أرشيف المقالات

صحيفة مطوية في البلاغة العربية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للأستاذ أمين محمد عثمان لا يسعك وأنت تجول في ميدان الدراسات النفسية الحديثة، وتخوض في بحر الثقافة الأوربية الخضم، إلا أن تعترف لعباقرة العرب بفضل السبق في هذا الميدان، وتؤمن إيمانا بأن في التراث العربي العريق كنوزا مطمورة تحتاج إلى من ينقب عنها، ويخرجها من كهوف النسيان إلى عالم النور والعرفان لقد كان علم النفس القديم يرى أن إدراكنا للعالم الخارجي يبدأ بالأجزاء والتفاصيل، ثم يربط بين بعضها وبعض حتى يتألف الكل، فأنت - على هذا الزعم - حينما ترى الشخص تبدأ في إدراك أجزائه أولاً (شعره.
عينيه.
فمه.

الخ)
فإذا كررت النظر أدركت الشخص في جملته وهيئته.
وعلى هذه النظرية كانت التربية التقليدية إلى عهد قريب، تبدأ في تعليم الرسم بالخطوط والمنحنيات والدوائر والأشكال الهندسية ثم تنتقل بعد ذلك إلى رسم القصص والحوادث والمناظر الطبيعية، وعلى هذا الأسلوب سرنا ولا زلنا نسير في تعليم القراءة والكتابة على الطريقة الأبجدية، فنبدأ بتعليم الطفل حروفا ثم كلمات ثم جملا، ضاربين صفحا عن كل أساس سيكولوجي أو تربوي فلما ظهر علم النفس الحديث، وبزغت في أوائل القرن العشرين (مدرسة الصيغ الإجمالية) قلبت هذا الوضع رأسا على عقب، وقامت بتجارب شتى دلت كلها على أن الإدراك عند الحيوان والإنسان يسير من المجمل إلى المفصل، ومن الكلي إلى الجزئي، على العكس مما تقول التربية القديمة، فلو أنك ألقيت نظرة على شخص أو على صورة، لكان أول ما تراه من الشخص شكله العام، وأول ما تأخذه عن الصورة انطباعا مجملاً عاماً، فإذا أطلت النظر والتأمل، أودعتك ضرورة عملية إلى التحليل، أخذت تفاصيل الشخص أو الصورة تثب إلى عينيك واحدة بعد أخرى والإدراك الإجمالي أكثر ما يكون وضوحا وبروزا عند الأطفال والحيوان، فالطفل لا يحلل الأشياء في إدراكه، وليست به حاجة إلى التحليل، والعنكبوت لا يعرف الذبابة أن قدمت إليه لا على نسيجه، بل في مكمنه الذي يتربص لها فيه، كأن الذبابة جزء من كل، أن انفصلت عنه لم يعد لها معنى.
ومن أجل ذلك اختلفت الأفراد في نظرها إلى الأشياء، فنظرة الفنان إلى اللوحة الفنية غير نظرة الرجل العادي، لأن الأول يدرك من تفاصيلها ودقائقها ما لا يدركه الثاني، ونظرة الفلكي إلى السماء ليست كنظر سائر الناس وقد أجرى العالم النفساني (كهلر) تجارب على الدجاج أيد بها أن الكل سابق لأدراك أجزائه، فقد وضع بعض الدجاج في أقفاص تسمح لها بإخراج رؤوسها لتلتقط الحب من لوحة أفقية، ووضعت على اللوحة ورقتان رماديتان: إحداهما فاتحة والأخرى داكنة، وكلما حاولت دجاجة التقاط الحب من الورقة الفاتحة طردت، ومن الأخرى تركت، حتى تعلم الدجاج الالتقاط من اللون المقصود بعد (65) تجربة، ثم استبدلت الأوراق الفاتحة بأخرى أشد سوادا من الأوراق الداكنة.
فبادر الدجاج إلى الالتقاط من هذه الأوراق الجديدة، وهذا دليل قاطع على أن الدجاج لم يدرك كل لون على حدة، بل أدركه بالنسبة إلى الشكل الذي يضم اللونين معا، ولو كان يدري كل لون على حدة لأستمر يلتقط الحب من الورقة التي تدرب على الالتقاط منها.
وقد أحدثت هذه النظرية انقلابا خطيرا في التربية الحديثة، واستفاد منها المربون في أسلوب التربية والتعليم كما فعل العالم البلجيكي (دكرولي) في تعليم القراءة والكتابة، حيث سار على الطريقة السيكولوجية، فبدأ بالجملة ثم بالكلمة ثم انتهى إلى تعليم الحرف، وأخذ الفنانون ومدرسو الرسم يبدءون في تعليم الطفل برسم الحوادث والقصص والمناظر الطبيعية لأنها تلائم نفسية الطفل وعقليته على عكس ما كانت التربية القديمة هذا ما ذكره علم النفس الحديث.
وقد تراءى لي بعد البحث والتروي أثناء دراساتي بالعيادة السيكولوجية بمعهد التربية أن هذه النظرية على جدتها وقرب عهدها بالعصر الذي نعيش فيه ليست بالنظرية المبتكرة، ولا هي بالرأي المخترع - كما يدعي بعض علماء أوربا المعاصرين - فلقد سبق إليها عبد القاهر الجر جاني إمام البلاغة في عصره، منذ تسعة قرون.
ولعلك تغرق في الإعجاب إذا علمت أنه لم يخرم من هذه النظرية حرفا واحداً.
.
واليك ما ذكره عبد القاهر الجر جاني في كتابه (أسرار البلاغة) وكان في معرض الحديث عن التشبيه البليغ (إنا نعلم أن الجملة أبدا أسبق إلى النفوس من التفصيل، وأنك تجد الرؤية نفسها لا تصل بالبديهة إلى التفصيل، ولكنك ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر، ولذلك قال العرب! النظرة الأولى حمقاء، وقالوا لمن يصف الشيء على غير حقيقته: فلان لم ينعم النظر ولم يستقص التأمل.
وهكذا الحكم في السمع وفي غيره من الحواس؛ فإنك تتبين من تفاصيل الصوت بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية ما لم تتبينه بالسماع الأول، وتدرك من تفصيل طعم الذوق بأن تعيده إلى اللسان ما لم تعرفه بالذوق الأول، وبادراك التفاصيل يقع التفاضل بين راء وراء وسامع وسامع)
وهكذا يسترسل عبد القاهر في الكلام عن المحسات حتى يصل بك إلى قوله (والأمر في المعقولات كذلك، تجد الجملة أبدا هي تسبق إلى الأوهام وتقع في الخواطر أولا، وتجد التفاصيل مغمورة بينها، وتراها لا تحضر إلا بعد أعمال الروية واستعانة بالتذكير) أما بعد: فقد أن لنا أن نبحث في تراثنا العربي على ضوء العلم الحديث، لنكشف للعالم ما أثبتت التجارب العلمية صحته ومطابقته للواقع، ولا زال فينا - مع الأسف - من ينظر إلى هذا التراث نظرته إلى خرق بالية قد مزق أديمها، ولم يدر أن بها من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، ورحم الله (حافظاً) إذ يقول على لسان اللغة العربية: أنا البحر في أحشائه الدر كامن ...
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟ أمين محمد عثمان دبلوم معهد التربية العالي مدرس بمدرسة الرمل

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١