أرشيف المقالات

بين المتنبي وكافور

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 دراسة يائية المتنبي في مدح كافور للأديب نور الدين شمسي ليس يعنينا في دراستنا لقصيدة المتنبي أن تقف على كل شاردة وواردة فيها، نشرحها ونعللها ونبين ما تنطوي عليه من معنى وما تحويه من لو أن القبح أو الجمال، لأن هذا يخرج بنا عن نطاق الدراسة العاجلة التي نريد بها اليوم أن تقف على قصيدة الدراسة العاجلة التي نريد بها اليوم أن تقف على قصيدة المتنبي جملة فنقرر ما إذا كنا نستطيع أن نرفع من شأنها لنضعها في عداد فوائده وروائع قصائده.

أو أن نضع من شأنها فتلقي بها بين قصائده التي ابتعد فيها عن عبقريته وانحط من عليائه.
.
أو أن نلتمس لها مكانة بين المكانين لا نرفعها ولا نضعها.
.
وإنما ننظر إليها على أنها قصيدة استوى فيها عمود الشعر وأخذت من جماله بنصيب. الحق أن المتنبي ليس كغيره من الشعراء، وإذا أردنا أن ندرس قصيدته فما ينبغي لنا أن ندرسها كما ندرس أية قصيدة أخرى لأي شاعر آخر.
.
وإنما يجب أن نراعي خلال ذلك اعتبارات لن نستطيع مطلقا أن نفهم القصيدة ما لم نقف عندها مليا ونتأملها طويلا. فالمتنبي شاعر طموح كبير النفس، لازمه طموحه منذ أن كان صبيا حتى وافاه أجله وانتهى إلى نهايته.
.
وطموحه هذا هو الذي جعله في كثير نم الأحيان يخرج عن المألوف فيفخر بنفسه فخرا لا يدانيه فخر، ويعجب بقوته عجبا لا يماثله عجب، وينظر إلى نفسه على أنها من نفوس الملوك والأمراء وإن وضعتها المقادير غمطا وإجحافا في مصاف الشعراء الذين لا حول لهم ولا قوة: همتي همة الملوك وإن كا ...
ن لساني بري من الشعراء إذا فهمنا هذه الناحية من حياة أبي الطيب فقد وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام أعذار جمة نستطيع معها أن نقبل من المتنبي إسرافه في مدح كافور في يائيته. ذلك أن نفس أبي الطيب كانت تتململ بين جنبيه وتأبى أن تظل هكذا بعيدة عن العظمة التي خلقت لها بينما يتمتع بها أناس ليسوا بأحسن منه حالا ولا بأطول باعا ولا بأرسخ في العلم قدما.
ولذا نراه يطلبها جادا وبأي ثمن فيمدح العبد ويقدم بين يديه الشعر الرفيع والقصيدة الخالدة وكأني بنفسه تكبر ذلك وتأباه، وكأني به ينكر ويكذب ما يقول ولكنه يرضاه مرغما ليشبع في نفسه نهما إلى الملك والعظمة وكبار الأمور.
ولو لم يكن تكن بين جنبي أبي الطيب تلك النفس الكبيرة لرضى بصغائر الأمور وحقائرها ولقنع بما قنع به غيره من عطاء الملوك ونوال الأمراء. لم تكن قصيدة المتنبي في مدح كافور ضربا من المدح المعتدل، وإنما كان فيها إغراق في لا تعظيم وإسراف في الثناء.

وما للمتنبي من غرض يبتغيه إلا أن تبلغ القصيدة قلب الممدوح وتصل إلى وجدانه.

وما كان له من غابة، بعد ذلك إلا أن يستجيب له ذلك القلب وهذا الوجدان فيبلغه القصد ويدنيه من الأمل. ولذلك نستطيع أن نسيغ تلك المبالغة التي نثرها في قصيدة بغير حساب.
.
ثم لا نكتفي بذلك بل لا نملك أنفسنا من أن نردد بكثير من الطرب والإعجاب قوله: كتائب ما انفكت تجوس عمائرا ...
من الأرض قد جاست إليها فيافيا غزوت بها دور الملوك فباشرت ...
سنابكها هاماتهم.

والمغانيا وأنت الذي تفشي الأسنة أولا ...
وتأنف أن تغشى السنة ثانيا إنها مبالغة لا شك.
.
ولكنها على جانب كبير من الروعة والجمال، ومن ذا الذي يمنع الشاعر أن يملأ ماضغيه بمثل ذلك وما ميدانه إلا الشعر.
.
وما قوامه إلا الخيال الواسع البعيد؟ لننتقل الآن إلى العاطفة، ولنفتش عنها بين أبيات هذه القصيدة فهل نرى لها أثرا.
.
وما حظها من القوة ونصيبها من الصدق؟ لا نستطيع أن نحكم بان المتنبي كان صادقا في مدحه لكافور لأنه إنما كان يمدحه حبا في الوصول إلى غرض معين.
.
ولكن كيف استطاع المتنبي أن يكسب قصيدته هذا اللون من القوة والتأثير وكيف استطاع أن يرضي كافورا - وإن لم يصل به رضاه إلى حد الاقتناع فالاستجابة؟ والواقع أن المتنبي لم يكن يضمر لكافور شيئاً من الحب كما أنه لم يكن يضمر له شيئا من البغض.
.
وكل ما هنا أنه كان يطمع في أن يصل إلى شيء عن يديه بواسطته.
.
إذاً فما له لا يستعمل براعته في أن يجعل من قصيدته هذه قصيدة صالحة لأن تقدم إلى ملك بغية التأثير عليه وأملا في تحريك قلبه ووجدانه، وما هي حينئذ آلته إلى ذلك؟ يقول أميل فاكيه في عبقرية شاتوربريان (إن العاطفة والجمال هما قوام الشاعر.

ولكن يكفي أحد هذين العنصرين إذا كان ممتازا أو قويا، وإن كان اجتماعهما عند شاعر ينتج أروع الآثار)
إذاً فلم يلجأ المتنبي إلى خياله الخصب ما دام أحس برودة عاطفته وجمود إحساسه وله في الخيال كعب عال وسبق وتبرز؟ وما لنا ألا نفتش عن سبب جمال القصيدة في ميدان الخيال بع أن بحثنا في ميدان العاطفة؟ إلا ترى إلى هاتيك الجرد الخفاف كيف صورهن خياله على ابرع شكل وبأرع صورة.

وكيف وضع أمام ناظريك صورة ذلك القطيع من الجياد: يدب أناء الليل وأطراف الناهر ليبلغ كافوراَ ولو بعد المسير إليه: وجرداً مددنا بين آذانها القنا ...
فبتن خفافا يتبعن العواليا وتنظر من سود صوادق الدجى ...
يرين بعيدات الشخوص كما هيا وتنصب للجرس الخفي لسوامعا ...
يخلن مناجاة الضمير تناديا بعزم يسير الجسم في السرج راكبا ...
به ويسير القلب في الجسم ماشيا قواصد كافور توارك غيره ...
ومن قصد البحر استقل السواقيا أولا ترى أن الخيال وحده هو الذي ملأك دهشة وإعجابا. وانظر إلى هذا البيت الذي اعتمد على العاطفة وحدها إلا نحس ببرودته وتشعر بجموده: أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا ...
إليه وذا الوجه الذي كنت راجيا إن الخيال مرة، والمبالغة مرة ثانية، وهذه الموسيقى العذبة تراها شائعة في كل أنحاء القصيدة، وهذا البحر الطويل الملائم الذي اختاره لقصيدته.
.
وذلك الأسلوب الرصين والديباجة المشرقة التي لا تستطيع أن تذل عليها ببنانك وإنما تشعر بها بجنانك.
.
هذا كله وشيء من الصناعة الطريفة التي جاءت م غير كد ولا تكلف، ساهم في إعطاء القصيدة درجة ممتازة ومكانة رفيعة بين سائر شعره وقصيده. على أنه لا يبتغي لنا أن ننظر إلى القصيدة بعين واحدة فحسب هي عين الرضا والارتياح وإنما يجب أن ننظر إليها بالعين الأخرى لترى ما إذا كان عناك بعض ما يؤخذ عليها من عيوب: لئن كنا أعجبنا كثيرا ببعض ضروب المبالغة التي جاءت في قصيدة المتنبي اليائية، إلا أن ذلك لا يمنعنا أن ننكر بعضها الآخر ونستقبحه ونستذريه.
ولئن سوغنا له أن يتحدث عن شجاعة كافور وبسالته بالمقدار الذي أراد، إلا أننا لا نسوغ له مطلقا أن يجعل الجنس السامي كله وما يملك من نفس ومال فداء له مبالغة في الثناء وإسرافا في الامتداح: ومن قول سام لو رآك لنسله ...
فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا كما أننا نكر أن يقول المتنبي مثل هذا القول: فتى ما سرينا في ظهور جدودنا ...
إلى عصره إلا نرجي التلاقيا لأننا ما عهدنا المتنبي يقول ذلك وهو الذي قال صغيرا: أي مكان أرتقي ...
أي عظيم اتقي وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق محتقر في همتي كشعرة في مفرقي وهو الذي قال كبيرا: سيعلم الجمع من ضم مجلسنا ...
بأنني خير من تسعى به قدم كما قال: وكيف لا يحسد امرؤ علم ...
له فوق كل هامة قدم ومما يجعلنا نشتط في إنكارنا هذه المبالغة في هذه الأبيات التي مرت بنا، انه ينشدها في أول زيارة لكافور حين كان هذا يعلم تمام العلم أن المتنبي لم يحبه بعد ولم يعرف عن سجاياه ما يجعله في عينه يستحق مثل هذا الإطراء، الأمر الذي أدخل الشك غلى نفس كافور وعرفه بأن هذه المبالغة إنما هي مبالغة في التملق والرياء لا في المدح والثناء. ولو اقتصر المتنبي على الإغراق في المدح لهان الأمر.
.
ولكننا نراه منذ أول قصيدة أنشدها في كافور يلوح به بما في نفسه ويطلب منه الإمارة والولاية فيدرك كافور الغرض من مجيئه ويعرف سر هذه المغالاة في مدحه وتعظيمه. ولو اقتصر الأمر أيضا على الإغراق في المدح والمطالبة بالولاية لا لتمسنا له بعض العذر - مكابرين - ولكنه أرادها جائزة تليق بعظمته، بدون ستر، أو إخفاء: وغير كثير أن يزورك راجل ...
فيرجع ملكا للعراقيين واليا فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا ...
لسائلك الفرد الذي جاء عافيا وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ...
يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا مما جعل كافور يخاف من نواياالمتنبي ويقول كلمته المعروفة (يا قوم إن م ادعى النبوة بعد محمد (ص) ألا يدعى الملك بعد كافور؟ فحسبكم) وشيء آخر لا نريد أن نمر بالقصيدة دون أن نقف عنده بعض الشيء، وهو خلوها من فخره بنفسه على عادته في مدحه للآخرين.
.
وغن كان المدح الأمثل يتطلب ذوبان شخصية المادح في شخصية الممدوح، إلا أننا نذكرها هنا وخروجه هذا عن عادته لندل أيضا على ما في هذه القصيدة من مبالغة في الرياء، فقد أراد أن يجعلها خالصة لوجه كافور ولو شئت خالصة لوجه الجيش والعراقيين! لقد سمعناه يمدح سيف الدولة فما كان ينسى نفسه ولا كان يغادر القصيدة إلا وقد بث فيها كثيرا من فخره بنفسه.
.
ويحدثناالتاريخ أنه كان محبا لسيف الدولة فكانت عاطفته نحوه صادقة أمينة فلم يجد عندئذ من الغضاضة أن يفخر بنفسه ويمدحها في مدحه لسيف الدولة.
.
وميزة أخرى فيها عادته وطبعه وهي أنه نثر بعض الحكم في قصيدته كما اعتاد أن يفعل في كثير من قصائده فنراه يقول: إذا كنت ترض أن تعيش بذلة ...
فلا تستعدن الحسام اليمانيا فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ...
ولا تتقي حتى تكون ضواريا كما يقول: وللنفس أخلاق تدل على الفتى ...
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا وخلاصة القول أن قصيدة المتنبي هذه من القصائد الرائعة التي كتبت له الخلود، وغن كان فيها بعض ما، أخذه عليه، فإن ثبات المستوى ليس شرطيا في الشاعرية وقد يجمع البحر الماسة الكريمة البيضاء إلى جانب الفحمة القذرة السوداء. نور الدين شمسي باشا كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣