أرشيف المقالات

هبي يا رياح الخريف هبي

مدة قراءة المادة : 3 دقائق .
8 هبي وأحطمي هذه الأشجار الغلاظ التي تأكل خير الأرض، وتحجب نور السماء، وتقطع سبيل الناس، ولا تحمل إلا شوكا من غير ثمر، وخشباً من غير نفع، وخضرة من غير جمال! هبي يا رياح الخريف هبي!.
.
هبي واهدمي هذه الأوكار القباح التي اتخذت أشكال القصور وانتحلت أسماء الأندية، فباض فيها الشر باسم السياسة، وفرخ فيها الفجر باسم الرياضة، وأوت إليها أبابيل من البوم التي تعلن الخراب، والخفافيش التي تمج الظلام، والغربان التي تذيع الفرقة، فلا نرى فيها ولا نسمع منها إلا خمراً تعربد، وقماراً يصطرع، وترفاً يفسق، وسرفاً يدمر! هبي يا رياح الخريف هبي!.
.
هبي واكسحي هذا الغثاء العفن الذي زكم الطرق وسد المسالك مما فني من الجذوع وبلى من الفروع، وذبل من الأوراق، فأصبح شوهاً في الأعين وثقلاً في الأرجل؛ ثم لا يكون إلا أذى إذا عطنه المساء، وإلا قذى إذا أثاره الهواء، وإلا لظى إذا مسته النار! هبي يا رياح الخريف هبي!.
هبي واقشعي هذا السحاب المتراكم الذي أرتفع ارتفاع الدخان، وأنتفش أنتفاش العهن، فحجب الشمس، وحصر الأفق، وأحر الأرض، ثم لا نجد من ورائه مطراً يدفع الجدب، ولا ظلاً يمنع الحرور! هبي يا رياح الخريف هبي!.
.
هبي واقلعي ذلك النبات الدنيء الذي يتطفل على أشجار الوادي، فيتغذى على أصولها، ويتسلق على فروعها.
حتى إذا أدرك الهواء والضياء والرفعة، التف بمساليجه وكلاليبه على أعاليها التفاف الأفعوان، فيكظم أنفاسها فلا تنسم، ويشل حركتها فلا تميس، ثم يقول مشيراً بأطرافه الرخوة إلى كل عابر.
انظر! ألست أنا الأمير وهذا الشجر هو الفلاح؟ وإذا لم يسخر الله لي الشجر فكيف أنمو؟ وإذا لم يسخر الفلاح للأمير فكيف يسمو؟ هبي يا رياح الخريف هبي!.
.
هبي واعصفي بما ذكرت وما لم أذكر من زبد يقول أنه زبد، وسراب يزعم أنه شراب، وحطام مختلف من بقايا الشعوب والخطوب والعقائد والحضارات والأساطير يدعى أنه أمة! ولكنك يا رياح الخريف تهبين كل عام بين وقدة الصيف وخبوة الشتاء فتنكسين ما تنكسين، فإذا دارت الأرض دورتها الكبرى عاد كل شيء إلى حاله، ورجع كل شخص إلى ضلاله.
فأية ريح إذن تستطيع أن تنسف ما نعانيه من فساد تأصل في كل عمل، وتغلغل في كل أمر، وتدخل في كل حكم؟ لعلها الريح التي أهلك الله بها عاداً الأولى فأهلك معها الطغيان والبهتان والكفر! إنها الريح التي تصحبها الروح، والرجفة التي يتلوها البعث، والقرة التي يعقبها الربيع! أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣