أرشيف المقالات

الوجودية في نظر التحليل النفسي

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 للأستاذ شاكر السكري أثبت التحليل النفسي وجوده بين مختلف العلوم والآداب والفنون، لا بل تخطى ذلك كله وتقدم بزهو نحو المكانة اللائقة به في عالم الطب النفسي! وليس هناك من ينكر الخدمات الجبارة التي حققها هذا العلم في خدمة الإنسانية، تلك الخدمة التي تجلت فيها المعرفة الخارقة في كشف أغوار النفس البشرية وما تنطوي عليه من ألغاز وأمور معقدة! كادت أن تفتك فتكاً ذريعاً فيها، كما أثبت لنا هذا الطب الحديث الأخطار النفسية التي كانت تغزو البشرية في معاقلها.

وكان الفضل الأكبر يعود بذلك (للأستاذ فرويد) ومدرسته الفنية التي خدمت ولا زالت تخدم المجتمع الإنساني في مجال تقدمه ورقيه، هذه لمحة وددت أن أستهلها في بحثي هذا لما لها من علاقة وثيقة بين الموضوع الذي سأتناوله. سبق لي وتحدثت إلى قراء (الرسالة) الغراء في بعض أعدادها عن (فلسفة الوجودية) وما تحويه من أفكار، وتقوم عليه من آراء، سفسطائية كوميدية، تكاد تلقي بسامعيها من الضحك إلى الوراء! ولست الآن بصدد كوميديتها، بل في تحليلها تحليلاً صادقاً لكشف ما تحتفظ به من سموم مميتة ومخدرات (مورفينية) لتحقن بها أجسام الناشئة من الشباب الذين لم يتجاوزا بعد دور المراهقة، وربما تعدوا هذا الدور قليلاً! غير أنهم لم يستطيعوا من ضبط أعصابهم والسيطرة على عواطفهم الجامحة. أقول: الشباب وأقصد بالطبع الفتيان منهم والفتيات لعل مدينة (النور) تذكر الأدوار التي لعبتها في إغراء الناس من مختلف الطبقات والقوميات، وأخص بالذكر منهم الغرباء النازحين إليها والمقيمين، ولم تقتصر في إغرائها هذا على نفسها بل تعدته إلى نفوس الآخرين. ولعا (فرويد) غير مرتاح لما يسمعه عن هذه المدينة الطائشة، والمذاهب الانحلالية القائمة فيها. ويعتبر (فرويد) حسب نظرياته الطيبة أن المذهب (الوجودي) مذهب لحمته التفسخ وسداه الاضمحلال الخلقي، لأنه نشأ في وسط متفسخ بلغت به الفوضى الخلقية حد الجنون! لأنه ترعرع بين الفترات المظلمة التي خلفتها وتخلفها الحروب البربرية! ولما كانت هذه الحروب ذات تأثير سيئ على المجتمعات من حيث شكلها ومادتها، ولما تحدثه فيها من انعدام النظام وتفشي الفوضى والأمراض المختلفة بين السكان، كان معنى ذلك أن الفرد أخذ يحس إحساساً قوياً بانعدامه في هذا الوجود المجنون، كما أنه بات لا يشعر قط بوجوده، ولأجل ذلك أخذت فكرة انغماس الفرد في ذاته، وسعياً لتحقيق رغباته، ذلك السعي الذي جعل منه إنساناً (بوهيميا) يعيش لنفسه في جو من الخلاعة والدعارة، كأنه يريد بذلك أن يثبت وجوده (بسلوكه الشاذ) على طبيعته وطبيعة الكائنات المخلوقة الأخرى، وهو بذلك يسلك الطريقة الشائعة (خالف تعرف).
هذا من ناحية، أما النواحي الأخرى التي أوجدتها ظروف الحرب، هو الكبت الجنسي الحاصل عند الجنود من جراء بعدهم عن المرأة في ميادين القتال، ولعل هذا البعد يستغرق سنوات طويلة في هذه العزلة الكئيبة التي تخلف في نفوسهم رد فعل عنيف لا يستطيعون معه كبت عواطفهم، وكثيراً ما أدى هذا الكبت إلى انتشار الشذوذ الجنسي بين المحاربين. كل ذلك أثر من آثار الحروب المدمرة! ولعلنا أدركنا وندرك كم من الحضارات الزاهرة اندثرت! وكم من المدن النضرة أصبحت أثراً بعد عين! وكم من المجاعات الفظيعة انتشرت تأكل بعضها بعضاً، وكم من الحدائق الغناء والمروج الجميلة أضحت أرضاً جرداء لا ماء فيها ولا زرع! بغض النظر عن الكوارث الجسيمة التي يصاب بها المجتمع البشري والتي أوردت بملايين من العوائل إلى البغي والإثم! من جراء الفقر وغزو الفاتح لها.
ولعلنا أيضا لم ننس ما حل في أوربا وخاصة في الحربين العالميتين (1914 و1939) من تهتك الفاتحين بعضهم لبعض، وكيف أن الجنود الأمريكيين والإنكليز كانوا يحصلون على بغيتهم من الفتيات العذارى بقطعة من (الشكولاته) أو غيرها. هذه صورة مصغرة لما حدث ويحدث من جراء هذه الحروب الوحشية! فلا غرابة إذاً من ظهور مذاهب انحلالية تدعو جهدها لإقامة (الدهاليز الأرضية) وهي ملاجئ تمثل فيها أبشع ما تصوره الغريزة من همجية! كما أنها تدعو ضحاياها للعيشة الهمجية كما يصوره لها عقلها الباطن (اللاشعور) وكما ترتضيه غرائزها الجنسية! ولا يخفى أن العقد النفسية الكامنة في نفوس معتنقي هذه المذاهب تكاد تسيطر تامة على العقل الواعي (الأنا) وتشل حركته لكي يبدأ (اللاشعور) عمله المبعثر ليجمع شتات الأفكار والذكريات القديمة المكبوتة فيه، ليخرجها على شكل (أفعال منقوصة) و (عقائد قاسية) أما الشعور بالنقص الذي يغمر نفوس هؤلاء لم يكن إلا وليد البيئة. يتبع شاكر السكري

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير