أرشيف المقالات

أثر اللغة العربية في العالم الإسلامي

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للسير دنسون روس.
مدير مدرسة اللغات الشرقية بلندن - 2 - الهند: سأبدأ الآن بالهند مبيناً ما تدين به تلك البلاد للعرب.
وكلكم تعلمون أن الفتوح الأولى للقوات الإسلامية في الهند، لم تذهب بهم بعيداً داخل تلك البلاد، ومن ثم كانت قليلة الأثر هناك، ولكن الأتراك في القرن العاشر استطاعوا أن يتوغلوا بالإسلام إلى مسافات بعيدة داخل الهند، إلى أن كان القرن الثالث عشر، وهنا نرى أول ملك إسلامي يتبوأ عرش (دلهي). ولننظر الآن ما كانت عليه أحوال تلك البلاد في ذلك الوقت، نرى قبل كل شيء أنه كان يوجد في الهند آداب واسعة، هندوكية وبوذية، وكانت تتجلى في اللغات الكلاسيكية التي لم يكن يفهمها الا طائفة محصورة من الناس.
ثم يأتي بعد ذلك أن الهنود كانوا وثنيين، وأنهم كانوا أول عدو من غير أهل الكتاب صادفهم المسلمون. ويعتبر في الحقيقة أتراك أواسط آسيا أول من نشر الإسلام بشكل واسع في الهند، وكان هؤلاء الأتراك يتكلمون التركية بينما كانت ثقافتهم فارسية، وهي تلك الثقافة الفارسية الحديثة، التي ظهرت فجأة في بلاط (سميندس) في بخارى. وعلى ذلك يكون الإسلام قد أدخل في الهند لغتين: العربية لغة الدين، والفارسية لغة الشعر؛ وكانت العلاقة الوثيقة بين اللغة الفارسية، واللهجات السائدة في الهند الشمالية، هي بلا شك السبب في أن مسلمي الهند قد اختاروا الفارسية واسطة لآدابهم دون العربية والتركية، واستمر الحال كذلك بينهم حتى القرن الخامس عشر، إذ لم تصل اللغة الأردية (وهي خليط من الهندية والفارسية، إلى المستوى الذي تصلح معه لأن تكون واسطة أدبية) الا في ذلك القرن. ولم يك مسلمو الهند قادرين على تذوق العبقرية التي امتازت بها العربية بالسرعة التي كانت عند غيرهم من الفرس، ولكن حدث على مر الأيام أن أنجبت الهند أدباء نابهين، ومما هو جدير بالملاحظة أن بعضاً من النصوص العربية الأنيقة كان من وضع أدباء الهند في العصور الأخيرة. وإني أميل بعد ذلك إلى أن أقرر أن أعظم تغيير أحدثته الثقافة الإسلامية، بعد ذلك التغيير الهائل، وهو دخول هذا العدد العظيم من الهند في دين التوحيد، إنما هو ما طرأ على الهند من الميل إلى تذوق التاريخ. فإن هذا العلم لم يصادف هوى في قلوب الهنود من قبل، إذ كان يعتبر أمراً مادياً صرفا في نظر قوم مفكرين وفلاسفة بالسليقة.
وهذا هو السبب في أن التاريخ الهندي القديم قد جمع بصعوبة عظيمة، وكان الاعتماد في جمعه على ما عثر عليه من السكة والتماثيل، دون أن يكون هناك بجانب هذه الأشياء مخلفات كتابية. ولا تزال التواريخ بل القرون التي ظهر فيها بعض الحكام الأولين موضع جدل ومناقشة.
فلما ظهرت الهند الإسلامية، دبت الحماسة في قلوب الناس فجأة نحو كتابة التاريخ، وكان من نتيجة ذلك أن دونت مع التوسع أخبار جميع ملوك دلهي ابتداء من القرن الثالث عشر. وينبغي أن لا يفوتني هنا أن أذكر إدخال الحروف الهجائية العربية في الهند، وانتشار الكتابة بين الناس على العموم، في بلد كان كلما يتعلق بالعلم والكتابة فيه محصوراً في أيدي البراهمة. أواسط آسيا وبلاد فارس: مهما أطنبنا في وصف الأثر الذي تركه تعلم اللغة العربية في عقول سكان أواسط آسيا والهند، فلن يعد ذلك منا إسرافا أو مبالغة، فإن الأثر الذي تركته العربية في عقول الأتراك والفرس، ومسلمي الهند، كان أجل شأنا وأعظم خطراً من الأثر الذي تركته اللاتينية في عقول الأدباء من أهل أوربا في العصور الوسطى. فمع أن اللاتينية كانت الواسطة للكتابات الدينية والعلمية، لم يكن هناك ميزة أخرى من ورائها سوى تلك المهارة الأدبية التي كان يتصف بها كل من ثقفها.
إذ كان قبل حركة الأحياء الكاثوليكية بزمن طويل، نصف سكان أوربا ينظمون الشعر ويتغنون به، كما أن بعض اللغات كانت قد اتخذت فعلا شكلا محدوداً، واصطبغت بصبغة البيئة التي وجدت فيها. ولم يكن الأمر كذلك في العربية، فان العربية قد أمدت المستنيرين في أواسط آسيا بثقافة تعتبر جديدة من جميع الوجوه.
وبثت في قلوب هؤلاء أفكارا طريفة، وفتحت أمام أعينهم عوالم جديدة، وبعبارة أخرى، فان العربية أمدت الفرس والأتراك والهنود (بلغة جديدة) ولا غرابة في ذلك، فانه بالقضاء على الديانات القديمة قضاء ظاهراً، وبحلول العربية محل اللغات القديمة في المسائل الأدبية، ثم باستبدال الثقافة الإسلامية بكل ما يرجع في أصله إلى الثقافة الآرية، كل أولئك يحملنا على القول بأن العربيةأمدت بلاد فارس بخزائن جديدة من العلم، إلى جانب لغة مكتوبة منظمة.
أو قل أمدت الفرس (ببعث قومي جديد مع ثقافة حديثة) وكل ذلك في وقت واحد، فلقد أتحفت العربية أواسط آسيا بالشعر العربي الذي غيّر وجه الشعر هناك، ثم بالفلسفة اليونانية، وغيرها من العلوم. ونستطيع أن نقول أن المجوسية لم يكن لها الا معنى ضئيل في عقول معظم الرعايا الساسانيين، وكان لا يفهمها الا طائفة الكهنة، بينما كانت لغة الكتب المقدسة وهي الفهلوية لا يكاد يفهمها إلا رجال الدين، وطائفة الموظفين الرسميين. فمن السهل أيضاً أن نتصور الأثر المباشر الذي أحدثته العقائد الإسلامية في الفرس، بله الروعة والدهشة للتي تركهما في نفوسهم ذلك الكتاب المقدس الذي نزل بلسان سهل مبين. هذا وينبغي أن لا ننسى أنه في الأيام الأولى قبل إدخال الشكل، وخلو العربية من الحروف التي تعين الساكن والمتحرك لم يكن من السهل قراءة اللغة العربية، ولكن العربية كانت على أي حال أسهل من الفهلوية، إذ كان نظام هذه الأخيرة في الكتابة أصعب نظام عرف حتى ذلك الوقت.
ولكن حينما ظهرت مدارس النحو في الكوفة والبصرة، أصبح من السهل ضبط العربية واستيعابها. وهذا البحث يؤدي بنا إلى الهجاء العربي، وإلى فن الإملاء، ذلك الفن الذي كان حتى ذلك الوقت مجهولا تمام الجهل في فارس والهند. أحس الناس وعلى الخصوص غير العرب منهم فضلا عن الزهو الذي داخل نفوسهم بتعلم اللغة العربية، سرورا وميلا عظيما نحو تلك الحروف المرنة السهلة وهي الحروف الهجائية العربية.
ولقد كان لهذه الحروف في نفوسهم مثل ما للصور من الجمال الفني ولا سيما إذا نقشت على ظاهر المباني، أو إذا حفرت على الأضرحة والمقابر سواء ما كان منها ثلثاً أو كوفياً أو نسخاً. ولست (إلى حد كبير) أشك في أن هذه الزخرفة الأنيقة في رسم الحروف العربية إنما كانت نتيجة لتحريم تصوير الأشخاص في العهود الأولى.
ولكن بحث هذه النقطة ربما يخرج بي بعيداً عن الموضوع. ويجب ألا ننسى أن العرب لم يدخلوا معهم إلى تلك البلاد أي شيء في شكل فني، وأن الفرس كانت لهم تقاليد فنية ترجع إلى ما يزيد على ألف سنة.
ومما يدعو إلى الدهشة أن الإغريق وقد حكموا الفرس فعلا نحو قرنين لم يتركوا فيها أي أثر أدبي، كما انهم لم يتركوا شيئا من هذا في الهند.
وكذلك لم يترك فتح الفرس لمصر أي أثر في تلك البلاد.
وهكذا استمر الفرس حتى الفتح الإسلامي محتفظين بآدابهم منعزلة تماما عن أي تأثير من غيرهم. وكانت آداب الفرس محدودة من جهة الانتاج، فلم يكن لديهم عدا بعض الكتب الدينية الا مجموعة من السير والتواريخ كما أنهم ترجموا أمثال بيدبا عن السنسكريتية. على إن بعض القطع الفهلوية تدلنا على أن الفرس قد أكثروا من الشعر، وربما كانت (المناظرة) ترجع في أصلها إلى الفرس ولكن الأوزان والقوافي العربية كانت أمرا جديدا بالنسبة لهم.
وان المرء ليعجب لتلك السرعة التي أخذ بها الفرس هذه الأشياء. وأريد أن أختتم كلامي بكلمة عما تدين به العربية للفرس.
كلنا نعرف أن خلفاء المسلمين في دمشق وبغداد كانوا يدينون للفرس بكل المسائل المتعلقة بالحكم ونظام الملك، ومما يذكر عن أحد الخلفاء الأمويين أنه قال: (أني لأعجب من أمر هؤلاء الفرس: لقد حكموا ألف سنة دون أن يحتاجوا إلينا مرة.
بينما نحن لم نستطع مدة المائة سنة التي حكمناها أن نستغني عنهم لحظة)
. إن العلم الإسلامي في القرون الأولى كان يدين للإغريق بالمسائل العلمية والفلسفية، ولكنه كان يدين للفرس بما وصل إليه من الآداب الجميلة.
وما علينا لكي نفهم أثر الفرس في تلك الثقافة العربية الفخمة إلا أن نستعيد أسماء هؤلاء الشعراء والكتاب المجيدين لنرى عدد من يرجع منهم إلى الفرس من حيث الأصل أو المولد. (محمود الخفيف)

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١