أرشيف المقالات

رسالة المربي

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 (ظهور المدرسة، الطريقة النفسية والمنطقية، التقاليد) للأستاذ كمال السيد درويش (بقية ما نشر في العدد الماضي) لقد عرف الإنسان الطريقة النفسية أولاً وعمل بها ثم أنتقل إلى العمل بالطريقة المنطقية.
والواقع أنه منذ أن نشأت المدرسة كمعهد علمي متخصص في تربية النشء، بدأ سلطان الطريقة المنطقية وأخذ يزداد حتى أصبحت في النهاية شبحاً مخيفاً جاثماً على صدور الأطفال الأبرياء.
وقد استطاعت هذه الطريقة فرض ديكتاتوريتها على التعليم ولا تزال حتى اليوم.
لذلك يمكن القول أن العلة الأساسية في فساد نظم التربية حالياً في جميع ميادينها المختلفة، سواء في المدرسة أو الأسرة أو المجتمع نفسه، إن هي إلا في العمل بتلك الطريقة المنطقية.
وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يدعو إلى التمسك بها والخضوع لغيرها؟ الواقع أن السبب الحقيقي الذي دعا إلى الاعتماد عليها هو ما تمتاز به من سرعة وسهولة.
ولقد جرب المربي في حياته واستخلص واستنتج ثم رتب خلاصه تجاربه خلال حياته في شكل نتائج وقوانين ونصائح وأخلاق وحكم وأمثال.
فما اسهل تلقين ذلك كله للناشئين وحثهم على العمل بها، سواء أرادوا أم لم يريدوا، قبلوا أم رفضوا، فهموا أم لم يفهموا.
إنما المهم أن يحفظوا بعقولهم الناشئة هذه الحكم القيمة والمعلومات النادرة والمثال السائرة.
وكيف لا تكون قيمة نادرة وقد بلنا كل مرتخص وغال في سبيل الحصول عليها؟ لذلك يجب على هؤلاء الناشئين أن ينصاعوا صاغرين وإلا فهم شياطين خاسرة لم تكتب لهم الهداية ولم يقدروا لهم التوفيق.
وإذا ضرب أحدهم بتقاليدنا ونصائحنا عرض الحائط.
إذا نأى عنها واعرض بجانبه سلقناه بالسنة حداد واعتبرناه خارجاً على التقاليد، تقاليد الآباء والأجداد.
ومارقاً كافراً ملحداً يستحق اللعنة ومختلف ألوان العذاب تلك هي أول مساوئ الطريقة المنطقية.
هي أنها تخلق تقاليد معينة لها حرمتها وقدسيتها ولا يمكن المساس بها.
وهنا يحق لنا أن تساءل، وما هو الضرر في تقديس التقاليد؟ وفي الخضوع لها؟ ولم لا يكون في التقديس والطاعة ما يرغب فيه؟! يجرنا ذلك إلى سؤ آخر: ولكن ما هي التقاليد؟! نحن نعني بالتقاليد تلك التعاليم التي كانت لدى الإنسان الأول، والتي لازمت المجتمعات الإنسانية منذ أن ظهرت على سطح الأرض، والتي لا تزال تحيا وتعيش حتى اليوم سواء في المجتمع البدائي أو المجتمع الذي وصل إلى أرقى درجات الحضارة والتقدم.
هي تعاليم يفرضها المجتمع فرضاً على أفراده الناشئين وعلى هؤلاء نقبلها في خضوع واستسلام دون مناقشة أو كلام إلا لأنها تقاليد واجبة التقديس.
إطاعة الكبير وتوقيره وإطعام الغريب وإيواؤه من بين الأمثلة العديدة على التقاليد السائدة في مجتمعنا الإنساني بوجه عام.
ولقد اتسع سلطان التقاليد فأصبحت ولها في كل ميدان سلطان.
.
وأي سلطان؟! هي في القرية غيرها في المدينة وهي في مدينة غيرها في الأخرى، وتجدها تظهر في الملبس وفي العادات وفي الأخلاق وبين جميع الأمم تجدها، وفي مختلف الطبقات تشاهدها.
لذلك لا نعجب داخل جدران المدرسة بطبيعة الحال.
بل يمكن القول أن عملية التربية بعد أن سارت على الطريقة المنطقية قد أصبحت هي نفسها تقليداً متبعاً.
وهنا يحق لنا أن نتساءل.
وما السر في وجود التقاليد؟! الواقع أن أي تقليد لم ينشأ إلا نتيجة عملية مارسها الإنسان على الطريقة النفسية الطبيعية.
شاهد الإنسان غيره وقد اصبح كبيراً مسناً في حاجة إلى احترام الناس ومعونته وتصور حاله اصبح مثله! عند ذلك أيقن أن احترام الكبير فيه احترام للجميع ووقاية من التحقير على يد الصغير.
لذلك تمسك الإنسان بهذه الفكرة، فكرة احترام الصغير الكبير وجعلها تقليدا إحاطة - وهو يلقنها للصغار الذين لا يعلمون عن سر حكمتها شيئاً - بهالة من التقديس وذلك حتى يضمن بقاءها والعمل بها.
وهكذا غدت تقليدا يحافظ عليه أفراد المجتمع.
ولذلك يمكن القول أن من الممكن أن ترد كل تقليد ظهر في أي مجتمع من المجتمعات إلى ظروف خاصة دعت أولاً إلى وجوده وأدت ثانياً إلى بقائه كأن تكون له أهمية حيوية بالنسبة لحياة المجتمع التي نشأ فيه.
إن الكرم عند البدوي في البيداء هو تقليد حيوي ضروري تمليه البيئة الصحراوية.
ولقد نمت التقاليد بنمو المجتمع الإنساني وتحضره ولكن لم نوافق على أن تصبح التقاليد نفسها أهدافاً تربوية ما دامت التقاليد في حد ذاتها خلاصة الخبرة السابقة للمجتمع الإنساني مصوغة في قالب التقاليد لتسهيل المحافظة عليها وفرض الطاعة لها؟! الواقع أن التقاليد إذا كانت تحتوي على خير كثير فإنها تحمل في طوياها من الشر إضعاف ما تحمله من الخير.
ولكن من اين جاء ذلك الشر الذي ترمى به التقاليد؟! الواقع أن الضرر الناجم عن التقاليد يرجع إلى طريقة تعليمها.
.
إلى فرضها على الناس مجردة عن الخبرة الجدية التي توضح السر في قيامها والغرض من وجودها والظروف نشأت فيها، إلى فرضها منطقيا على الأفراد الجدد، في المجتمع، هؤلاء الذين لا يدركون من أمرهم ولا من أمر مجتمعهم شيئاً.
كن كريماً.
هذا صوت المجتمع يأمره فعليه أن يطيع.
هو تقليد جرى عليه العرف والناس.
ولكنه في هذا الشهر قليل الدخل مختل الميزانية فهل يخرج على التقاليد؟ كلا.
.
ليتكرم.
.
وإذا لم يجد المال فليستدن نفقات الكرم وليتورط إلى أعماق أذنيه في الديون.

ولن يهمه شي.
.
لن يهمه إفلاس يهدده ولا إملاق يدمره ما دام قد أرضى صوت التقاليد.

وهكذا يصبح الإنسان عبدا ذليلا خاضعا لسلطان التقاليد إن ضرر التقاليد يأتي من التقيد التام بحذافيرها.

من تقدسيها والتمسك بها والخضوع التام لها.
ولكن أي ضرر في ذلك؟ ولم لا نتمسك بها ونخضع لها ما دامت كما ذكرنا الخلاصة النهائية لمجهود الأجداد؟ ولا بد من وجود سبب رئيسي يؤدي إلى هذا الخضوع ولك الاستمساك.
إن هذا صحيح ولكن التقاليد تحتوي إلى جانب ذلك الخير على شر كثير، ولكن كيف جاءها ذلك الشر؟ إن تفسير ذلك من البساطة بمكان لقد جبل الإنسان على المباهاة بعلمه ومداراة جهله ونظر في الحياة فما استطاع معرفة أسبابه من غوامض شؤونها ومظاهرها، بادرة إلى ذكره، وما لم يستطع عليه أن يكشف عمله جهله، وتظاهر كعادته بالعلم والمعرفة وأخذ يخترع له من الأسباب والعلل ما يوهم بأنه بكل شيء عليم.
كان المرض ظاهرة غامضة بالنسبة للإنسان الأول.
ولا تزال ظاهرة المرض غامضة لدى الكثير من المجتمعات البدائية.
هم يجهلون أسبابه كما كان الإنسان الأول.
ليعللوه إذن بمختلف العلل والأسباب بدلاً من الاعتراف الصريح بالجهل التام.
هو لعنة من الله ونقمة فإذا كان المريض صالحاً طيباً لا يستحق اللعنة كان المرض في هذه الحالة امتحاناً واختباراً.
وهكذا تسير التقاليد على هذا المنوال.
وفي هذا يكمن الخطر.
ذلك أن التقاليد - بتفسيرها الخاطئ لكل ما هو مجهول غامض - تقفل باب التفكير أمام المفكرين، بل تحول بينهم وبين العمل لمعرفة العلل الحقيقية والأسباب المجهولة للظواهر الغامضة.
أن حقيقة المرض بطبيعة الحال ليست في كونه نقمة أو نعمة، بل في تلك الجراثيم الحية التي أكتشف العلم الحديث بعض أحوالها ولا يزال يجاهد في سبيل اكتشاف ما خفي عليه من أمورها.
ألم يكن هذا التفكير العلمي أول خطوات التقدم العملي في سبيل التخلص من شبح الكثير من الأمراض؟ حقاً أن التقاليد بقدسيتها وديكتاتوريتها وجمودها وادعاءها سلاح قتال بل سم زعاف لو تناولته لتربية لأوردها موارد الهلاك.
قد تنفع التقاليد في مبدأ ظهورها، ولكن مضى الزمن وتغير الظروف سرعان ما يظهر عيوبها وخطرها.
إن التقاليد أبدا تأبى إلى أن تقف حجر عثرة في سبيل كل تفكير حر منتج مبتكر.
التقاليد هي الحاجز المنيع أمام رقي المجتمع وتقدمه.
هي العقبة الكؤود.
هي السلاسل والأغلال.

هي القيود الحديدية.

كم من عقول حجتها التقاليد فتحجرت، وآمنت بالتقاليد فما فكرت.
ان المجتمع الخامد الهادئ.
.
النائم ليل نهار، الساكن سكون العدم والراقد رقود الموت، هو المجتمع الذي يخضع خضوع العبد الذليل لتقاليده.
حقا كلما ازدادت قوة التقاليد انحط الشعب وضعف، وكلما ضعف سلطانها أو زال تقريبا ازداد تقدم الشعب ورقيه.
إن نظرة واحدة إلى الصين تقابلها نظرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد هذه الحقيقة أعظم تأييد لقد قيدت التقاليد التربية حين قيدت الحرية، حرية العقل الإنساني في التفكير الحر المستقل , , حين قدمت تفسيراتها الخاطئة الخيالية التي لا تتمشى مع العقل ثم طالبت الإنسان باعتناقها والإيمان بها والدفاع عنها - وأغفل العقل إذا اعترض والتفكير إذا قاوم - أليست تقاليد الأباء والأجداد؟! حقاً لقد لعبت التقاليد دورها التربوي الخطير خلال التاريخ، فهي التي سيطرت داخل المدرسة عن طريق الطريقة المنطقية، تلك الطريقة التي وطدت نفوذها وسلطانها حتى اصبح من المعتاد مثلا أن يطالب التلميذ بحفظ هذا وترك ذاك دون أن يعلم السر في ضرورة حفظ هذا أو ترك ذاك لم يقبل العقل الإنساني الخضوع لدكتاتورية التقاليد، فكان أن ثار وتذمر واندفع يحطم تلك العبادة.
إلى يتجلى ذلك في مختلف الحركات الكبرى والثورات الفكرية التي قام بها كبار الفلاسفة والمفكرين خلال العصور؟! نعم يتضح ذلك جلياً في كثير من المواقف.
في موقف إخناتون خلال التاريخ القديم، وفي قيام الكثيرين من كبار المصلحين في الدين المسيحي وفي الإسلام.
.
في مارتن لوثر وفي جمال الدين.
ولكن بالرغم من قيام الكثير من هذه الحركات لهدم أصنام التقاليد إنها غدت بدورها وقد حلت محل التقاليد وتجلى ذلك في التعاليم الدينية بوجه خاص، ولا سيما حين قام المتأخر ون من رجال الدين أخذوا خلاصة التعاليم والحكم وقاموا بترتيبها وتنسيقها، تاركين الظروف التي دعت إليها، أو بعبارة أصح قاموا يدرسون الدين ويعلمونه على الطريقة المنطقية تاركين الطريقة النفسية الطبيعية في تعليمه، وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت تعاليم الدين مسيحية كانت أو إسلامية، وقد اندمجت في التقاليد واختلطت بها اختلاطاً تاماً ولم يتورع رجال الدين عن التمسك يحرفيتها، ووقفوا حراساً على قدسيتها.
وعن طريق هذا السياج المقدس من التقاليد الدينية، استطاعوا إقامة تلك الدكتاتورية الدينية التي كانت أشد وأقسى من دكتاتورية التقاليد الاجتماعية العادية.
وقد امتازت العصور الوسطى بتلك الدكتاتورية الدينية المتحكمة.
وبقدر شدة الضغط الذي عاناه المجتمع لك الحين، بقدر ما تولد الانفجار قوياً شديداً.
ذلك الانفجار الذي يتمثل في انطلاق التفكير الحر الذي أتجه أو ما أتجه إلى نسف تلك الأغلال والقيود.
قام مارتن لوثر يحتج، وانفصل أنصاره عن الكنيسة الكاثوليكية فتلاه اليسوعيون بحركة إصلاح ولذلك كانوا أقرب إلى رضاء المجتمع.
حدث هذا في المجتمع المسيحي بينما اشتدت ظاهرة التصوف في المجتمع الإسلامي، وكانت حركة التصوف كحركة مارتن لوثر ترمي إلى التحرر من سيطرة التقاليد الدينية بنبذها وعم التقيد بها، كذلك وجدت في المجتمع الإسلامي وكانت إصلاحية لم تلجأ إلى نبذ التقاليد الدينية دفعة واحدة بل إلى تنقيتها وتثبيت الصالح منها، وقد قامت هذه الحركات على يد كبار المصلحين من السنيين كابن تيميه وغيره الذين قاموا بدور شبيه إلى حد كبير بذلك الدور الذي قاموا به اليسوعيون.
لقد كانت هذه الحركات في كل من المجتمعين المسيحي والإسلامي، ترمي إلى التحرر من سيطرة التقاليد العمياء، لا عن طريق نبذها واحتقرها وإنكارها، بل عن طريق فهما وبث الروح فيها، أو بعبارة أصح عن طريق تعلمها وتعليمها بفهم الظروف أو الدواعي التي أدت إليها، أي بالسير وفق الطريقة الطبيعية النفسية.
وهكذا ظل المجتمع الإنساني خاضعاً لسلطان التقاليد، يتخلص من احتلالها البغيض حيناً ليقع في أحابيلها ثانياً، سواء باسم الدين أو باسم السياسية. ويوضح ذلك التخبط بجلاء تاريخ الجزء الأخير من العصور الوسطى حتى مطلع العصور الحديثة، ذلك الجزء الذي يمثل بحق تأرجح المجتمع بين دكتاتورية التقاليد وبين رد الفعل الذي يحدث عادة متى تحرر المجتمع من كل شيء ونبذ كل قيد.

متى تذوق الحرية المطلقة حقاً أن النهضة الأوربية ثم جهود جاك جاك روسو ثم جهود أعلام التربية في العصر الحديث ما هي إلا بعض مراحل الكفاح ضد التقاليد، ما هي إلا حركات ترمي إلى التخلص من قيودها، وإحلال الحرية وتوطيد دعائمها محلها ويتضح من ذلك العهد السريع إن رسالة المربي يجب أن تتجه إلى العمل بالطريقة النفسية ونبذ الطريقة المنطقية، أو بعبارة اصح في القضاء على دكتاتورية التقاليد وإقامة قوائم الحرية وهنا يحق لنا أن نتساءل عن معنى الحرية.

تلك الحرية يجب على المربي إن يجعل من المحافظة عليها بعض أهداف رسالته الكبرى في الحياة؟! ذلك هو موضوع المقال القادم بأذن الله كمال السيد درويس ليسانيسه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي مدرس بالرمل الثانوية

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن