أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 الباب المفتوح للكاتب الإنجليزي الكبير (الساقي) - ستحضر خالتي في الحال يا مستر (نتل)، ولكن يجب في الوقت نفسه أن تجتهد في إنهاء حديثك معي بهذه الكلمات بادرت الفتاة ضيفها عند دعوتها إلى غرفة الاستقبال، حيث كانت قد تركته ريثما تذهب لإخبار خالتها بقدومه: وفتاتنا صبية رزينة لم تتجاوز الخامسة عشرة من سنيها وحاول فرامتون نتل أن يتخير الكلمات اللائقة التي يستطيع أن يرضي بها ابنة الأخت الماثلة أمامه دون أن يكون في هذه الكلمات ما لا يرضي بغير مقتضى، الحالة التي ستحضر بعد قليل، وقد شك الفتى بينه وبين نفسه أكثر مما شك في أي وقت مضى، فيما إذا كانت هذه الزيارات الرسمية التي يتقدم بها إلى سلسلة من العائلات التي لا تربطه بها أية رابطة على الإطلاق، سيكون لها أثر فعال في علاج مرض الأعصاب المفروض أنه مصاب به.

فقد قالت له أخته وهو يتأهب لرحلته الريفية: - أنا عالمة بما ستكون عليه رحلتك! فلسوف تدفن نفسك حيث لا تتحدث إلى مخلوق من الأحياء، وعندئذ تضاعف الكآبة مرض أعصابك؛ وها أنا أكتب في الحال خطابات توصية أقدمك بها إلى جميع الذين أعرفهم هناك، ولقد كان بعضهم، على ما أذكر، وديعاً ظريفاً تذكرة فرامتون كلمات أخته وتساءل في نفسه: ترى مسز سابلتون التي سيتقدم إليها بعد لحظة بأحد خطابات التوصية التي يحملها، تدخل في نطاق هذا البعض الوديع الظريف وإذ لاحظت الفتاة الرقيقة أن فترة السكوت قد طالت بينها وبين الزائر الغريب سألته: - أتعرف كثيرين من أهل هذه الناحية؟ فأجاب: - أكاد لا أعرف أحدا هنا.
وقد كانت أختي كما تعلمين، مقيمة هنا في الأبرشية منذ حوالي الأربع السنوات، وقد أعطتني خطابات توصية لفريق من أهل هذه الناحية.
وصاغ الفتى كلماته الأخيرة في لهجة تنم عن الأسف فتابعت الفتاة الرزينة حديثها قائلة: - إذن أنت تكاد لا تعرف شيئا إطلاقا من أمر خالتي؟ فأجاب الفتى: - لا أعرف غير اسمها وعنوانها فهو لا يدري إذا كانت متزوجة أو أرملة.
ولكن شيئاً في الغرفة لا يستطيع أن يتبينه على التدقيق كان يوحي إليه بأن في البيت رجالاً.

على أن الصبية لم تلبث أن قالت: - لقد نزلت بخالتي مأساتها الكبيرة في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنين كاملة، ويوافق ذلك الوقت الذي غادرت فيه أختك هذه الجهات فسأل الفتى وهو لم يكن ليتصور أن المآسي تجد طريقها إلى مثل هذا المكان الهادئ المطمئن: - تقولين مأساتها؟ فقالت الفتاة وهي تشير إلى أحد الأبواب المطلة على الشرفة وكان مفتوحا: - قد يدهشك أن ترى هذا الباب مفتوحاً في مساء يوم من أيام أكتوبر كيومنا هذا؟ فأجاب فرامتون: - إن الجو دافئ بالنسبة لهذا الفصل من السنة، ولكن هل لهذا الباب أي علاقة بالمأساة التي تشيرين إليها؟ فشرعت الفتاة تحكي القصة الآتية: في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنوات خرج من هذا الباب زوج خالتي وأخواها الأصغر منها سنا ليصيدوا الطير على عادتهم اليومية، ولكنهم لم يعودوا من رحلتهم، لأنه عند اجتيازهم المستنقع للوصول إلى الميدان المفضل عندهم لصيد البكاشين ساخت أقدامهم في بقعة خادعة من الأرض اللينة، حدث في ذلك الصيف الذي كثرت أمطاره، على ما تعلم، حتى إن الأماكن التي كانت مأمونة في السنوات الأخرى لم تقو على الثبات فانهارت، وقد اختفت أجسامهم ولم يقف لها أحد على أثر، وهذا هو أفظع ما في المأساة وما وصلت الفتاة إلى هذه النقطة من قصتها حتى فقد صوتها ما فيه من رنة الثبات وغلب عليه التأثر، ثم مضت تقول: - مسكينة خالتي لا تنفك تتصور أنهم سيعودون يوماً ما ومعهم كلبهم الأسود الصغير الذي ساخ معهم أيضاً، وأنهم سيدخلون البيت من هذا الباب كما تعودوا أن يفعلوا كل يوم.
وهذا هو السبب في تركه مفتوحاً كل مساء إلى أن يهبط الغسق.
وما أتعس خالتي العزيزة، فلكم كررت على سمعي قصة خروجهم، إذ كان زوجها يحمل معطف المطر الأبيض على ساعده، بينما روني أخوها الأصغر ينشد أغنية: (لماذا نثب يا برتي)، كما كان يفعل دائماً ليغيظها فقد كانت تقول إن هذه الأغنية تهز أعصابها، ولا أخفي عليك يا سيدي، أنني في بعض الليالي الساكنة الهادئة مثل هذه الليلة، يتسرب إلى نفسي غالباً شعور خفي بأنهم جميعاً سيعودون إلينا من خلال هذا الباب.
ووقفت الفتاة فجأة عن الكلام مضطربة بعض الشيء، وأحس فرامتون بالفرح عندما دخلت الخالة الغرفة تسوق أمامها سلسلة من المعاذير لتأخرها في إصلاح زينتها وقالت: - أرجو أن تكون (فيرا) قد سلتك بحديثها؟ فقال فرامتون: - لقد كان حديثها جد شائق وقالت مسز سابلتون في نشاط وخفة: - أرجو أن لا يضايقك فتح هذا الباب، فإن زوجي وأخوتي على وشك أن يعودوا من الصيد، وقد تعودوا أن يدخلوا دائماً من هذا الباب، وقد خرجوا اليوم لصيد البكاشين في البرك، وما من شك في أنهم متى عادوا تركوا على سجاجيدي المسكينة آثار ما تحمل أقدامهم من أوحال، وهذا شأنكم أيها الرجال؛ فهل توافقني على ذلك؟ ومضت تتحدث في انشراح عن الصيد وعن ندرة الطيور، وبخاصة البط في فصل الشتاء، ولقد بدا هذا الحديث لفرامتون مزعجاً فظيعاً، فحال جاهداً أن يحوله إلى مجرى أقل فظاعة وهولاً، فلم ينجح في ذلك إلا بعض النجاح، وقد تبين أن مضيفته لا توليه من عنايتها إلا جزءاً جد يسير، ولكن نظراتها كانت تتخطاه إلى الباب المفتوح وإلى ما وراءه من حقول ومستنقعات.
فما من شك في أن زيارته هذه الأسرة في مثل هذه الذكرى المؤلمة لم تكن إلا مصادفة جد سيئة وصور الوهم لفرامتون أن القوم الغرباء الذين يجتمع بهم والذين هم معارف الصدفة، عطاش إلى تعرف أقل ما يمكن من التفصيل عن مرضه وعلته ووسائل شفائه فقال: - لقد اتفق الأطباء في أمرهم لي بأن ألزم الراحة التامة وأن أتجنب الانفعالات النفسية، وأن أبتعد عن كل شيء يتصل بالمجهودالجسمي، ولكنهم غير متفقين اتفاقاً تاماً يتصل بمسألة الغذاء فقالت مسز سابلتون: - ألم يتفقوا؟ وكان صوتها في هذا السؤال صوت الذي جاهد التثاؤب في اللحظة الأخيرة.
ثم لم تلبث أن ابتهجت فجأة وبدا عليها مظهر التنبه الشديد.

غير أن هذا التنبه لم يكن لحديث فرامتون.
ثم صاحت: ها هم قد عادوا آخر الأمر في الوقت المناسب لشرب الشاي.
ألا يبدو عليهم أن الأوحال تغطيهم إلى رؤوسهم؟ فارتجف الفتى ارتجافاً خفيفاً، ثم نظر إلى ابنة الأخت نظرة تحمل معنى الإشفاق.
وكانت الطفلة تحدق من خلال الباب المفتوح، وفي عينيها معنى الرعب الخاطف: فدار فرامتون في مقعده وقد أحس بصدمة مرعشة من جراء خوف لا يدرك معناه ونظر إلى حيث تنظر الفتاة فرأى خلال الغسق الهابط ثلاثة أشخاص يجتازون الحق إلى الباب المفتوح، وكانوا جميعاً يحملون البنادق على سواعدهم، وكان أحدهم يحمل ما عدا البندقية معطفاً أبيض من معاطف المطر ألقاه على كتفه، وكان يتعقب أقدامهم كلب صغير أسود تبدو عليه مظاهر التعب.
واقترب هذا الجمع في سكون من البيت، وإذا بصوت فتى أجش يغني في الغسق: (إني أسألك يا برثي لماذا تثب؟) لم تكد عين فرامتون تقع على هذا المنظر حتى أمسك في عنف بعصاه وقبعته، وفي أسرع من لمح البصر كان قد اجتاز باب الردهة والممر المرصوف والباب الخارجي كأنه السهم المارق، حتى أن رجلاً مقبلاً على دراجة لم يتق التصادم به إلا في اللحظة الأخيرة منحرفاً فجأة إلى السور ودخل القادمون من الباب المفتوح وقال حامل المعطف الأبيض: - ها نحن يا عزيزتي قد عدنا ملوثين بالأوحال ولكن أكثرها جاف.
ولكن من هو الرجل الذي اختفى لمجرد ظهورنا؟ فقالت مسز سابلتون: هو رجل غريب الأطوار جداً اسمه مستر (نتل) لا يستطيع أن يتكلم إلا عن مرضه، ولم يكد يراكم حتى اندفع إلى الباب خارجاً دون أن يلقي بكلمة وداع أو عبارة اعتذار، حتى لكأنه قد رأى شبح عفريت مخيف فقالت ابنة الأخت في هدوء: - أظنه قد خاف الكلب، فقد خبرني أن بعض الكلاب الضالة هاجمته مرة وطاردته حتى ألزمته الهرب منها إلى مقبرة في ناحية على ضفة نهر الجنج، وقد اضطر أن يقضي الليل في قبر جديد لم يدفن فيه أحد بينما الكلاب من فوقه تنبح مكشرة عن أنيابها، وفي ذلك ما يكفي لهز أعصاب أي إنسان لقد كان من خصائص فتاتنا الرزينة اختراع الروايات على البديهة! ع.
ح

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣