أرشيف المقالات

فلسفة الإيمان

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 للأستاذ حامد بدر بعض الناس يأتي الإثم فتنهاه تارة، وتزجره أخرى، فلا يزداد إلا مواظبة على ما هو فيه؛ كأن المعاصي هي الدماء التي تبث في كيانه الحياة! وهذا لا يعترف بالخطب والمواعظ والمحاضرات التي تدعو إلى الفضيلة، وتحض على التقوى، ولا يؤثر حالاً على تلك الحال قال الواعظ المتعبد للعاصي المسرف في الذنوب: - أنت اليوم في الدنيا، فما لك لا تعمل فيها من الصالحات ما ينفعك بعد الممات؟ فأجاب العاصي: - إن اللذة الحاضرة لا تتاح كل يوم، والغد المجهول ليس في يدك ولا في يدي.
فدعني أفعل ما يطيب لي، وآخذ من حاضري ما أتيح اليوم، وبعد اليوم قد لا يتاح قال الواعظ - ليس من الصواب أن تضيع الباقي من أجل الفاني.
قال العاصي: - بل من الخطأ أن تضيع ما في يدك، وانتظر ما لا تملك قال الواعظ: - كيف تيأس من الغد وقد وعد الله المؤمنين خيراً، وأعد للكافرين عذاباً! قال العاصي: - ومن أين عرفت المؤمنين وغير المؤمنين، وحكمت بأن من أباح لنفسه متاع الدنيا ليس بمؤمن؟ قال الواعظ: - عرفت هؤلاء وهؤلاء بأعمالهم، وحكمت بأن من تشغله الدنيا لا يعمل للآخرة ولا يستحق نعيمها قال العاصي: - كلا يا صاح.
إن الإيمان والكفران من الأسرار التي استقرت في أعماق القلوب، والع الظاهر ليس وحده كفيلا بالثواب أو العقاب قال الواعظ: - إن لنا أن نأخذ بالظاهر، وليس علينا أن نتنبأ بما خفي قال العاصي: - إن كنت تأخذ بالظواهر، فكم للظواهر الكاذبة من ضحايا، وإن الخفي على الناس لا يخفى على الله، فما لنا لا نترك الأمر كله لله؟ قال الواعظ: - علينا أن نطيع ما أمر الله به، ونتجنب ما نهى عنه قال العاصي: - إن المذنب الذي لا يستكثر ذنوبه على رحمة الله خير من العابد الذي يظن أنه بعبادته استحق جنة الله، واستأثر برحمته سبحانه.
وإن الذي يطمع في رحمة الله برغم كثرة ذنوبه لأكثر إيماناً ممن يزعم أنه دفع ثمن الجنة عملاً صالحاً! قال الواعظ: - إن لم يكن العمل الحسن هو الطريق المؤدي إلى الجنة، فهل نصل إليها من طريق السيئات؟ وهنا رأيتني مدفوعاً إلى الكلام، فقاطعت الواعظ مستأذناً وقبل أن أدخل في موضوع لا حديث قال الواعظ: - ألا توافقني؟ قلت: - ليس في كل ما تقول قال: - إن كان لك اعتراض فهاته قلت: - لي رأي وسط، فإن رضيتماني حكماً غير متحيز لأحدكم كان ذلك ما أردت.
قال: - هات رأيك قلت: - لا شك في أن الإيمان سر من الأسرار المستقرة في القلوب، ولكن آثره الطيب يظهر في الخارج ظهوراً جلياً، فإن العمل بمقتضى الإيمان غير العمل بمقتضى الكفران، والسير في طريق الطاعة غير السير في طريق العصيان.
ومن الذنوب ما يغفر ومنها ما لا يغفر، وأقربها من المغفرة أبعدها عن الإصرار والصالحات الظاهرية المشوبة بالرياء لا تنفع عند الله ولا عند الناس، بل لا يصح أن يسمي صالحاً ما ليس خالصاً، فإن الرياء إذا اختلط بعمل حبط، وذهبت الحكمة من أجلها شرع، ولنضرب لذلك مثل الذي يعطى فقيراً ثوباً مكتوباً عليه تلك العبارة: صدقة من فلان إلى فلان! فإذا كان المقصود من الثوب هو الستر فكيف يجمع ذلك الذي زعم أنه محسن بين الستر والفضيحة فيكسو العاري بثوب، ويجرده في الوقت ذاته بمنه وأذاه؟! الإيمان في القلب، ومن السهل استشفافه من آثاره الطيبة الدالة عليه فمن آمن عمل بمقتضى إيمانه، وسبقت نيته الطيبة عمله الطيب، فأنى بالخير لأنه خير وكفى، لا ابتغاء الظهور بمظهر الورع والصلاح وليس اجتناب المعاصي دليلاً على اليأس من رحمة الله، كما أن رحمته سبحانه ليست وقفاً على الطائعين وحدهم، بل وإنما تشمل العصاة التوابين الذين يرجعون إلى ربهم وإلى أنفسهم نادمين، ولم يؤيدوا العصيان بالإصرار حامد بدر

شارك الخبر

المرئيات-١