أرشيف المقالات

في شعر عائشة التيمورية

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 1840 - 1902 للأستاذ محمد سيد كيلاني جمعت عائشة التيمورية شعرها في ديوان سمته (ملية الطراز) به 1396 بيتاً، منها 554 بيتاً في باب الغزل، والباقي في أغراض مختلفة. وقبل أن نخوض في غزل عائشة نريد أن نسأل أنفسنا سؤالاً وهو: هل يحق للمرأة أن تقول شعراً في الغزل؟ وإذا حق لها ذلك ففيمن تتغزل؟ أتتغزل في امرأة مثلها؟ أم تتغزل في رجل؟ الواقع أننا إذا نظرنا إلى ما وصل إلينا من آثار شاعرات العرب لا نجد لهن بيتاً واحدا في الغزل.
فمما لا شك فيه أن عائشة انفردت دون سائر الشاعرات العربيات بما نظمته في هذا الباب وقد تكون سلكت بذلك مسلكا وعراً، وجاءت أمرا إذا. إن طبيعة المرأة لا تسمح لها بقول الشعر الغزلي.
وذلك لأنها إذا تغزلت بامرأة مثلها كان هذا شذوذا منها، وهي لن تجرؤ على التغزل بالرجل، ونظرة المرأة إلى الرجل تختلف عن نظرة الرجل إلى المرأة، فإذا تغزلت المرأة في الرجل اختلف غزلها اختلافا كليا عن غزل الرجل فيها. والآن نستعرض بعض أمثلة من شعر عائشة في الغزل لنرى من أي نوع هو، ومدى ما فيه من صدق الشعور، قالت: أفديه حين نحيل الخصر منه بدا ...
يهتز من خوف ردف خص بالثقل بكر الكميت إذا دارت بحضرته ...
من وجنتيه غدت حمراء في خجل لو قابل البدر نشواناً بغرته ...
لصار طالع بدر الأفق في زحل وقالت: أفديه لما صحا من سكره سحرا ...
وللطلى أثر في خده باقي وقام يخطر والأرداف تقعده ...
وخصره يشتكي سقما لمشتاق وقال لي بلسان السكر خذ بيدي ...
فعذت من لحظة الماضي بخلاقي وقالت: الصب بالأعتاب أصبح يرتجي ...
عطفاً ولكن المنال بعيد أنسيت صدقي في حروب عواذلي ...
وجميعهم شاكي السلاح شديد قصدوا بوادي بالسلو وادروا ...
أن اصطباري في هواك أكيد ولقد أذعت هواك بين عواذلي ...
وسهامهم تدمى الحشا وتبيد فأنت ترى أن عائشة تذكر الحواجب والوجنات والخصر النحيل والأرداف المكتنزة والخدود والألحاظ، وتحدثنا عن وقوفها أمام أعتاب الحبيب وما كابدته من عناء وألم في سبيل الحب، وما لقيته من عذل العذال وكيد الوشاة والحساد، وغير ذلك مما يجري على ألسنة الرجال، ويتغنى به الشعراء عادة في قصائدهم الغزلية، فكأنها - والحالة هذه - تقمصت شخصية الرجل، وخلعت عنها أنوثتها. نصف شعر عائشة في الغزل.
فإذا قيل إنها كانت تروض القول كدأب الشعراء في ذلك العصر، فلم اختارت باب الغزل بالذات لتتخذه ميدانا للتمرن على القول؟ ولم أتت بهذا القول الماجن الذي يكاد يكون مكشوفا؟ إن كثرة تغزل المرأة بواحدة من جنسها، يخلق عندها شذوذا، ويبتعد بها عن طبيعة الأنوثة ابتعادا كبيرا.
وحبذا لو أنها لم تطرق هذا الباب.
والظاهر أن عائشة لم تكن مكتملة الأنوثة، ولذلك أخفقت في حياتها الزوجية إخفاقا تاما.
وهجرها زوجها، ثم إنها لم تذكر هذا الزوج ولا في بيت واحد من شعرها. ولقد أرادت عائشة أن ترفع لواء النهضة النسوية في مصر وحاولت أن تخلف حولها جوا أدبيا، لذلك صنعت هذا الغزل وكانت فيه متكلفة، ونشرته في حياتها، وهذه جرأة عجيبة وبخاصة في العصر الذي عاشت فيه، ولو أنك طلبت من فتاة تعيش في هذه الأيام أن تقول مثل هذا الغزل، لوجدت منها إعراضا تاما. وكان بعض أدباء عصرها قد نظم قصيدة جاء فيها: ماذا تقول إذا اجتمعنا في غد ...
وأقول للرحمن هذا قاتلي فأجابته قائلة: إن كان موتك من قسى حواجب ...
كالنون أو من سحر جفن ذابل أو غرة مثل النهار وطرة ...
كالليل أو من جور قد عادل أو من لحاظ تسحر الألباب إذ ...
تروى لنا سلب النهى عن بابل فهي التي فعلت ولم أشعر بما ...
فعلت فكيف تلومني يا سائلي أنا ما قتلت وإنما أنا آلة ...
في القتل فاطلب إن ترد من قاتل ومتى أريد قصاص سيف أو قنا ...
هل من سميع مثل ذا أو قائل والله قد خلق الجميل ولم يقل ...
هيموا بلين قده المتمايل ما قال ربك قط يا عبدي اطل ...
نظر الملاح ويا جميلة واصلي فعلام تطلب بالدعاء وتدعى ...
زورا وتطمع في محال باطل لبث الشعراء أجيالا طوالا يشكون من سهام العيون وسحر الألحاظ ويبكون لهجر الحبيب وامتناعه عنهم، ويتألمون لقسوته وإعراضه، ويطلبون وصاله ويتمنون قربه، فلم تنهض للرد عليهم امرأة واحدة.
وفي الحق أن هذا الجواب طريف ومفحم في نفس الوقت.
طريف لأنه لم يسبق له مثيل في الشعر العربي.
ومفحم لقوة حجته ووضوح بينته.
فأنت ترى مقدمة منطقية تنتهي إلى نتيجة لا يسعك معها إلا التسليم.
أما المقدمة فهي أن المرأة آلة وليست فاعلة للقتل، والنتيجة التي تصل إليها أن الآلة لا تسأل وإنما يسأل القاتل.
ثم انتقلت بعد تلك الحجة المنطقية إلى حجة دينية لا تقل إفحاما وهي: ما قال ربك قط يا عبدي أطل ...
نظر الملاح ويا جميلة واصلي ومن هنا تبطل دعوى من يطلب بدمائه المسفوكة لأن دعواه أقيمت على غير أساس كما تقول عائشة. ولو أن الشعراء من قديم الزمن سمعوا هذا الرأي واقتنعوا به لأراحونا من بكائهم ونحيبهم على هجران الحبيب.
.
وأعفونا من الشكوى من بعده وصده، ولفقد الشعر العربي جزءا كبيرا من ثروته. ولقد أضحكني قولها: وإذا رأيت الحب من ألم الجوى ...
هد القوى بشدائد البأساء عاطيه سلفات الحديد تكرما ...
من قلبك الجافي بكل رضاه فاستخدام سلفات الحديد هنا مما يضحك.
وهذه دعابة لطيفة. وكانت الشاعرة قد أصيبت برمد شديد لازمها شهورا.
وقد عانت منه مشقة كبيرة.
فنظمت في ذلك عدة قصائد وصفت فيها ما فعله الرمد بها وما جره عليها من البلاء.
وهذه القصائد جديدة في موضوعها.
والظاهر أن عائشة وجدت مجالا جديدا للقول، فانتهزت فرصة أصابتها بهذا المرض، وأنشأت في ذلك جملة قصائد.
وكان من المحتمل أن تصور لنا حالتها النفسية في هذا الشعر، وتنقل لنا إحساسها الداخلي الذي سيطر عليها آنئذ.
ولكنا - مع الأسف الشديد - نقرأ هذه القصائد فنجد أن هم الشاعرة هو التلاعب بالألفاظ والتعابير.
وهذا مما لا يفعله الحزين الذي برح به الألم، وأضناه السقم.
قالت: طفا ماء الجفون وما دنت بي ...
سفين الشوق من جودي الوصال وقد أصبحت في بحر عميق ...
من الظلماء مجهود الملال ضللت بليل أسقامي طريقي ...
إليكم سادتي فانعوا ضلالي فوا أسفا على إنسان عيني ...
غدا في سجن سقم واعتقال حجبت بسجنه عن كل خل ...
وصرت مخاطبا صور الخيال أإنسان العيون فدتك روحي ...
يهون لعود نورك كل غالي أترضى البعد عن عيني أليف ...
أضر بعزمه ضيق المجال وأنت تحاول أن تتلمس شعوراً ولو تافها في هذه القصيدة فيعجزك ذلك.
وكذلك كل ما نظمته في هذا الموضوع.
إلا أنك ستلاحظ أنها اتخذت من قصائدها الرمديات ميدانا للغزل.
فشخصت إنسان عينها وشرعت تتغزل فيه وتتألم لبعاده، وتتمنى قربه.
ومثال ذلك قولها وقالوا مات، قل موتوا بغيظ ...
فجعل القصد حيا قد أتاني وجدد بالوصال حياة روحي ...
أعوذه بآيات المثاني فدعني يا خلي والخل تخلو ...
ونكحل بالثنا جفن الأماني لمرآة الجمال ووجه بدر ...
دعاني يوسف الثاني دعاني حبيبي بالذي أعطاك نورا ...
تقود به كما ترضي عناني فهذه الأبيات تكشف عن نفسية خاصة.
فالشاعرة قد استحضرت في ذهنها صورة يوسف الصديق وقد امتنع عن امرأة العزيز حين همت به وغلقت الأبواب وقالت هيت لك فقال معاذ الله.
فشبت نفسها بامرأة العزيز وإنسان عينها بيوسف.
ثم تخيلت أنها نهضت وغلقت الأبواب وراودت يوسف عن نفسه وهمت به فلم يمتنع عليها ولم يقل معاذ الله، وهذا الغزل مهما كان من أمره - تظهر فيه الأنوثة.
وهو بذلك يختلف عن غزلها المتقدم الذي ذكرت فيه الأرداف والأعجاز، والمدى تقمصت فيه شخصية الرجل ونظرت إلى المرأة بمنظاره وفكرت فيها بفكره. وعائشة أول شاعرة تقول هذا الغزل الأنثوي المكشوف.
وهي بذلك قد خرجت على العرف والمألوف.
ولكنها كشاعرة لا يضرها هذا ولا ينقص من قيمتها ولا يحط من قدرها.
وأي شاعر موهوب حافظ على العرف ووقف عند التقاليد؟! وقد كررت في قصائدها الرمديات كثرا من الصور والمعاني والتراكيب.
.
ومثال ذلك قولها طفا ماء الجفون وما دنت بي ...
سفين الشوق من جودي الوصال وقولها: سفينة العين قد فازت من الغرق ...
وأشرقت تزدهي من ساحل الحدق فليس أمامها غير صورة سفينة.
فتارة تقول (سفينة الشوق) وتارة أخرى تقول (سفينة العين). ولعائشة التيمورية رثاء جيد.
ولا عجب في ذلك فالمرأة بطبيعتها تجيد البكاء وتحسن العويل وبخاصة إذا أصيبت بفقد بنتها أو أبنها أو والدها أو أمها، ومن أحسن مراثيها وأشهرها قصيدتها التي رثت بها بنتها (توحيدة) ومطلعها: إن سال من غرب العيون بحور ...
فالدهر باغ والزمان غدور ولكن يجب أن نلاحظ أن الأبيات الأولى من القصيدة فيها تكلف، وأن الشعور الداخلي فها لا يكاد يرى وأن الجزء المؤثر من هذه القصيدة يبدأ من قولها: طافت بشهر الصوم كاسات الردى ...
سحرا وأكواب الدموع تدور بعد أن ذكرت المرض وما فعله ببنتها وتحدثت عن الطبيب الذي جاء وبشر بالشفاء، أدارت حوارا على لسان بنتها فانطقها بأبيات إذا قرأها الإنسان تحدرت منه العبرات.
وهذه هو الشيء الذي أسبغ على تلك القصيدة روعة، وأكسبها قوة وضمن لها الخلود.
انظر إلى قولها. أماه قد عز اللقاء وفي غد ...
سترين نعشي كالعروس يسير وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي ...
هو منزلي وله الجموع تصير قولي لرب اللحد رفقا بابنتي ...
جاءت عروسا ساقها التقدير وتجلدي بازاء لحدي برهة ...
فتراك روح راعها المقدور عودي إلى ربع خلا ومآثر ...
قد خلفت عني لها تأثير صوني جهاز العرس تذكارا فلي ...
قد كان منه إلى الزفاف سرور جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا ...
لبس السواد ونفذ المسطور للكلام بقية محمد سيد كيلاني

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢