أرشيف المقالات

بين الفصحى ولهجاتها

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
8 لمعالي الدكتور محمد رضا الشبيبي عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية اجتاز الشرق القريب في الفترة الواقعة بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية مرحلة حافلة بالأحداث، اتسعت بنمو الحركة الفكرية؛ ويصح أن تدعى فترة الوعي واليقظة. امتازت هذه المرحلة بإثارة كثير من الموضوعات حمى فيها الوطيس، وتعددت فيها المعارك، ومنها معركة القديم والجديد في مختلف نواحي الحياة، من سياسية إلى اجتماعية واقتصادية، ثارت بين المجددين والمحافظين أينما وجدوا، وفي مقدمتها معركة اللغة والكتابة العربية واللهجات، إذ ظهرت دعوة ترمي إلى اصطناع هذه اللهجات الإقليمية المحرفة عن الفصحى في بعض أقطار الشرق القريب.
وحاول المحاولون أن يثيروا حرباً عوانا على اللغة، ووضعوا في هذا الباب ما وضعوه من كتب ورسائل ومقالات. يهول بعض المعنيين في هذا الشأن بعنف الصراع القائم بين الفصحى واللهجات المحلية، ويشيرون إلى قيام ضرب من تنازع البقاء بين الجانبين، ويضربون الأمثال من اللغة اللاتينية ولهجاتها، بل من اللغة العربية وأخواتها الساميات على اعتبار أنها لهجات تفرعت من أصل سامي بائد، ثم يسرفون في التكهنات والاحتمالات. ظن فريق من هؤلاء الباحثين أنهم أول من طرق باب البحث عن اللهجات على هذا الشكل الحديث، وانه لم يحم حول هذا الموضوع أحد من قبل، مع أن غير واحد من أعلام الأدب واللغة وأئمة القراءات أشاروا إلى فساد اللسان، وإلى اضطراب اللهجات اللغوية المحكية، وشذوذها في عصورهم.
ولهؤلاء اللغويين القدماء عناية فائقة بالبحث عن اللهجات، ومن هذا القبيل تلك الرسائل والكتب التي جردت فيما تلحن فيه العامة أو الخاصة.
وكم من معركة أثيرت بين اللغويين في هذا الباب مرماها انتقاد اللهجات وإصلاح ما اعتراها من فساد، وهي كتب كثيرة، وجلها متداول معروف.
ولما استفحل شأن اللهجات في العصور الأخيرة، وطغى على اللغة سيل جارف من الكلمات الدخيلة، وفطن المعنيون بذلك إلى الخطر الذي يتهدد العربية من الناحية، بادر اللغويون المحدثون إلى العناية بالبحث عن أصول الكلمات العامية وردها إلى الفصحى، وأوجدوا أوضاعاً لغوية، ومصطلحات عربية، تقابل الأوضاع والمصطلحات الدخيلة، واختاروا أسماء لمسميات هجمت بها علينا هذه الحضارة الحديثة، وقد وضعت في ذلك معجمات ورسائل لغوية كثيرة. من ذلك يتضح لنا لن البحث عن اللهجات قد اتخذ أطوارا شتى يعرفها من ألم بتاريخ آداب اللغة العربية في مختلف العصور.
وهذا ابن خلدون عالج موضوع اللهجات المتفرقة عن لغة مضر على وجه يفهم منه أنها كانت متميزة في عصره وهو يسميها (لغة الجيل) ويقولون بينها وبين (اللغة المصرية) وقد أفرد في مقدمته المشهورة فصولا للبحث في هذا الشأن.
منها فصل عنوانه (لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير) وآخر عنوانه (لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر) إلى فصول أخرى، يشير ابن خلدون في بعضها إلى مميزات لهجة عصره أو لغة جيله كما يقول، ومن تلك المميزات زوال الأعراب، وظهور الوقف في آخر الكلمات. من ذلك نعلم أن اللهجات بمعنى من المعاني قديمة قدم اللغة.
ومن هذا القبيل لهجات القبائل اللغوية في الجاهلية وصدر الإسلام، وهي لهجات استند إليها القراء في تخريج القراءات، وأشار إليها المؤلفون في هذا الفن.
وتعتبر هذه اللهجات كلها فصيحة مع أن بعضها شاذ مهجور.
ثم تفرع عن الفصحى نوع آخر من هذه اللهجات المحلية نشأ فيه التحريف وفسد النطق، فأصبح للكتابة لغتها، وللكلام لهجته، وذلك في الأقطار التي استقر بها العرب والمسلمون الفاتحون في أولى عصور الدول الإسلامية بعد عصر الراشدين. ما من شك في أن الشقة تباعدت، ولم تزل، بين اللغة الأصلية وفروعها، وأن الجفاء والشذوذ تفاقم بمرور الأيام حتى زعم من أن بين هذه اللهجات المتعددة من جهة أخرى، صراعا مريراً، وأن نتيجة هذا الصراع تغلب إحدى هذه اللهجات واندماج سائرها في لهجة بعينها، ثم تصبح لغة مستقلة نصطنعها في الكتابة والكلام سواء بسواء.
ومن المحال في زعم هؤلاء الزاعمين أن تبقى الفصحى محتفظة بوحدتها الأولى زمنا طويلا ًمع هذه الفوارق.
وهم يتوقعون أن تتحول هذه اللهجات يوما ما إلى لغات مستقلة قائمة بنفسها، غير مفهومة آل للمتكلمين بها، كما أن الفصحى ستكون لغة غير مفهومة للمتكلمين بهذه اللهجات بالمرة، وهو فيما نرى - إسراف في التكهن والرجم بالغيب.
ويزيد بعضهم على ذلك قائلاً: أن لهجة القاهرة الشائعة هي لغة المصر بين في المستقبل.
ولماذا لا يقال في لغة المجتمع المصري هذه أنها هي لغة الطبقة المثقفة المتعلمة بعينها، وهي هذه الفصحى السليمة الموحدة من حيث النطق، وخارج الحروف، وأن كانت عارية من الاعراب، لا تلك اللهجات الشاذة. يغالي أنصار اللهجات بآرائهم قائلين: إن هناك صراعا بين الأم وفروعها، أو بين الفصحى ولهجتها، ونحن نقول لهم: لماذا لا يسفر هذا الصراع أو تنازع البقاء عن نتيجة حاسمة يصح فيها الصحيح، ويبقى الأصلح نزولاً على حكم مذهب النشوء والارتقاء. أو يدوم صراع لغوي مدة تشارف الألف والثلاثمائة سنة؟ والحق أنه ليس هناك صراع بل هناك شذوذ وجفاء، وهنك ازورار وانحراف في هذه اللهجات الملية، من مصرية وعراقية وشامية ومغربية، فما هذه اللهجات سوى اللغة العربية محرفة عن أصلها.
كانت الفصحى معرية فحل الوقف محل الأعراب، وكان التلفظ والنطق موحدا فطرأ ما طرأ عليها من الاضطراب والفساد والتحريف والتشويه بسبب هجرة المسلمين والعرب الفاتحين إلى شتى الأقطار البعيدة عن الجزيرة العربية. ليس من الإنصاف ولا من الصواب أن ندعو ما نحن بصدده صراعا بين الأصول والفروع، بل هو ضرب من الشذوذ والانحراف لا بد أن ينتهي إلى صلح ووئام.
ومن الخطأ قياس من يقيس ما حدث للفصحى بما حدث للاتينية، أو السامية البائدة، ثم يسرفون في التكهن، والاحتمالات البعيدة، ويتوقعون أن تتخلى الفصحى عن مكانها لتدخل في ذمة التاريخ في الأقطار المأهولة بالشعوب اللاتينية وقد تكلفت بحفظ الفصحى وحياطتها وخلودها معجزة القرآن؛ فلولا إعجاز القرآن لجاز أن يحدث لهذه اللغة ما حدث من قبل للغة اللاتينية. تجتاز هذه الأقطار المأهولة بالناطقين بالضاد عصبية، وهذه الشعوب الآن أحوج ما تكون إلى التفاهم والتعاون، ووحدة اللغة.
ولو اصطنعنا هذه اللهجات الفاسدة لاستحال تحقيق الوحدة اللغوية، ولتعسر التفاهم أو التخاطب أو التخاطب بين الشعوب المذكورة. ما أكثر عيوب هذه اللهجات ومساوئها، وفي مقدمتها أنها عاجزة عن تكوين تلك الوحدة؛ فلكل قطر لهجته ومميزاتها التي تجعل منها أداة غير صالحة للتفاهم في أمة تسعى وحدتها اللغوية. ولنا أن نقول في مساوئ اللهجات أكثر من ذلك، فإنها في القطر الواحد يسرع إليها الانحلال، فهي عرضة للاضطراب والفساد فها نحن أولاء نجد لكل إقليم عندنا في العراق، بل لكثير من الحواضر أحيانا لهجة خاصة؛ فأهل الموصل في الشمال لهم لهجتهم، وهي لهجة لا يستسيغها أهل بغداد وأواسط العراق لاختلاطها عن المألوفة.
وأهل الصرة في الجنوب، يعرفون بلهجة تختلف بعض الاختلاف عن لهجة بغداد.
وعلى كل فإن لهجة أهل الريف عندنا تختلف عن لهجة أهل الحواضر اختلافا ظاهرا.
ومثل ذلك الاختلاف بين لهجات الريفيين القاطنين في البطائح والبحيرات ولهجات القبائل الراحل في العراق.
وفي وسعك أن تعرف بلد المتكلم أو قطره من لهجته.
وليس هذا الأمر فيما نرى خاصا بالعراق؛ فمصر وسورية وأقطار الغرب لا نختلف عن العراق من هذه الناحية.
والمعروف هنا أن لأهل الصعيد لهجة خاصة، وتشبهها فيما قيل لي لهجة أهل الشرقية والبحيرة.
ويبدو لي على ما أكد لي غير واحد من أدباء مصر أن لهجة أهل الصعيد أقرب إلى لهجات أهل البادية في بعض أقطار الشرق العربي كالعراق والشام، فإن الحروف التي أصبحت أثرا بعد عين في منطق أهل القاهرة والإسكندرية وما إلى هذه الجهات مثل القاف والتاء المثلثة، والجيم الفصيحة، لا تزال باقية على حالها في منطق أهل الصعيد، وهي كذلك في لهجة أهل العراق.
فنحن بأمس الحاجة والحالة هذه إلى لهجة موحدة، ولا عنى لنا إذا أردنا التفاهم عن تكوين هذه الوحدة.
وقد اعترف غير واحد من الأساتذة المصرين الذين زاولوا مهنة التدريس في مدارس العراق بأثر الفصحى في تكوين الوحدة اللغوية المنشودة. لماذا يعنى أبناء الشرق العربي، بل شعوب الشرق الإسلامي باقتناء المؤلفات المصرية الحديثة، بل باقتناء المطبوعات المصرية مهما كانت؟ ولماذا هذا الإقبال العجيب على مؤلفات أعلام المصرين المعاصرين؟ ولماذا يعجب بترسلهم؟ ولماذا يؤخذ من يؤخذ بسحر بيانهم في أقطار الشرق والغرب المأهولة بمن ينطق الضاد. قد تعجبون إذا قلت لكم إن مرد ذلك لا معالجة الأبحاث العلمية أو الموضوعات الأدبية في حد ذاتها، وإنما لسبك تلك الموضوعات وأدائها بأساليب لغوية أصيلة البيان مشرقة الديباجة.
فهذه الطبقة من الكتاب والمؤلفين المصريين طرست على آثار الطبقة الأولى من المترسلين في الفصحى، وحذت حذو الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب والصابئ، وغيرهم من أئمة المرسلين، ونهجت منهجهم في البيان والبلاغة.
فشعوب العرب ولإسلام وقد أصبحت شعوبا واعية يقظة في عصرنا يقظة في عصرنا هذا تغنى العناية كلها يبعث الأساليب العربية الأصيلة، وتعتز بإقالة الفصحى من عثرتها بعد كبوة طويلة.
فعصرنا هذا يمتاز بنمو العاطفة القومية، والشعور الصادق، والاعتزاز بالأدب القيم، والتطلع إلى بعث تراثه القديم. ولو أن هؤلاء الأعلام المصريين استجابوا لدعوة الدعاة إلى اصطناع اللهجات فيما يكتبون وينشئون لأغراض الناس في الشرق كله من عرب ومسلمين عن اقتناء ما يدر إليهم من مطبوعات هذه البلاد.
ولا نبالغ إذا قلت لكم إننا نعتبر هذه الدعوة خطرا على اطراد على ونمو الشعور.
ونحن واثقون أنها دعوة ضعيفة لا تستطيع الصمود في طريق هذا الوعي المطرد إلا كما بصمد الهشيم في سبيل السيول الجارفة.
فهذا الوقوف في طريق اليقظة الراهنة مخالف لطبيعة الأشياء، وهو إذا جاء عن طريق التساهل في الوحدة اللغوية أدهى وأمر. لا غنى لشعوب الشرق العربي وفي طليعتها العراق والشام، ولا غنى لشعوب الغرب الغربي وفي طليعتها مصر وأفريقية في الفصحى دون غيرها من اللهجات. نعم إن الصعوبة في الفصحى تأتي من ناحية الإعراب، وقد زال هذا الإعراب، وقد زال هذا الإعراب لأنه لم يعد عملياً في عصرنا الحاضر على الأقل، فلنحافظ على سلامة لغتنا الفصحى وتوحيد لهجاتها، وتقوم النطق بها، ولو بالتخلي عن الإعراب إلى حين إلا في التلاوة وما إليها، على أن ينظر في حل المشكلة الإعراب، وأن يعهد بذلك إلى المتخصصين المنقطعين لهذه الإعراب.
وقد يعلل زوال الحركات أو الإعراب عن أواخر الكلمات بأن العرب كانوا في الجاهلية، وفي صدر الإسلام مطبوعين على الحركة واحتمال المشاق في حلهم وترحالهم وفي مغازيهم، فما كانوا يجدون جهداً أو كلفة في تحريك أواخر الكلمات.
فلما خلدوا إلى الترف، وسكنوا إلى النعيم في المدن الزاخرة مالوا إلى الوقف والسكون.
ولا يخفى أن الإعراب أو تحريك أواخر الكلمات يقتضي جهداً لا يقتضيه الوقف والإسكان، ويمثل ذلك بعلل تسهيل بعض الحروف أو زوالها من النطق بتاتاً في هذه اللهجات حيث يتطلب النطق بها بذل بعض الجهد والطاقة. يجب أن تنظم هذه الأقطار رابطة وثيقة من الوحدة اللغوية أو الوحدة الأدبية، ولا يمنع ذلك قطرا من هذه الأقطار أن يستقل سياسيا عن سواه.
وهكذا نحن نرى رابطة الشعوب البريطانية تعززها رابطة وثيقة من الوحدة اللغوية.
وكم نوه قادة هذه الشعوب، وكم أشادوا بذكر هذه الرابطة، لأن في تعزيز هذا النوع من الوحدة ضمانا أكيد لكثير من مصالح الشعوب المذكورة معنوية ومادية، ومدعاة لتعاونها وتضافرها، واتحادها في الملمات. يروي فيما يروي عن بسمارك بطل الوحدة الألمانية أنه قال: أهم حقيقة يمكن تسجيلها في القرن التاسع عشر هي الوحدة اللغوية بين بريطانيا وأمريكيا.
والظاهر أن هذا الداهية الألمانية كان يحسب حساب هذه الوحدة، وخطرها البالغ على الشعوب الألمانية.
وقد قال تشرشل منذ أسبوع فقط أي في اليوم السابع عشر من هذا الشهر، وهو يخطب الأمريكيين بواشنطون ما هذا نصه: يجب أن نعمل في القرن العشرين على تحقيق ما قاله بسمارك في القرن التاسع عشر) هذا ما قاله تشرشل وهو يعني تعزيز رابطة اللغة الإنجليزية في بريطانيا وأمريكا.
وقد عملت الأمتان - والحق يقال - كل شيء في سبيل تعزيز هذه الرابطة حتى قادها ذلك إلى الظفر الحاسم في الحروب الأخيرة. إذا أرادت مصر أن يدري صوتها في المجامع الدولية، بل إذا أرادت أن تكون مرهوبة الجانب فعليها أن تستند إلى تعزيز رابطتها معنويا وماديا بشعوب الشرق، غير عابثة أن بهذه النعرات الإقليمية الهدامة، واللهجات المضرة بتلك الجامعة اللغوية. أدى تشعب اللهجات واضطرابات من ناحية الاختلاف البعيد في المنطق، وفي إخراج الحروف وما يترتب على فساد النطق بها من الانسجام إلى تكون مشكلة من المشكلات الاجتماعية، بيد أن حلها ليس بمعتذر، وهو يتوقف على إزالة هذه الفوارق بين لهجاتنا، وتوحيد النطق والتلفظ، وضبط الكتابة بموجب قواعد عامة توضع لهذا الغرض.
وليس ذلك بمستحيل على العاملين المجتهدين.
ولنأخذ مثلا كلمة (يصفق) إذ نجدها في اللهجة المصرية: (يسأف)، وهي كلمة مستحيلة اجتمع فيها القلب والإبدال، وما اجتمع الداء أن إلا ليقتلا.
وفي سوريا يقولون (يصفأ) بقلب القاف همزة، وفي العراق يقولون (يصفج) تنطق القاف كافا فارسية في العراق.
ومثل ذلك في كلمة (أول) التي تلفظ بفتح الواو في العراق، بينما يقال في اللهجة المصرية: (أول) بكسر الواو.
وفي كلمة (اضرب) كما تلفظ في العراق بكسر الواو.
في كلمة (اضرب) بفتح الراء مع قلب الضاد دالا، إلى ضروب أخرى من اضطراب المنطق وفساده في هذه اللهجة المختلفة باختلاف الأقطار.
وعلى هذا لا مناص لنا من إصلاح المنطق، وتقويم الألسنة، الحل الوحيد لهذه المشكلة، وفيه المحرج من هذا المأزق. إنا نقرهم على أن الإعراب في اللغة المحلية لم يعد علمياً وليس من السهل الالتزام به، ولكن التخلي عن الإعراب في المنطق شئ، والتخلي عن سلامة المنطق وتقويم اللسان وفتح الباب على مصراعيه للكلمات الدخيلة أو العامية الفاسدة شتى آخر.
وفي وسع الدول التي تعتز الآن بالفصحى وتنص في دساتيرها الأساسية على ذلك، وهي الدول العربية، وفي وسع الجهات المعنية بشئون الثقافة في الدول المذكورة أن تعمل كثيرا في هذا الشأن. فما المانع الذي يمنعها من العناية بتوحيد المصطلحات في معاهد العلم وفي غيرها من سائر مصالح الدولة؟ وما المانع الذي يمنعها من السعي إلى إصلاح المنطق وتوحيد اللفظ في اللهجات المختلفة على وجه يسهل التفاهم بها في المجتمع وبين الطبقات؟ وما المانع الذي يمنعها من توحيد مناهجها في تعليم اللغة العربية؟ لا نبالغ إذا قلنا إن المصري في لهجته إلا بعناء.
ولا يعد تغاير الكلمات، والتعابير المولدة خطراً كبيراً في حد ذاته على اللغة، الذي الكلمات عربي الأصل والمادة، ولكن الخطر الذي يتهدد الفصحى كامن في واضطراب واختلاف النبرات وتباين اللفظ، ليخشى أن تصطنع اللهجة الفاسدة المولدة في بعض الأقطار مع الأيام، وتنسى الأم التي ولدت منها.
ولولا الثقافة الإسلامية التي تقوم على أساس متين من مدارس الكتاب وتفسيره، ورواية الحديث وحفظه، لوقع ما كنا نخشاه. لقد آن للمجامع اللغوية، وفي طليعتها هذا المجمع المعنى بشئون الفصحى، وجعلها وافية بمطالب الحياة والحضارة في هذا العصر، أن تعني بهذه الناحية، وبالبحث عن طريقة لضبط النطق واللفظ في الأقطار، وتخليص لهجاتها من هذا الاضطراب.
ولا يستحيل ذلك في عصر تعددت فيه وسائل التفهيم والتلقين.
والمجمع بحكم وظيفته مطالب بالكف من غلواء دعاة اللهجات وتغليبها، خصوصا إذا علمنا بأن هذا الجفاء القديم بين الأم وبناتها الناشزات يسير إلى غاية تلك التي انتهت إليها اللغة اللاتينية مع فروعها، إذ سينتهي الخلاف فيما نحن فيه إلى وئام، وهو وئام تمهد له الآن صحافتنا العاملة في سائر الأقطار العربية، ولهذه الصحافة الراقية، ولدور النشر أثرها المحمود في هذا الشأن.
ولا ينكر أثر الصحافة المصرية في لهجة المجتمع أو الشعب، الآن أدنى إلى الفصحى مما كانت عليه قبل جيل.
ومرد ذلك إلى انتشار الصحافة المصرية الراقية، وتكاثر يوما بعد آخر، وازدياد عدد المتعلمين.
وكما تقلصت الأمية، وكوفحت في مصر، وفي أقطار الشرق العربي - وهي تتقلص وتكافح الآن في كل مكان - تضاءل خطر اللهجات على الوحدة اللغوية، ومرنت الألسن على المنطق السليم. محمد رضا الشبيبي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١