أرشيف المقالات

مهرجان الحرية

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 تحتشد مصر اليوم في عاصمتها القاهرة لتحتفل بذكرى يوم الحرية بعد نصف عام! ويوم الحرية أو يوم 23 يوليو سنة 1952 هو يوم مصر الأوحد في تاريخها العريق في العبودية، العميق في الأوتقراطية، منذ أن رفع (مينا) إلى العرش، إلى أن خلع (فاروق) من الملك. كان الشعب المصري طيلة هذه القرون الاثنين والأربعين التي مرت على وجوده في هذه الأرض، أشبه بقطيع من السوائم، لا إرادة له في نفسه، ولا قيادة له من جنسه؛ وإنما كان يتولى قيادة رعاة طغاة، سموا أنفسهم آلهة أو ملوكا أو ولاة.
سخروه ليظلموه، واستغلوه ليحرموه.
ولم تعصيه هداية الدين من عبث خليفة كالحاكم، ولا مدينة العلم من فجور ملك كفاروق؛ حتى اجتمع على إذلاله واستغلاله في عهده الأخير، ما لم يجتمع عليه في دهره الطويل، من سلطان العواهر من نساء البلاط، وطغيان الفجار من رجال الحكم، وبغي المترفين والمسرفين من الأمراء والإقطاعيين رواد وعباد المنكر.
فعصفت النخوة في رؤوس الأحرار من قادة الجيش، فهبوا هبوب العاصفة الخيرة المدركة: صواعقها الماحقة للقصور الطافحة بالرذيلة، وللكرسي الغائصة في الوحل؛ ورياحها العاتية للجذور التي نخرها السوس، وللفروع التي أصمها الهوى، وللبصائر التي أعماها المال؛ ويروقها الوامضة للقلوب التي أظلمت من الياس، وللنفوس التي زاغت عن الطريق؛ وأمطارها المحيية للثرى الذي جف فلا ينبت، وللشجر الذي ذوي فلا يثمر. وهكذا عاشت مصر في خيرة هذه العاصفة المعمرة المصلحة ستة أشهر اندفعت فيها إلى الأمام اندفاع القوة المضغوطة المكظومة: تنفجر انفجار البارود فتمحق، وتنطق انطلاق السهم فتلحق!. فإذا احتشدت مصر كلها بطبقاتها وطوائفها لهذا المهرجان فإنما تحتشد لتحتفل بتحررها من رق أغرق في القدم حتى طمس في نفوسها معاني الحرية والعزة والاستقلال والكرامة!. وشتان بين هذا المهرجان ومهرجانين أقيما من قبل: مهرجان يوم تزوج المخلوع بإرادة شعبه، ومهرجان يوم تزوج بإرادة قلبه.
كان هذان المهرجانان من صنع السيادة والقوة، أنفقت فيهما مئات الألوف من أموال الأمة لتغرق القصور الملكية في القصف وللذة، وتمتلئ الخزائن الملكية بالذهاب والماس! وافترضت الحكومة (الملكية) هذه القرص لتنحني أمام الطاغوت انحناءه العبودية حتى يمس أنفها الأرض، فحشدت الشعب في شوارع العاصمة ليهتف وهو جائع، ويرقص وهو عريان؛ وتركته يهيم في الطرق والميادين هيام القطط الجياع والكلاب الضالة؛ لا يجد في نفسه فرحة المعرسين ولا متعة المدعوين ولا بهجة العرس!. أما هذا المهرجان فمن صنع الطبيعة والأمة.
إقامة الخارجون من ظلام الظلم، والناجحون من إسار الرق، كما تقيم الطبيعة مهرجان الربيع لخروجها من ظلام الشتاء ونجاتها من همود الأرض.
فكما يورق الشجر ويزهر، وينضر الزهر ويفوح، وتمرح الطير وتهزج، ترى الشعب من ذات نفسه يبتهج ويفوح، ولإطراب نفسه يغني ويرقص، ولإطراء نفسه ينشد ويهتف!. ذلك لأنه بات ذات ليلة ثم أصبح فإذا هو صاحب العرش وصاحب الجيش وصاحب الحكم وصاحب الثروة! نام وهو لاشيء، ثم استيقظ وهو كل شيء! لقد استطاع في هذه اللحظة القصيرة من عمره الأطول أن يضع هذا النير الثقيل عن كاهله الواهن بعد أن مكن له الرق المزمن بين اللحم والعظم والعصب!. كان قد ألف نير العبودية كما يألف الثور الذلول نير المحراث فلم يفكر في الانعتاق منه؛ إلا مرة واحدة حاول أن يفلت فيها من قيده فعجز.
كان هذا النير فرعا غليظا من هذه الشجرة الملعونة درعه الإنجليز بالحديد والذهب، فشق على عرابي الثائر الأول أن يحطمه.
ثم عظم وضخم بفضل الأفظاظ الغلاظ من أولى الأمر في عهد الخليع الرقيق، حتى رزحت الكواهل وخرت الأعناق، وحسب الناس حتى المتفائلون أن الليل سرمد، وأن الرق خلود، فقروا على الضيم واستكانوا للهون.
وكادت مصر كلها تسقط بسقوط فاروق ومن على دين فاروق لولا أن نبه الله للخطر رهطا اصطفاهم من رجال القيادة، فنفخوا في الصور فنهض الجيش وانبعثت الموتى.
وقاد الشعب محمد نجيب وأصحابه في معركة التحرير والتطهير، فحرروا الأمة من النير الباهظ، وطهروا الوطن من الفساد الشامل؛ وعمدوا إلى أوكار الأفاعي وأجحار الذئاب فقوضوها على الأذى والجريمة.
ثم فتحوا أبواب الرزق المحتكر أو المغتصب فتدفق على أهله المحرومين منه المكدودين فيه.
ثم لخصوا دين الله في ثلاثة أمروا هبا، وهي العدل والإحسان والمؤاخاة؛ وثلاثة نهوا عنها، وهي الفحشاء والمنكر والبغي؛ وثلاثة عملوا لها، وهي الاتحاد والنظام والعمل؛ ثم جعلوها كلها مبادئ (لهيئة التحرير) التي أعلنوا ميلادها اليوم في مهرجان الحرية و (ميدان التحرير)!. فمن حق الشعب إذن أن يقيم هذا المهرجان العظيم مزهوا بجهاده، فخروا بقواده، معبرا بهتافه المرتفع، وتصفيقه المدوي، وحماسه المتقد، وسروره الدافق، عن اطمئنانه الواثق إلى حاضره المستقر، وعن أمله الفسيح في مستقبله المشرق. أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢