظاهر حياتنا على حقيقتها، وأن نقدر أوجه الخير والنفع فيها قدرها الصحيح؛ فليس من العار أن نعترف بأننا في منتصف الطريق أو مستهله؛ ولكن الخطر أن نزعم أننا حققنا ما لم نحقق، ومن الخطر على بنائنا القومي أن نؤمن بما ليس منطبقاً على حقيقتنا ولا هو حتى من مظاهر نهضتنا. (ع)

شارك الخبر

المرئيات-١