أرشيف المقالات

الأدب واللغة من الكائنات الحية

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 للأديب محمد عثمان الصمدي - 3 - كان هذا كله لأن الذوق الأدبي كان قد تعقد وأصبح موضوعيا إلى أبعد حد، فلا يرضى إلا عن الخصب والغزارة.
وهو لهذا يضغط المعاني حين يتذوقها أو يتفهمها ضغطا شديدا.
ويختصرها نافيا منها ملم يكن في الجوهر ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وقد يكون من الملائم هنا أن نلم بقول للجاحظ إزاء بيت من شعر أبي نواس وهو وصف كأس. قرارتها كسرى وفي جنباتها ...
مهاً تدريها بالقسى الفوارس قال: (نظرنا في شعر القدماء والمحدثين فوجدنا المعاني نقلت.
ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة (وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نواس (قرارتها كسرى) الخ البيت)
. وليس يعنينا من قول الجاحظ أسرق المحدثون من القدماء أم لم يسرقوا.
.
بقدر ما يعنينا نظره إلى المعاني.
فهي مهما تلونت وتشكلت وظهرت في أثواب وصور مختلفة متباينة فلن يحول ذلك كله بينها وبين رجوعها إلى مصادرها.
أو بينها وبين ذوي قرباها وكل ما تمت إليه بسبب قريب أو بعيد.
وما من شك في أن ليس للجاحظ وأمثاله من المثقفين مصدر يحملهم على هذا النظر إلى المعاني إلا ما أشرنا إليه من قبل من الفهم الإجمالي.
هذا مع اعتقادنا أن الجاحظ قد أسرف إسرافا شديدا حين عزاها كلها إلى النقل والسرقات. وكذلك روى أن وراية مسلم بن الوليد وفد على يزيد ين مزيد بقصيدة مسلم المشهورة التي مطلعها. لا تدع بي الشوق إني غير معمود ...
نهى النهى عن هوى الهيف الرعاديد فلم يسمح له حاجب يزيد بالدخول.
ولكنه عاد فاشرط قبل أن يسمح له بالدخول على يزيد أن ينشده القصيدة.
وكان كما قيل للحاجب أدب وفهم.
فأنشده القصيدة أو شيئا منها ثم أذن له. ويهمنا في هذا الخبر أن نتبين إلى أي مدى قد مجت الأذواق والأسماع الكلام المكرور.
أو بعبارة أدق قد مجت المعاني المكرورة في أثواب غير الأثواب، وفي صور غير الصور. فهي لا تخدع بما تعرض فيه المعاني من تغيير للوزن والقافية.
ومن تلوين وتصوير.
ولكنها كما قلنا تفهم ما يلقى إليها على وجه الإجمال، فإن ظفرت بالطريق المبتكر على هذا النحو في الفهم كما ظفر حاجب يزيد فذاك، وإلا فلا. وقد كان بودي أن أنقل طرفا من النثر الفني لذلك العصر.
ولكني أجتزئ بالتنويه إلى أنه موجز شديد الإيجاز، قد اصطنعت كل الوسائل الفنية لضغطه وتركيزه ووجازته، حتى ليبدو غامضا أو كالغامض في كثير من الآثار.
وهو لهذا منطفئ الأديم باهته لا يترقرق عليه بماء.
وليس من شك في أن ما آل إليه النثر الفني هو طور طبيعي، وأثر من آثار استجابته للحياة ككل كائن حتى يتأثر بها ويؤثر فيها.
ونحو هذا تحديد بعض المعاني على ضوء المعرفة النحوية، كما تقول حين تريد التعظيم: (إنا أرسلنا إليك الكتاب) وقد كان حسب المرسل إليه أن يفهم أن الكتاب قد صار إليه والسلام.
ثم لا يعينه التعظيم في كثير ولا قليل، بل لم يكن يخطر على بال.
ولقد رأينا من اجل ذلك عالما كبيرا كابن قتيبة يشكو أحر الشكوى مما انتهت إليه اللغة في ذلك العصر.
ثم يؤلف للناس ما ينفعهم في هذا السبيل، وما يقوم من أيديهم وألسنتهم، وما يبصرهم بدقائق اللغة، ويحدد لهم ما في مفرداتها من فروق.
وحسبنا أن نشير إلى هذه العبارة له حيث يقول: فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين.
ولأهله كارهين.
أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم.
والشادي تارك للازدياد.
والمتأدب في عنفوان الشباب ناس أو متناس ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين. ولفظة الأدب في عبارة أبن قتيبة تعني اللغة وعلومها.
فلم يكن لفظ الأدب قد تطور إلى ما نفهمه منه في عصرنا الآن.
وكذلك لم يكتف أبن قتيبة بما عاب به آهل زمانه من جهل باللغة وعلومها، بل عاب به أيضا: الأدباء وكتاب الدواوين.
وأولئك كما يقول الجاحظ خير ممن سواهم علما وبصرا وكتابة.
.
قال أبن قتيبة: (فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف.
وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتا في مدح قينة أو وصف كأس)
. وكذلك يقول في كتاب الدواوين أيضا: (وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه. وارتضاه لسره.
فقرأ عليه يوما كتابا وفي الكتاب (ومطرنا مطراً كثر عنه الكلأ) فقال له الخليفة ممتحنا له: وما الكلأ.
فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال: لا أدري)
نعم ضعف العلم العام بمدلولات اللغة، وأصبح الناس يفهمون ما يلقى إليهم على وجه الإجمال، ذلك لأن العقل كان قد سيطر على مصير النثر والنظم.
فهو قد هضم كثيرا من ألوان الثقافات، بل لقد أصبح خالقا لها بالقدر الذي أهله له تطوره ونموه بالقياس إلى ما أتاحته له الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية من حرية وانطلاق.
ولقد بلغ من سيطرة العقليان على النفوس أن صار التشدق مصطلحات الفلسفة والمنطق في الأندية والمجتمعات ظرفا وكياسة.
وليس ذلك فحسب؛ بل لقد أراد أصحاب المنطق إلى الشعراء أن يشعروا على نحو من حدود الفلسفة والمنطق.
هذا وليس رد البحتري على أولئك النفر بمجهول لدى أحد من الباحثين والأدباء.
ومن قوله: كلفتمونا حدود منطقكم ...
والشعر يغنى عن جده كذبه وبالرغم من البحتري، وبالرغم من كل شيء سرت العقليات إلى الشعر سريانا قويا.
حتى ليبدو شعرا بن الرومي في عمومه رواسب عقلية تارة.
وجدلا كلاميا تارة أخرى.
والبحتري نفسه هو أعظم (موسيقار) في الشعر خلص العقل إلى أدبه في أماديحه الضعيفة التي كان يلفقها لأولئك الذين ليست لهم مآثر خليقة بالذكر والتسجيل.
فقد كان يستمدها من العقل حينا، ومن التراث الأدبي حينا آخر.
وهو مالا نجد له مثيلا في نضوب الروح فيما سلف من شعر أموي على نحو عام.
ورأيي - ولعله أن يكون من الغرابة بمكان في أنفس بعض الناس - أن أماديحه في الخلفاء بوجه عام أضعف من مثيلاتها في القواد والحكام وملوك الأطراف. وعدا هذا فقد كانت له تأملات شعرية يغلب عليها العقل الخالص دون سواه، ومنذ أن استأثرت العقليات بالسيطرة على الأفئدة والنفوس، تطلع الناس إلى آفاق من المعرفة لم تكن معروفة من قبل.
وهذا طور تتحجر معه اللغة، وينظر إليها على أنها وسيلة وليست غاية من الغايات.
ولا تبقى لها منزلة الغاية إلا في أنفس المختصين أمثال أبن قتيبة ومن لف لفه من اللغويين والنحاة.
وأحب ألا يفهم أحد أن اللغة قد اندثرت وأصبحت أثراً من الآثار في ذلك العهد.
كلا.
فما إلى هذا أردت، وإنما أقصد إلى سنة التطور، وإلى أن تيارين من المعرفة قد تعارضاها فأيهما كانت روافده أقوى، ودوافعه أشد، كتب له الظفر، وأصبح سمة من سمات العصر يتميز بها من سائر العهود والعصور.
وقد كان إلى جانب اللغويين والنحاة تلك البيئات الأرستقراطية التي انحدرت من أصول عربية خالصة.
فهي تعمل على المحافظة على تراث العرب وإنمائه لأنه من مقومات الشخصية العربية في ذلك الحين.
وإن يحل بينها وبين الأخذ بأسباب الحياة الجديدة في ذلك الحين أيضاً ولكن هذا شيء وروح العصر شيء آخر. ومازال العقل يقوى سلطانه ويشتد، حتى ينتهي الأدب إلى شيخوخته في العهد العباسي الثاني.
وهنا يتغلغل العقل والفلسفة في الأدب تغلغلا تاما، إذ إنه كان قد تمثل ما هضم من الثقافات، وأحالها إلى أثر من آثاره.
ويكفي أن ننظر إلى أبي الطيب المتنبي وإلى أبي العلاء المعري فهما مظهران صحيحان لذلك العصر.
وإنما كانا كذلك لأنهما الشاعران اللذان تثقفا بثقافة العصر تثقفا تاما.
نعم يكفي أن ننظر إلى هذين الشاعرين لنرى إلى أي مدى تأثر الإنتاج الأدبي بالعقل والفلسفة.
وهنا نقطة التحول كما يقولون.
وأقف لأسأل القارئ هذا السؤال: إلى أي طور كان يمكن أن يتطور إليه الأدب بعد أن بلغ هذه المرحلة؛ مرحلة العقل؟ أما أنا فأرى أنه أدركته الشيخوخة، وما بعدها غير الموت.
فالشعر وهو أعظم مظهر له لا يحتمل من المعاظلات العقلية أكثر مما أحتمل على يدي أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء.
ولولا ما كان للدين من سلطان لكان من المحتمل أن يتطور الشعر فيه إلى الملحمة.
وكنه لم يقع، لأن الملحمة أرقع ما تكون حين تستمد موضوعاتها من الأساطير الوثنية تعالج عليها كثيراً من مشكلات النفوس والعقول والاجتماع في مختلف البيئات والطبقات.
وقد قال باحث أن رسالة الغفران للمعري ضرب من الملحمة على نحو من الأنحاء.
.
ولكن مع هذا هل استطاعت رسالة الغفران التخلص من أغلال الدين؟ من الحق أنها لم تستطع.
وما كان لها أن تستطيع. وإلى هنا نرى من الخير أن نشير إلى ما قاله الباحث الذي ألممنا به في أول البحث.
وهو أن اللغة لم تبال بما رزئت به الدولة من تدهور سياسي في القرن الرابع الهجري.
وأنا أيضاً أقرر أنها لم تبال.
ذلك شعلة الأدب لم تكن قد انطفأت بعد.
ولأنها كما قلنا كائن حي لم يكن قد استنفد حياته.
ولم تكن شعلة هذه الحياة قد أتت على كل ما قدر لها من وقود.
بل ربما كانت أشد توهجا مما كانت عليه في العهد السابق.
شأنها في ذلك شأن الخفقة الأخيرة في السراج. ولقد يبدو لقصيري النظر أن تعليلنا هذا بسيط بل ساذج.
ولكنهم لو ذكروا أن الأدب كائن حي كما بينا آنفا لبدا لهم غير ما يظنون.
ونحن ما سقنا هذا البحث من أوله إلى هذه المرحلة؛ وما طرأ على الأدب في أثناء ذلك من تحول وتطور، إلا ليكون كله تعليلا لها.
ولننتهي آخر الأمر إلى ما انتهينا إليه من نتائج طبيعية محتومة ليست في حاجة إلى تعليل ولا تحليل.
وغلى هذا فقد كان أمام اللغة طور لم يفض بعد إلى غايته، وهو طور الفقه فيها وفلسفتها وتدوينها على نحو أوسع شمولا وإحاطة؟ ومما يزيدنا يقينا بأن الأدب لذلك العهد في الخفقة الأخيرة ما نراه عند شعراء البيئات العربية الموسومة بالمحافظة وعند أشياعها من مغازلة لبعض الألفاظ اللغوية.
وإحساسها بها إحساساً شعريا خاصا.
وهو طور الشادي المبتدئ الذي يرى في بعض ألفاظ اللغة رنينا وسحراً أخاذاً قويا.
أما الفحل فيرى اللفظ مهما عذب وحسن موقعه في السمع فإنه يستمد قوته وجماله من السياق.
وأجدر هؤلاء المغازلين للألفاظ بالذكر في نظرنا الشريف الرضى.
ولننظر إلى بيته التالي. يا قلب ما أنت من نجد وساكنه ...
خلفت نجداً وراء المدلج الساري فإن نجدا وساكنه والمدلج والساري كلها ألفاظ لها إيحاءات خاصة بالشريف الرضى وبأمثاله من الشعراء.
ولكن البيت برغم هذا كله قوي رائع.
ومصدر روعته فيما أرى أنه حقق المزاج العربي، وما يهدف إليه من شجو وشجن.
وإلى هذا فقد حقق غنائية النظم أيضا.
وليست هي غنائية الفطرة والسليقة التي ألمعنا إليها في العصر الأموي.
وقد يقال إن الشريف الرضى يرمي من وراء الألفاظ إلى مدى أعبد مما نقول.
وق يقال إنها عناصر التقليد المنحدرة من التراث الأدبي القديم.
وقد يقال غير هذا وذاك.
ولكن بشيء من التدقيق لا يسعنا آخر الأمر إلا أن نسلم بما نوهنا به.
وقد قلنا من قبل إن الشعر في العصر العباسي الأول كان في عمومه مجرد فن فقط.
وفي العصر الذي نحن بصدده قد تطور هذا الفن.
وما ظنك بشاعر يقول مقطوعة من الشعر في الغزل ليست بالقصيرة، ثم لا تخرج منها بشيء إلا أن الشاعر يريد أن يقول لمن يغازله (أنت قمر).
وأنا أفهم أن هذا من أغراض الفن.
ولكنه تطور على كل حال.
وما بعد ذلك غير التفكك والانحلال.
وانتقال الشعلة من أيدي الأدباء والشعراء إلى أيدي المفكرين والفلاسفة. أما بعد.
فهذا رأيي أسوقه لوجه الحقيقة كما أعتقد.
غير مبال سخط الناس أو رضوان. تمت محمد عثمان الصمدي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن