أرشيف المقالات

يا مصر!. .

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي أصدرت البصائر الغراء لسان حال العلماء المسلمين الجزائريين عددا خاصا بمصر افتتحه الأستاذ الجليل رئيس تحريرها في هذا المقال نسميك يا مصر بما سماك الله به في كتابه، فكفاك فخرا أنه سماك بهذا الاسم الخالد الذي تبدلت أوضاع الكون ولم يتبدل، وتغيرت ملامح الأرض ولم يتغير؛ وحسبك تيهاً على أقطار الأرض أنه سماك ووصفها، فقال في فلسطين: (الأرض المقدسة) و (القرى التي باركنا فيها) وقال في أرض سبأ: (بلدة طيبة) ولم يسم إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قربة.
فتهيئ وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفأل على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمة رعاية لا تحفر، وبجوار أمن لا يخزي جاره.
. نأسى لك - يا مصر - أن أنزلت الأقدر بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء، وجربت عليك الشقاء؛ وأن حبتك هذا الجمال الذي جذب إليك خطاب السوء من الأقوياء الطامحين، القواد الفاتحين؛ وأن أجرى فيك هذا الوادي العذاب الذي كان فتنة الخيال البشري، فلم يقنع، لمائة إلا بأن ينبطه من الجنة، وكان وثن القدماء من وراده فتقربوا إليه بالنذور والقوانين؛ وكان طغوى فرعون ذي الأوتاد، فحرك فيه نزعة الألوهية , فتوهم أن شاطئيه الأخضرين هما نهاية الكون وأنه كفاء لملك الله الطويل العريض؛ وأن وضعك من هذا الكوكب الأرضي في موضع الواسطة من القلادة، فتعلقت بك الأبصار حتى (كأن عليك من حدق نطاقاً)؛ وأن جعلك برزخاً فاصلاً بين الشرق والغرب، فكنت - على الدهر - مجال احتراب بين الشرق والغرب.
فصبراً يا مصر، فهذا الذي تعانيه هو مغارم الجمال والشرف والسلطة. سموك (عروس الشرق) فكأنما أغروا بك الخطاب، وهجهجوا فيك لآساد الغلاب.
ووسموك (بمنارة الشرق) فلفتوا إليك الأعين الخزر، ولووا نحوك الأعناق الغلب؛ ولو دعوك (لبؤة الشرق) لأثاروا - بهذا الاسم - في النفوس معاني رهيبة، منها دق الأعناق وقصم الظهور وتنزييل الأعضاء.
قديماً سموا بغداد (دار السلام) فجنوا عليها وكأنما دلوا عليها المغيرين؛ ولو سموها دار الحرب لأوحى الاسم وحده ما تنخلع منه قلوب الطامعين، وتخنس له عزائمهم، وتنكسر لتصوره الجيوش اللجبة.
فغفرا - يا مصر - فما هذه الأسماء إلا من هيام الشعراء. وما زلت - منذ كنت - مهوى أفئدة العظماء الفاتحين، فأخذوك اقتساراً وصلحاً، وحازوك وكرها، وما منهم إلا مهرك المهر الغالي، وساق إليك الثمين المدخر، بما خلد فيك من آثاره، وبما خلف فيك من سمات قومه ومعانيهم: حازك الاسكندر فخلد فيك الإسكندرية، وملكك قمبيز فخلف فيك شيات من فخار فارس وخيلائها، وحل فيك بطليموس فخلف فيك أثارة من حكمة يونان؛ وداعبك قياصرة الرومان فخلفوا فيك أثراً عظمة الرومان؛ وفتحك عمرو فمهرك بيان العرب كله، وهداية الإسلام كلها.
ففخراً - يا مصر - فهذه المخايل اللائحة على صفحاتك هي بقايا مهورك الغالية.
وإن أثمنها قيمة - وحقك - وأثبتها أثراً، وأبقاها بقاء وأشبهها بشمائلك - لمهر عمرو.

فما زلت منذ تفيأت ظل الإسلام الظليل، تجدين منه في كل داجية نجماً، ووراء داجية فجراً.
وما زلت كلما شكوت ضراً في دينك يخف إليك من يكشفه؛ كلما شكوت شراً في دنياك يحف إليك من يدفعه. خف إليك (جوهر) حين لحقتك علامة التأنيث، وتقلب على فراشك العبيد.
وخف إليك (صلاح الدين) حين أمتهن فيك الدين.
وخف إليك (سليم) حين لعبت بك أهواء المماليك.
وخف إليك (علي) حين تحكم فيك الصعاليك: تأخروا بركبك على زمانك، فألحقك بزمنك، وبالقوافل السائرة من بني زمنك، وأراد لك أن يكون محلك من الغرب إماماً، وأن تكوني من الشرق أما وأمة وإماماً، فما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثوراً، ووضعوا في كل فج فخاً، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في بر، فمن بعض ذلك كل ما تعانين. لئن كانت أزماتك في التاريخ كثيرة، فكلما إلى انفراج عاجل.
ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تبتلى بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدها زمنه بالقوة والأيد، وأن يستحيل حرماتك غاصب غريب لا تجمعك به نسبة الشرق، ولا يلتف منكما - إلى آدم - عرق بعرق، فيجعل منك أداة لكيده، وجارحة لصيده، ومعطية للصوصيته، وطريقاً لظلمته وظلامه.

فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك - لكان لك شرك في كل ما حمل الإنجليز من أوزار، ولجملك العدل كفلا من مآثمهم في الشرقيين.

إذ لولا قناتك ما ثبتت له على أديم الشرق قدم.
فليتك تعاسرت بالأمس فير حفر هذه القناة! أو ليتك تصنعين بها اليوم ما صنع العرب بمناة، فتوسعين هذه ردما كما أوسعوا تلك هدما.

حتى إذا ملكت أمرك حفرت ما يرويك، لا مالا يرويك.
وما فضل ماء استنبطته يداك، لينتفع به عداك؟ ذاد الأباة عن الحياض إلا لتكون لهم وردا. لا توحشنك غربة.

إن مئات الملايين من القلوب رفافة على جنباتك، حائمة مواردك , هائمة بحبك، تقطع الآنات في التفكير فيك.
ولا تقطع الأنات من الامتعاض لك.
وأن مئات الملايين من الألسنة رطبة بذكرك، متحركة بمدحك، ناطقة بفضلك، متغنية بمحاسنك.
وأن هذا لراس مال عظيم، لم تظفر به قبلك يدان.
أنت اليوم مثابة العروبة، في ثراك حيى بيانها، وبسقت أفنانها؛ وفي رياضك تفتحت أزهارها، وغردت بلابلها.
ففي ذمة كل عربي حر الدم لك دين واجب الوفاء، وهذا أجل الوفاء. وأنت اليوم قبلة المسلمين، يولون وجوههم إليك كلما حزبهم أمر، حلت بهم معضلة، وينفرون إلى معاهدك، يمتارون العلم منها، وإلى كتبك يصححون الفكر والرأي عنها، وإلى علمائك يتلقون الفتيا الفاصلة بين الدين والدنيا عنهم.
فلك - بذلك - على كل مسلم حق، وهذا أوان الحاجة إليه. وأنت اليوم مآزر الإسلام، فكلما سيم الهوان في قطر، أو رماه زنديق بنقيصة، فزع إليك واستجار بك، يلتمس الغوث، ويستمد الدفاع.
فلك على المسلمين في المشارق والمغارب فصل الحماية لدينهم، وعليهم إن يطيروا خفافا وثقالا لنصرتك، ثم لا منه لهم عليك ولا جميل. وكيف بك - مع هذا - لو كنت مظهرا للإسلام الصحيح، ولمته العليا في العقائد والأعمال والأحكام؟ - إذن لكنت قدوة في إحياء سنته التي أماتتها البدع، وفي إقامة أعلامه التي طمستها الجهالات، وفي بعث آدابه التي غطت عليها سخافات الغرب، وفي نشر هدايته التي طوتها الضلالات؛ وإذن لحييت وأحييت،.
ومن الغريب أنك قادرة على تغير ما بك من عهد الأدران ثم لم تغسلي.
وأنك قادرة على إعادة الإسلام إلى رسومه الأولى ثم لم تفعلي.
ويمينا برة فعلت لما حل بك ما حل.
ولو فعلت لقدت المسلمين بزمام، ولكنت - بهم - للعالم كله إماما أي إمام. وسبحان من قسم الحظوظ بين الجماعات فأعطى كل جماعة حظا لا تعدوه، وفرق الخصائص على البقاع فخص كل بقمة بسر لا يعدوها، فما زلنا نستجلي من صنع الله لك وللإسلام لطيفة سماوية، وهي أنه كلما رثت جدة الإسلام، وخالطته المحدثات، سطع في أفق من آفاقه نجم يهدي السارين إلى سوائه، وارتفع صوت بالدعوة إلى أصول هدايته، ثم لا يلبث ذلك النجم أن يخبو، وذلك الصوت أن يخفت؛ إلا نجما سطع في أفقك، وصوتا ارتفع في إرجائك.
وقد ارتفعت أصوات بالإصلاح الديني في أقطار الإسلام، وفي حقب معرفة من تاريخه، فضاعت بين ضجيج المبطلين، وعجيج الضالين، إلا صوت (محمد عبدة) فإنه اخترق الحدود وكسر السدود. عهدك التاريخ صخرة من معدن الحق، تنكسر عليها أمواج الباطل، فكوني أصلب مما كنت، وأرسخ قواعد ممل كنت، تنحسر الأمواج وأنت أنت. أقدمت فصممي.
.
وبدأت فتممي.

وحذار من التراجع، فإن اسمه الصحيح (هزيمة).
وحذار من التردد، فإنه سوس العزيمة. إنك فائز هذه المرة بأقصى المطلوب، لأنك أردت فصممت وإنما يعين الله من مخلوقاته المصممين.
وإذا كان المطلوب حقا، ثم صممي. أن قلبي يحدثني حديثا كأنما استقاه من عين اليقين، وهو أنك فائزة منتصرة ظافرة من هذه المعركة، لأنك استعملت فيها سلاحا كنت تنشدينه فلا تجدينه، وهو الإرادة يحدوها التصميم، يمدها الإيمان بالحق، يربط ثلاثتها الإجماع على الحق. إنك فائزة في هذا اليوم بالأمنية التي عملت لها قرونا، وإن فوزك فوز للعرب وللإسلام وللشرق.
فيا ويح دعاة الوطنيات الضعيفة المحدودة، إذا أقدم الأبطال نكصوا، وإذا زاد الناس نقصوا.
ويحهم، إن المستعمر سارق، وإن السارق الحاذق لا يسرق إلا في الظلمة أو في الغفلة، فإذا انحسر الظلام، أو انقشعت الغفلة ولى مديرا بالخبيثة والخسارة، وإن مصر لفي فجر صادق، وإنها لفي يقظة صاحية، فأي موضع يسع السارق فيها؟ صممي، وأقدمي؛ ولا يخدعنك وعد، ولا يزعجنك وعيد، ولا تلهينك المفاوضات والمخابرات، فكلها تضيع للوقت، وإطالة للذل.
ولقد جربت ولدغت من حجر واحد مرارا. أن الخصوم - كما علمت - لئام، فاقطعي عنهم الماء والطعام.
وإن اللؤم والجبن توأمان منذ طبع الله الطباع، فحركي في وجوههم تلك القوى الكامنة في بنيك يرتعد. صممي وقولي للمتعاقلين الذين يعذلونك على الإقدام: (وأضيع شيء ما تقول العواذل). انثري كنانتك - يا كنانة الله - فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تراعي.
واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد وهو العزائم والمادة التي تطفئ النار وهي اتحاد الصفوف، والمسن الذي يشحذ هذين وهو العفة والصبر.
فلعمرك - يا مصر - إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من النهار؛ وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالقلم الذي يزين الفاحشة وبالغي التي تخرب البيت وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث، وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة، وبالخمر التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب.
فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة.

ثم تصومي عن هذه المطاعم الخبيثة كلها.

إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم.

وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها.

فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك وانصرفوا.
.
وماذا يصنع (المرابي) في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟ نعمة من الله أن امتحنك بهذه المحنة، وأنت في مفترق الطرق.
ولو تأخرت المحنة قليلا لخشينا أن تسلكي أضل السبل. فرصة من فرص الدهر، هيأها لك القدر للرجوع إلى هدى محمد، ومحامد العرب، وروحانية الشرق.
فإن انتهزتها محوت آية الغرب، وجعلت آية الشرق مبصرة. ويا مصر، نحن وأنت سواء في طلب الحق ومطاردة غاصبة.
ونحن وأنت مستبقون إلى غاية واحدة في ظلام دامس؛ ولكنك أصبحت، فيا بشراك ويا بشرانا بك، ولم نزل نحن في قطع من الليل، نرقب الفجر أن يتبلج نوره، وما الفجر منا بعيد. محمد البشير الإبراهيمي

شارك الخبر

المرئيات-١