أرشيف المقالات

بمناسبة رمضان (شهر الإحسان)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 سؤال الناس للأستاذ علي العماري للشاعر الإسلامي جرول بن أَوس الملقب بالحطيئة وصية غريبة مشهورة عنه، ذلك أنه حين حضرته الوفاة قيل له: أوص يا أبا مليكة.
فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث، قالوا: فإن الله لم يأمر بذلك، قال فإني آمر به.
قيل له: ألا توصي بشيء للمساكين؟، قال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارة لن تبور، قيل له: فلان اليتيم، ما توصي له بشيء؟، قال: أوصيكم أن تأكلوا ماله! ومع غرابة هذه الوصية، ومع أننا نظن أنها وضعت لقصد الفكاهة، مع ذلك فإن الناس يعملون بها أكثر مما يعملون بأي وصية أخرى في هذه الشؤون، ويعنينا من وصيته ما وصى به المساكين، فإنهم اتخذوا السؤال مادة للكسب، وتجارة تدر عليهم الربح الوفير، والمال الكثير.
ومع أن السؤال أردأ مهنة يحترفها الرجل، ومع أن المال الذي يجيء عن طريق أرذل كسب يكسبه، نجد العاجز والقادر، الشيخ والشاب، الرجل والمرأة، نجد من كل أولئك من يحترف السؤال ويعيش عليه، بل ويجمع الثروة الطائلة عن طريقه. وليس أضر على المجتمع الناهض، وعلى الأمة التي تريد أن تبني مجدها، من أن يكون فيها جماعة يعيشون على كسب الغير وهم القادرون على العمل، فليس رقي الأمم هبة تعطى، وإنما هو عمل أبنائها، وجهاد في سبيل عظمتها ومجدها، وأول سلم في هذا الجهاد أن يؤدي كل إنسان واجبه، وأن يعمل كل فرد ما يستطيع من العمل.
أما الكسل، وأما الاعتماد على الآخرين، فذلك ينافي طبيعة العمران، ويحط من شأن الأمة، ويعطل آلة النجاح والتقدم فيها. ومن عجب أن أكثر هؤلاء السؤال يتمسحون بالإسلام، ويستدرون عطف الناس باسم الدين، والإسلام ليس فيه لهؤلاء حجة، فقد أزرى على السؤال، وبغض فيه، وحث على العمل، وأوجبه على القادر، ولو كان عملا دنيئا حقيرا، فهو - على كل حال - خير من مسألة الناس، وبعض أصحاب النفوس العالية يفهم ذلك تمام الفهم، فقد حدثني صديق أنه رأى رجلا يعمل عملا يستقذره الناس، فلما فرغ من مسح يديه بالتراب، وجلس يأكل، ق صديقي فرأيته يتحدث ويقول: أسكتي، تأدبي.
والله إن لم ترضى لأهيننك.
فقلت له: يا رجل، رأيتك تتحدث وليس معك أحد، فمن تخاطب؟ قال: أخاطب نفسي، فإنها لما رأتني جلست آكل تقززت مني.
فقلت له: سمعتك تقول تأدبي وإلا أهينك، فأي عمل أشد إهانة لها من عملك هذا؟ فالتفت الرجل مستغربا، فقال لي: يا مسكين، إن في الأعمال ما هو أخس من عملي وأقذر، ذلك مسألة الناس شيئا. والإسلام لم يبح السؤال إلا للعاجز عن الكسب عجزا تاما، ومع ذلك دعا إلى التعفف، والإجمال في المسألة وعدم الإلحاف فيها، حتى استحسن العلماء أن يكون الرجل عييا في المسألة، وعند وصف الفاقة، فذلك أدل على كرم الطبع والأنفة من حال المسألة، والتصون من ذكر الفاقة، وقد مدح الله قوما بمثل هذا فقال: (يَحْسَبَهُمْ الجاهِلُ أَغنياءَ مِنْ التَعَفُفِ، تَعْرِفَهُمْ بِسيماهُمْ، لا يَسْأَلونَ الناسَ إِلحافا) لكن المحترفين للسؤال يطاردونك مطاردة من له عليك دين، وربما تطاولوا عليك وسبوك.
روي أن سائلا وقف على باب قوم يسألهم فقالوا: يفتح الله عليك، فقال: كسرة، قالوا: ما نقدر عليها، قال: فقليل من بر أو فول أو شعير، قالوا: لا نقدر عليه، قال: فقطعة دهن أو قليل من زيت أو لبن، قالوا: لا نجده، قال: فشربة ماء، قالوا: وليس عندنا ماء، قال: فما جلوسكم ههنا؟ قوموا فاسألوا فأنتم أحق مني بالسؤال! ولا شك عندي أن هؤلاء - إذا كانوا صادقين - أحق بالسؤال من هذا السائل الوقح، ولكنهم قوم كرماء النفوس يصونون ماء وجوههم، ويعتزون بأنفسهم، ويخفون ما بهم من ضر وحاجة.
وقد قرأت في تاريخ السودان أن الرجل كان إذا احتاج أغلق عليه باب داره، ومكث فيها حتى يموت، وقديما قال الشاعر الجاهلي (الشنقري) أطيل مطالَ الجوعِ حتى أميته ...
وأضرِب عنه الذكر صفحا فأذهل وأستف ترب الأَرض كي لا يرى له ...
على من الطول إمرؤ متطول وقديما سأل رجل أبا دلف العجلي، فقال أبو دلف: أتسأل وجدك الذي يقول: ومن يفتقر منا يعش بحسامه ...
ومن يفتقر من سائر الناس يسأل فخرج الرجل، وجرد سيفه، وعاش عليه. وهناك جماعة يعيشون على كسب غيرهم، وهم - في نظري - لا يختلفون على عن هؤلاء في السؤال في شئ، فقد تعجبك هيئة الرجل ووجاهته، فإذا سألت من أين يعيش؟ قيل لك أن له أخا أو أبا أو قريبا غنيا فهو ينفق عليه ويعطيه، أو أن له أصدقاء وتلاميذ يعودون عليه بالخير، ويغمرونه بالهدايا والألطاف، فمنها يعيش.
وتحضرني دائما عند ذكر هؤلاء قصة الرجل الذي قيل للنبي (ﷺ) فيه إنه صوام قوام متبتل؛ فسألهم: فمن يصلح له أمره، ويكفيه ما يهمه؟ فقالوا: كلتا يا رسول الله، فقال: كلكم خير منه.
كما يحضرني الحديث الشريف: أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ.
وقول خليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا لئلا أتعود العجز. فمن أراد أن يتفرغ لعبادة ربه، فليكتف من أمر الدنيا بالقليل.
واعجب ما في أر هؤلاء أنهم يبررون أخذهم لهذه الأموال بأنهم ينفقونها في سبل الخير، وما علموا أنها أموال لا وجه لعمل فيها، ولقد حدث العالم الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان يضارع أبا حنيفة في الفقه قال: إني لأساير رجلا من وجوه أهل الشام، إذا مر بحمال معه رمان، فتناول منه رمانة فعجبت من ذلك، فمر به سائل، فمر به سائل فناوله أياها، فقلت له: رأيتك قد فعلت عجبا، قال: ما هو؟ قلت أخذت رمانة من حمال وأعطيتها سائلا، قال: وأنك ممن يقول هذا القول؟ أما علمت أني أخذتها وكانت سيئه وأعطيتها فكانت عشر حسنات، فقلت: أما علمت أنك أخذتها فكانت سيئة، وأعطيتها فلم تقبل منك.
قلت: ومنطق هؤلاء لا يختلف في شئ عن منطق ذاك الرجل. (وبعد) فكيف نعالج هذا الداء المشين، لعلي لا أبعد كثيرا إذا قلت إن العلاج الوحيد هو أن نفهم الناس دينهم على حقيقته، وأن يتأكدوا أن هذه المظاهر تشين الوطن، وتحط من قدر الأمة، والنفوس بطبيعتها شحيحة فلا يمكن أن ندعوها إلى أن تزيد في شحتها، ولكن ندعوها إلى أن تتلمس ذوي الحاجة من الأقرباء والجيران والمعارف فتدفع إليهم ما تجود به، وأن تمتنع امتناعا تاما عن إعطاء هؤلاء الذين يتجرون بالسؤال.
وليس صحيحا ما يفهمه الناس إعطاء السائل ولو جاء على فرس، فإن ذلك إذا لم يجد المعطي من هو أحوج من الفارس، وإذا لم يكن صاحب الفرس قد اشتراه من أموال الناس التي سألهم إياها! وأن يعلم هؤلاء الذين يعيشون على أرزاق غيرهم من الناس أن الموت أهون من ذل السؤال، وأن الإنسان لا يجد عوضا عن ماء وجهه الذي يبذله، وصدق الشاعر: ما نالَ باذِلٌ وجْهَهُ بِسُؤالِهِ ...
عِوَضاً ولو نالَ الغِنى بِسُؤالِ علي العماري

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن