أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 الشيطان للكاتب الفرنسي جي دي موباسان كانت المرأة العجوز مسجاة على فراشها وهي تعالج سكرات الموت، وترقب من بين أهدابها المرهقة أبنها وهو منتصب أمام طبيب القرية وتحاول بكل ما أوتيت من قوة وإحساس أن تتبين ماهية الهمس الذي كان يدور بينهما.
كانت هادئة ساكنة رغم ثقتها من أنها ستموت عن قريب.

ولكنها كانت مستسلمة للواقع الملموس.

فهي قد أكملت الثانية والتسعين من عمرها.

وهذا يعني أنها قد أتمت رسالتها في الحياة. وتخللت شمس يوليو النافذة.

وغمرت أشعتها الملتهبة أرض الغرفة وارتفع صوت الطبيب قائلاً بشدة: - إنك لا تستطيع أن تترك أمك وحيدة يا (أونوريه) وخصوصاً وهي في مثل تلك الحالة فهي قد تموت بين آن وآخر وأجاب أونوريه بقلة اكتراث: - مهما يكن المر.

يجب على أن أذهب لحصاد الحنطة.

وهاهو ذا الجو الملائم لذلك.

ماذا تقولين في ذلك يا أماه؟ وبرغم شعور المرأة برعشة الموت وهي تسري في جسدها.

فقد شارت إلى أبنها بالموافقة وهي تحت تأثير جشعها وعبادتها للمال. وضرب الطبيب الأرض بقدمه محنقاً وهو يهتف: - ما أنت إلا وحش غليظ القلب.

ولكنني لا أسمح لك أن تفعل ذلك.
.
هل فهمت؟ أن كان عليك حقاً أن تحصد حقل الحنطة فلا أقل من استدعاء المرأة (رايت) للعناية بأمك وأنا أصر على ذلك.
.
أما إذا لم تفعل ما أشرت عليك به.
.
فسأتركك تموت وحيداَ كالكلب الأجرب إذا ما افترسك المرض بأنيابه وحانت منيتك.
.
فتذكر ذلك. أي أحاسيس وجلة خالجت مخيلة أونوريه في تلك اللحظة؟ لقد كان يخاف الطبيب الوحيد في القرية، ولكنه إلى جانب ذلك كان يعبد المال ويقدسه؛ وتردد قليلا قبل أن يسأل الطبيب في النهاية قائلاً بارتياب: - وكم تطلب المرأة رابت أجراََ للعناية بأمي؟ وتمتم الطبيب: وأني لي أن أعلم.
.
إنها تتقاضى أجرها بالنسبة للزمن الذي تعمل فيه.

فما عليك إلا أن نتفق معها شخصياً.

وإنني أنذرك أنني أريد أن أراها هنا قبيل مرور ساعة واحدة - حسن.
.
يمكنك أن تطمئن أبها الطبيب.
هأ نذا ذاهب إليها. وغادر الطبيب الغرفة بعد أن قال للشاب بلهجة تهديدية متوعدة: - مرة أخرى.

إنني لست هازلا في تحذيري لك إياك وحين انفرد الشاب بأمه التفت إليها قائلاً بلهجة المغلوب: إنني ذاهب لاستدعاء الأم (رابت) كما أصر على ذلك هذا الغر.
.
فكوني هادئة حتى أعود، ودون أن ينتظر إجابتها غادر الغرفة. كانت الأم (رابت) امرأة عجوزاًتشتغل بكي الملابس وتنظيفها.

وإلى جانب ذلك تعمل كممرضة لقاء أجر معلوم، وكان وجهها مجعداً كتفاحة معمرة.

وهي حقود حسود.

ذات طبع حاد لا يمكن أن يمت للرحمة البشرية بصلة. وحين استقبلت أونوريه في منزلها.

كانت منهمكة في مزج بعض الألوان لصبغ ثياب بعض فتيات القرية فبادرها قائلاً: - كيف حالك أيتها الأم رابت؟ هل الأمور في طريقها العادي؟ والتفتت إليه المرأة مجيبة: - نعم , نعم.
.
شكراً.
.
كيف حالك أنت؟ - على أحسن حال.
.
إنها أمي التي تشكو - أمك؟! - نعم أمي - وما خطبها؟ - إنها في طريقها نحو الأبدية وهذا كل ما هنالك - هل بلغ بها سوء الحال هذا الحد؟ - لقد قال الطبيب إنها لن تعيش حتى الضحى - إذاً ربد أن تكون انتهت الآن؟ - وتلعثم أونوريه قليلاً.
.
فكانت المرأة أشد منه دهاءً.
.
فلم يجد من مفاتحتها مباشرة بقوله: - كم تأخذين للعناية بأمي حتى النهاية؟ إننا يائسون من التحسن كما تعلمين.
.
لقد كانت تعمل كفتاة في العاشرة رغم بلوغها الثانية والتسعين. وأجابت الأم رابت في اقتضاب وتحفظ: - إنني أتقاضى سعرين.
.
فللأغنياء.
.
فرنكان لليوم وثلاثة لليل.

أما الفقراء.
.
ففرنك واحد لليوم واثنان لليل.
.
وسأعاملك كالفريق الثاني: واحد واثنان. وراح أونوريه يفكر.
.
أنه يعرف أمه تماماََ.
.
ويعرف مقدار مقاومتها للمرض،.
فلربما عاشت أسبوعا آخر رغم زعم الطبيب بموتها العجل، فأجاب المرأة قائلاً: - كلا.
.
إنني أريد أن أكافئك إجمالياً لإتمام المهمة.
.
أنه نوع من المقامرة.
.
فلقد أكد الطبيب أنها ستموت حالاً.
.
فلو تم ذلك فسيكون ذلك أقل ربحاً لك وأقل خسارة لي. ونظرت إليه الأم رابت بدهشة.
.
فلم سبق لها أن عاملت محتظراً بعقد.
.
وترددت لحظة.
.
وفجأة راودتها فكرة الخداع فأسرعت قائلة: - لا يمكنني الموافقة على ذلك حتى أرى أمك - إذن.
.
هيا بنا لرؤيتها وجففت المرأة يديها م تبعته صامتة طوال الماشية وهي ترعى الكلأ، فتمتم أونوريه: اطمئنوا.
.
فستأكلون القمح الجديد عن قريب. ولم تكن المرأة العجوز قد ماتت بعد.
.
بل كانت مستلقية على ظهرها، وقد امتدت يداها فوق غطاء الفراش الملون وقد بدا عليها الضعف والهزال.
واتجهت الأم رابت نحو الفراش ثم حدقت في المرأة المحتضرة وتحسست بنفسها ثم مرت بيدها على صدرها وهي تصغي لصوت تنفسها الخافت الذي يشبه النزع، وألقت عليها بضع أسئلة حتى تتأكد من ضعف صوتها؛ ثم غادرت الغرفة بعد ذلك الامتحان يتبعها أونوريه.
كان رأيها الشخصي أن المرأة لا يمكن أن تستمر على قيد الحياة حتى المساء وسألها أونوريه بلهفة: والآن؟ وأجابته المرأة بخبث: - ستعيش يومين وربما ثلاثة أيام.
.
وسأتقاضى منك ستة فرنكات. وردد أونوريه قولها: ستة فرنكات؟ الله.
.
ست فرنكات كاملة؟ هل جننت أيتها المرأة؟ سوف لا تعيش إلا خمس أو ست ساعات على الأكثر. واشتد الجدل بين الرجل والمرأة.
.
وأصرت المرأة على الرحيل.
.
فتخيل أونوريه حنطته في انتظار الحصاد، فلم يجد بداً من الخضوع وتمتم مستسلماً: سأعطيك المبلغ على أن ينتنهي الأمر كلية مهما طال أمده. وأوسع خطاه نحو الحقل.
.
في حين رجعت الأم رابت إلى حجرة المريضة وهمست قائلة لها: لاشك انك تريدين الاعتراف يا مدام بونتمبس؟ وأشارت مدام بونتمبس برأسها إيجاباً.
.
فنهضت الأم رابت بسرور ونشاط وهي تهتف يا إله السماوات.
.
سأذهب لإحضار القس وأسرعت المرأة في طريقها نحو القس.
.
وعادت معه وهي تضطره إلى الإسراع غير عابئة بدهشة الرجال الذين ينظرون إليهما باستغراب، ولا بنظرات النساء اللاتي كن يرسمن علامة الصليب على صدورهن.
ورآهن أونوريه عن بعد.
.
فتساءل عن سبب إسراع القس، وما كان أسرع جاره في الإجابة عليه قائلاً: أنه سيتلقى اعتراف أمك دون شك. ولم يساور أونوريه العجب لذلك.
.
بل واصل الحصاد في هدوء وتلقى القس اعتراف مدام بونتمبس.
ثم غادر المكان.
.
ومرة أخرى أصبحت المرأتان على انفراد وابتدأت الأم رابت تفقد صبرها وهي تعجب كيف أن المرأة لم تمت حتى الآن. وشحب لون النهار.
.
وازدادت برودة الجو.
وراحت فراشات الليل تحوم حول النافذة تحاول التحرر من أسرها كروج المرأة العجوز التي كانت راقدة دون حراك وعيناها محملقتان وكأنها في انتظار رؤية شبح الموت.
.
بينما أنفاسها تتدافع من صدرها بطيئة ذات صفير خافت أليم. وعاد أونوريه.
.
فوجد أمه مازالت على قيد الحياة.
.
فتساءل دهشاََ عن كيفية إمكان ذلك.
.
ثم ودع الأم رابت بعد أن أوصاها أن تعود في تمام الخامسة مكن صباح اليوم التالي.
.
وفعلاَ عادت المرأة قبل انبثاق الفجر وأسرعت بسؤال أونوريه قائلة: ألم تمت أمك بعد؟ وأجابها وهو يسير نحو الحقل: كلا وأظنها أحسن حالاً وضاقت الأم (رابت) ذرعاََ، فتوجهت توا إلى حجرة المرأة المحتضرة فوجدتها كما كانت بالأمس تماماً.
.
هادئة ساكنة مفتوحة العينين، ويداها ممدودتان فوق غطاء الفراش الملون.
.
يبدو عليها الضعف والهزال؛ ورأت الأم رابت أن المرأة يمكن أن تظل هكذا يومين أو أربعة.
.
بل عاشت أسبوعاً آخر.
.
فأحست بانقباض يسود نفسها.
.
وبحقد هائل نحو ذلك الذي خدعها بأمه التي لا تريد أن تموت.
وظلت عيناها محدقتين بمدام بونتمبس طيلة هذا الصباح حتى ى عاد أونوريه للغداء.
ثم رجع إلى حقله لإكمال حصاد حنطته. وكادت الأم رابت تفقد شعورها.
فقد خيل إليها أن كل دقيقة تمر إنما هي زمن مسروق منها ومن حقها أن تتقاضى عليه أجراً. وأحست برغبة قوية.
رغبة مجنونة في أن تضغط على ذلك العنق الهزيل فتخمد أنفاس المرأة التي كانت تسلبها وقتها المقدس ولكنها حينئذ استطاعت أن تتصور بشاعة جريمتها. وراودتها فكرة أخرى.
واقتربت من المرأة المحتضرة، وهمست تسألها: ألم ترى الشيطان بعد؟ فأجابتها مدام بونتمبس هامسة: كلا. وابتدأت الممرضة تلقى على مسامعها بعض القصص الخرافية المخيفة.
فقالت إن: الشيطان يظهر عادة لهؤلاء الذين على وشك الموت قبل موتهم بدقائق معدودات، ثم راحت تصف لها شكل الشيطان، فادعت أنه يحمل في يده محصداً كبير وعلى رأسه قدر مملوءة بسائل يغلي مسمر به ثلاثة قرون.
واستمرت في حديثها الرهيب، فعددت لها أسماء من زعمت أن الشيطان قد ظهر لهم قبل موتهم.
وفعل ذلك الحديث فعل السحر في مدام بونتمبس؛ فبدت مضطرة حائرة، لا يستقر رأسها على الوسادة في مكان واحد. واختفت الأم رابت حينئذ وراء الستار بجانب الفراش.
وتناولت من صندوق بالقرب منها ملاءة بيضاء ألقتها فوق رأسها فحجبتها من قمة رأسها إلى أخمص القدم.
ثم وضعت على رأسها قدراً بدت أرجلها الحديدية كثلاثة قرون مدببة.
ثم أمسكت بيدها مكنسة مستطيلة.
وما كادت تنتهي من كل ذلك حتى صعدت فوق مقعد مرتفع. وفجأة رفعت الستار وبدت بهيئتها أمام المريضة. ومرت لحظة فزع ورعب.
.
وحاولت المرأة المسكينة بكل قواها أن تهرب من الشيطان.
شيطان الموت الرهيب، ولكنها ما كادت تتحرك حتى خانتها قواها وارتمت على الفراش مرة أخرى وانتهى كل شيء. وبكل هدوء ودعة.
أعادت الأم رابت بضاعتها إلى أماكنها، ثم أغلقت عين المرأة الميتة، العينين الفزعتين المحدقتين في خوف وفزع، ثم جثت على ركبتيها جانب الفراش وابتدأت تصلي على الراحلة بحكم العادة. وحين عاد أونوريه من الحقل عند الغروب، وجد الأم رابت جاثية على ركبتيها تصلي، فتأكد أن روح أمه قد فاضت وابتدأ يفكر لقد استمرت المرأة ف ي خدمة أمه ثلاثة أيام وليلة، أي أن أجرها كان يجب أن يكون خمس فرنكات، ولكن، يجب عليه الآن أن يفع ستة. وغمغم قائلاً بغضب: - يا للحظ السئ، لقد خسرت فرنكا ع.
ج

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير