أرشيف المقالات

شعراء من شعراءهم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 عدي بن زيد العبادي - 1 - نشأته.

ثقافته.

دخوله في خدمة كسرى.

سفارته بين كسرى وقيصر.

أبوه زيد وملك الحيرة.

الصلة بين زيد والمنذر أبي النعمان.

إجلال المنذر لعدي، تربية عدي النعمان الأصغر.

العلاقات بين بيتي عدي والنعمان الأصغر. تزوج حماد بن زيد بن أيوب بن محروف من امرأة من طيء، فأولدها ولدا أسماه زيدا.
وكان حماد هذا كاتبا للملك النعمان الأكبر.
وكان له صديق من الدهاقين المرازبة العظماء يقال له (فروخ ماهان) وكان الدهقان محسا إلى حماد؛ فلما حضرت حماد الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدهقان، فضمه الدهقان إليه مع ولده.
وكان زيد حذق الكتابة العربية قبل أن يضمه الدهقان إليه، ثم علمه الدهقان الفارسية فلقنها، ثم أشار الدهقان على كسرى أن يجعل زيدا على البريد في حوائجه ومهامه، فمكث زيد يتولى ذلك لكسرى زمانا. ثم أن النعمان الأكبر، وهو والي كسرى على الحيرة، هلك فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه عليهم حتى يختار كسرى الملك الذي يريد أن يعقد له.
فأشار عليهم الدهقان أن يختاروا زيد بن حماد.
فكان ملكهم إلى أن عقد كسرى للمنذر بن ماء السماء: المنذر بن النعمان. وقد تزوج زيد بن حماد نعمة بنت ثعلبة العدوية، فولدت له عديا.
وولد للدهقان ولد سماه (شاهان مرد) فلما تحرك عدي وأيفع، طرحه أبوه زيد في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله الدهقان مع أبنه إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف إليه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بها، وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر، وتعلم الرمي بالنشاب، فكان من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصولجان، وغيرها. وحين ألحق الدهقان ابنه (شاهان مرد) بالخدمة لدى كسرى، سعى ليلحق عديا بخدمة كسرى أيضا، ووصفه بأنه (أفصح الناس، وأكتبهم بالعربية والفارسية، والملك محتاج إلى مثله) فرغب كسرى فيه، وكان جميل الوجه فائق الحسن وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه، فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جوابا، فأثبته مع ولد الدهقان. وعدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى.
وقد كان كسرى يأذن له في الخاصة، وكان معجبا به قريبا منه.
وكان عدي إذا دخل على المنذر، والى كسرى على الحيرة، قام جميع من عنده حتى يقعد عدي، فعلا له بذاك صيت عظيم، ورغب إليه أهل الحيرة ورهبوه. وقد سفر عدي لكسرى بعض السفارات، فأرسله إلى ملك الروم بهدية من أطرف ما عنده، فلما أتى عدي ملك الروم أكرمه، وطاف به في أطراف بلاده ليريه سعة أرضه وعظيم ملكه.
ومن البلاد التي طاف بها بلاد الشام.
ويبدو أنه مكث بدمشق زمانا.
وقد قال وهو في الشام يتشوق إلى الحيرة، ويذكر أيامه فيها، ويفضلها على دمشق: رب دار بأسفل الجزع من دو ...
مة أشهى إلي من جيرون وندامي لا يفرحون بما نا ...
لوا، ولا يرهبون صرف المنون قد سقيت الشمول في دار بشر ...
قهوة مزة بماء سخين ودومة هذا هي الحيرة - وجيرون بناء عند باب دمشق وقام قوم هي دمشق نفسها. ولما كان عدي بدمشق فسد أمر الحيرة، لأن أهلها أرادوا قتل المنذر، لأنه كان لا يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه.
ولما علم بذلك المنذر بعث إلى زيد بن حماد، أبي عدي، وكان قبله على الحيرة كما سبق، وحدثه فيما بلغه من أنباء تبرم أهل الحيرة به وعزمهم قتله، فمحضه النصح وأخلص له، وأرضى أهل الحيرة، وأصلح بينهم وبين ملكهم المنذر، وجعل له اسم الملك والغزو والقتال، وما دون ذلك فهو لزيد.
وقد شكر المنذر هذه النعمة وأقسم أن يحفظها له. وبعد مدة قدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه زيدا والدهقان المرزبان قد هلكا جميعا، فأستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة فأذن له، فتوجه إليها.
وبلغ المنذر أن عديا قادم إلى الحيرة، فخرج وتلقاه في الناس، ورجع معه. ولثقة المنذر بعدي، ولما عليه عدي من خلق أعجب به المنذر، ولتطواف عدي في بلاد كثيرة، ولخلطته الدانية به وبالكبراء في معية كسرى، ولمنزلته الرفيعة بين الناس، ولمعرفته بالفارسية والعربية، لكل هذا جعل المنذر عديا مربيا ومؤدبا لابنه النعمان الأصغر، هذا الذي سيكون ملك الحيرة بعد أبيه المنذر، وهذا الذي ستشتد الخصومة بينه وبين عدي حتى يتناكرا، ولا يتعارفا، إلى آخر الزمان. وقد كان لعدي مكانة عالية ومنزلة رفيعة في أنفس أهل الحيرة؛ إذ هو كاتب كسرى، وهو سفيره إلى قيصر، وهو ابن زيد ملكهم من قبل، وهو المكرم لدى المنذر، ثم هو الرجل العارف بلسان العرب ولسان الفرس والطائف ببلاد الروم - وقد أهل هذا كله عديا ليكون أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أراد أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يؤثر الصيد واللهو واللعب على الملك، وكان يؤثر فراغ البال والارتحال. ولعلك قد علمت بهذا أن عديا قد تربى في أحضان النعمة، وأنه لم يكن باديا جافيا، وأنه قد استنار بما اطلع عليه من أحوال في ديواني كسرى وقيصر، وأنه قد ثقف وتهذب وسمع بكثير من الأخبار والأحداث، ورأى ما لم يره غيره، وعرف عن الروم كثيرا وعن الفرس أكثر.
ولعلك قد عرفت أيضاً أنه لم يكن رجلا كالناس، بل كان أنبل وأعرق من كثير منهم، وكان له فضل منزلة عندهم.
وإن كان عدي قد سعى إلى مثل هذه المنزلة العارفة الكريمة، فإنه يجب ألا نغفل فضل أبيه عليه، وتمهيده لهذه المنزلة التي سما إليها ابنه؛ فقد كان الأب ملكا على الحيرة حتى يعقد كسرى لمن أراد، وكان مرجع أهلها فيما ينوبهم من حدث وحال؛ فكأنه كان رجلا نزيها عفا، يلجأ إليه حين تتحرك الشهوات من عقالها فما يتشهى ولا يسعى لخير نفسه، ولكنه يسعى لعامة الناس وجدواهم.
وهذه خلة تضفي على الرجل كرامة، وتضفي على من يتصلون به كرامة، فما بالك لو كان المتصلون به أهلا وأولادا كعدي شاعرنا.
ولعلك بهذا قد عرفت العلاقات الوثيقة التي توثق بين بيتي عدي والنعمان الأصغر؛ فقد تعارف أبواهما من قبل، وتصادقا، وتعاونا، وكاد يكون ملك الحيرة مراوحا بينهما، وكان أهل البيتين جميعا من المقربين إلى كسرى، وكان عدي أستاذ النعمان ومربيه ومؤدبه ومقومه - هو وأهل بيته. وهذه منزلة تؤهل الناس لحسد الناس.
وهي إن جعلت من الأصدقاء كثيرين فهي تجعل من الأعداء الشانئين كثيرين أيضا.
ويجب هنا أن نعرف شيئا، وهو أن أصدقاء الرجل النبيل الخدوم إنما يكونون من العامة وأمثالهم - هؤلاء الذين يرجع عليهم فضله ويهب لهم قواه، أما الرؤساء أمثاله والسادة أمثاله، فهم يشنأونه لمنزلته ومكانته وكرامته، ويسعون جاهدين كائدين حتى يخلو لهم الجو وتعبد السبيل. وقد كان لعدي بن زيد أخوان، أحدهما اسمه عمار ولقبه أبي، والآخر اسمه عمره ولقبه سمي.
وكان لهم أخ من أمهم يقال له عدي بن حنظلة من طىء.
وقد كان لهؤلاء الاخوة منزلة عند الأكاسرة، وكان لهم معهم أكل وناحية، يقطعونهم القطائع، ويجزلون صلاتهم، ويقربونهم ويعطفون عليهم. فكأن الأكاسرة قد رعتهم جميعا: رعت حمادا وابنه زيدا وحفيده عديا واخوته، ورعت المنذر والنعمان.
وكأن الأكاسرة كانوا يستعينون بهم جميعا في وظائف شتى، وقد قدم هؤلاء من ناحيتهم ما استطاعوا أن يقدموه لمن رعوهم وأحسنوا إليهم؛ فلقد كان ملك الحيرة في بيت النعمان، ومعروف أن ملك الحيرة كان في معناه إخضاعا لطائفة من العرب لحكم الفرس.
وأما حماد فكان كاتب النعمان الأكبر وكان زيد كاتبا لكسرى زمانا، وملكا على الحيرة زمانا، ومعينا للمنذر زمانا.
وكان عدي كاتبا لكسرى وسفيرا له لدى قيصر، ومؤدبا ومربيا للنعمان الأصغر. للبحث صلة محمود عبد العزيز محرم

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢