أرشيف المقالات

في الحديث المحمدي

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ محمود أبو رية ضرر رواية الحديث بالمعنى للدين: لما كانت أحاديث النبي (ص) قد جاء نقلها بالمعنى - كما بينا من قبل - وأنهم قد أباحوا لرواتها أن يزيدوا فيها، ويختصروا منها، وأن يقوموا ويؤخروا في ألفاظها - بله ما صوغوه من قبول الملحون منها - لما كان الأمر قد جرى على ذلك، فقد نشأ منه ولا جرم - وبخاصة بسبب نقل الحديث بالمعنى - ضرر عظيم قال العلامة الجزائري في توجيه النظر. (بعد البحث والتتبع تبين أن كثيراً ممن روى بالمعنى قد قصر في الأداء، ولذلك قال بعضهم: ينبغي سد باب الرواية بالمعنى لئلا يتسلط من لا يحسن، ممن يظن أنه يحسن، كما وقع لكثير من الرواة قديماً وحديثاً.
وقد نشأ عن الرواية بالمعنى ضرر عظيم حتى عد من جملة أسباب اختلاف الأمة.
قال بعض المؤلفين في ذلك في مقدمة كتابه: إن الخلاف قد عرض للأمة من ثمانية أوجه، وجميع وجوه الخلاف متولدة منها ومتفرعة عنها (الأول) منها اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة (الثاني) الحقيقة والمجاز (الثالث) الإفراد والتركيب (الرابع) الخصوص والعموم (الخامس) الرواية والنقل (السادس) الاجتهاد فيما لا نص فيه (السابع) الناسخ والمنسوخ (الثامن) الإباحة والتوسيع.
وقال في باب الخلاف العرض من جهة الرواية والنقل: هذا الباب لا تتم الفائدة التي قصدناها منه إلا بمعرفة العلل التي تعرض للحديث فتحيل معناه، فربما أوهمت فيه معارضة بعض لبعض وربما ولدت فيه إشكالاً يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد، فاعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله (ص) وعن أصحابه والتابعين لهم، تعرض له ثماني علل، أولها فساد الإسناد، والثانية من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظه، والثالثة من الجهل بالإعراب، والرابعة من جهة التصحيف، والخامسة من جهة إسقاط شئ من الحديث لا يتم المعنى إلا به، والسادسة أن ينقل المحدث الحديث ويغفل السبب الموجب له، أو بسط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، والثامنة نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ. وقد أحببنا أن تقصر مما ذكر على أمس مما نحن بصدده (العلة الأولى) وهي فساد الإسناد.
وهذه العلة هي أشهر العلل عند الناس حتى أن كثيراً منهم يتوهم أنه إذا صح الإسناد صح الحديث! وليس كذلك فإنه قد يتفق أنيكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة معروفين بصحة الدين والأمانة غير مطعون عليهم ولا مستراب بنقلهم ويعرض مع ذلك لأحاديثهم أعراض على وجوه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك.
والإسناد يعرض له الفساد من أوجه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك.
والإسناد يعرض له الفساد من أوجه: منها الإرسال وعدم الاتصال، ومنها أن يكون بعض رواته صاحب بدعة أو منهما بكذب وقلة ثقة، أو مشهوراً ببله وغفلة، أو يكون متعصباً ثم الصحابة منحرفاً عن بعضهم، فإن كان مشهوراً بالتعصب ثم روى حديثاً في تفصيل من يتعصب له ولم يرد من غير طريقة لزم أن يستراب به، وذلك أن إفراط عصبية الإنسان لمن يتعصب له وشدة محبته يحمله على افتعال الحديث وإن لم يفتعله بدله غير بعض حروفه.
ومما يبعث على الإسترابة بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الاتصال بالملوك ونيل المكانة والحظوة عندهم.
فإن من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغير والتبديل والافتعال للحديث والكذب حرصاً على مكسب يحصل عليه. وقد روى أن قوما من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر وعم، ودوخ وأذل جميع الأمم، ورأوا أنه لا سبيل إلى مناسبته رجعوا إلى الحيلة والمكيدة فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف.
فلما حمد الناس طريقتهم ولدوا الأحاديث والمقالات وفرقوا الناس فرقاً.
وإذا كان عمر بن الخطاب يتشدد في الحديث ويتوعد عليه والزمان زمان والصحابة متوافرون، والبدع لم تظهر والناس في القرن الذي أثنى عليه رسول الله (ص)، فما ظنك بالحال في الأزمنة التي ذمها وقد كثرت البدع وقلت الأمانة.
(العلة الثانية) وهي نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه، وهذا باب يعظم الغلط فيه جدا، وقد نشأت منه بين الناس شعوب شنيعة، وذاك أن أكثر المحدثين لا يراعون ألفاظ النبي (ص) التي نطق بها، وإنما ينقلون إلى من بعدهم معنى ما أراده بألفاظ أخرى، ولذلك الحديث الواحد في المعنى الواحد يرد بألفاظ شتى ولغات مختلفة يزيد بعض ألفاظها على بعض.

ووجه الغلط الواقع من هذه الجهة أن الناس يتفاضلون في صورهم وألوانهم وغي ذلك من أمورهم وأحوالهم فربما اتفق أن يسمع الراوي الحديث من النبي (ص) أو من غيره فيصور معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى الذي تصور في نفسه بألفاظ أخر كان قد حدث بخلاف ما سمع من غير قصد منه إلى ذلك، وذلك أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد تكون فيه اللفظة المشتركة التي تقع على الشيء؛ وضده ففي مثل هذا يجوز أن يذهب النبي (ص) إلى المعنى الواحد، ويذهب الراوي عنه إلى المعنى الآخر، فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه بعينه كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد، ولو أدى لفظه بعينه لأوشك أن يفهم منه الآخر ما لم يفهم الأول، وقد علم (ص) أن هذا سيعرض بعده فقال محذرا من ذلك (نصر الله امرأ سمع مقالتي وأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) هـ. وإن أحببت أن تعرف مقدار ما قد تؤدي إليه الرواية بالمعنى فسيكفيك أن تنظر في الحديث الذي انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم قال: حديثاً الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه فقال: صليت خلف النبي (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها.
ثم رواه من رواية الوليد عن الأوزاعي أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنسا يذكر ذلك.
وروى مالك في الموطأ عن حميد عن أنس قال: صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وزاد فيه الوليد بن مسلم عن مالك: صليت خلف رسول الله (ص) وقد أعل بعض المحدثين الحديث المذكور وقالوا: إن من رواه باللفظ المذكور قد رواه بالمعنى الذي وقع في نفسه، فإنه فهم من قول أنس: كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فرواه على ما فهم وأخطأ، لأن مراد أنس بيان.
.
أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس مراده بذلك أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم! فانظر إلى ما أدت إليه الرواية بالمعنى على قول هؤلاء حتى نشأ بذلك من الاختلاف في هذا الأمر المهم ما لا يخفي على ناظره.
وقال ابن الصلاح في الأحاديث الواردة في الصحيح المتعلقة بدخول الجنة بمجرد الشهادة مثل حديث: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، وحديث: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول حرم الله عليه النار، وحديث لا يشهد أحد أنه لا إله إلا اله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه: يجوز أن يكون ذلك اقتصاراً من بعض الرواة نشأ من تقصيره في الحفظ والضبط لا من رسول الله (ص) بدلالة مجيئه تاماً في رواية غيره، ويجوز أن يكون اختصار من رسول الله فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم لله مصحوباً بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزماً له. واعلم أن الرواية بالمعنى قد أحس بضررها كثير من العلماء وشكوا منها على اختلاف علومهم، غير أن معظم ضررها كان في الحديث والفقه لعظيم أمرهما.
وقد نسب لكثير من العلماء الأعلام أقوال بعيدة عن السداد جداً اتخذها كثير من خصومهم ذريعة للطعن فيهم والإزراء بهم ثم تبين بعد البحث الشديد والتتبع أنهم لم يقولوا بها، وإنما نشأت نسبتها إليهم من أقوال رواها الراوي عنهم بالمعنى فقصر في التعبير عما قالوه فكان من ذلك ما كان.
. وقد تعرض العلامة التحرير نجم الدين أحمد حمدان الحراني الحنبلي للضرر الذي نشأ من الرواية بالمعنى في مذهبه فقال في آخر كتاب صفة المفتي في باب جعله لبيان عيوب التأليف وغير ذلك ليعرف المفتي كيف يتصرف في المنقول، ويقف على مراد القائل بما يقول، ليصح نقله للمذهب، وعزوه إلى الإمام أو إلى بعض من إليه ينسب (اعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي إهمال نقل الألفاظ بأعيانها والاكتفاء بنقل المعاني مع قصور الناقل عن استيفاء مراد المتكلم الأول بلفظه، وربما كانت بقية الأسباب مفرعة عنه، لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه أو الكاتب بكتابته مع ثقة الراوي تتوقف على انتفاء الإضمار والتخصيص والنسخ والتقديم والتأجير والاشتراك والتجوز والتقدير والنقل والعرض العقلي، فكل نقل لا يؤمن معه حصول بعض الأسباب لانقطع بانتفائها نحن ولا الناقل، ولا يظن عدمها ولا قرينة تنفيها ولا نجزم فيه بمراد المتكلم، بل ربما ظنناه أو توهمناه - ولو نقل لفظه بعينه وقرائنه وتاريخه وأسابه انتفي هذا المحذور أو أكثره.
.) ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية: هذا بعض ما قالوه في ضرر رواية الحديث بالمعنى في الأمور الدينية، أما ضررها من ناحية اللغة والبلاغة فقد بينه نابغة الأدب وحجة العرب مصطفى صادق الرافعي بقوله رحمه الله. (ليس كل ما يروى على أنه حديث يكون من كلام النبي (ص) بألفاظه وعبارته، بل من الأحاديث ما يروى بالمعنى فتكون ألفاظه أو بعضها لمن أسندت إليه في النقل، ولجواز الرواية بالمعنى لم يستشهد سيبويه وغيره من أئمة المصرين على النحو واللغة بالحديث واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب.
ولو كان التدوين شائعاً في الصدر الأول وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي (ص) بألفاظه وصوغه وبيانه لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها؛ (ذلك بأن) ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله). المنصورة للكلام صلة محمود أبو رية

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير