أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 اليتيم للقصصي الفرنسي الكبير فرانسوا كوبية بقلم الأستاذ عبد اللطيف حسين الأرناؤوط .

غامت الدنيا في عينيه.
.
واكتفت سحب الشقاء حياته.
.
وضاقت دائرة وضاقت دائرة عيشه حتى كاد أن يهجر حياته.
.
وينتقل إلى حياة ثانية سعيدة هانئة أبدية.
.
شأن كل شخص يكرس وقته ويضحي بهجة عمره.
.
في سبيل وضع قصص وتأليف روايات.
.
حيث يعصر كل ما لديه من موهبة وعزيمة يقدمه إلى الجمهور كي يرضيهم.
.
ومن وراء هذه المهنة.

كان يرتزق ما يسد رمقه ويسكن جوع أمه وذلك مدة خمسة وعشرين عاماً.
وهو لا يفتأ يكتب للصحف دون أن يبتسم له السعد.
.
ودون أن يحالفه الحظ ليدفعه في عداد الكتاب المرموقين والمؤلفين المعدودين.
ولكنه كان برضي بهذا اليسير وبحد الله على نعمائه.
.
ويشكره على ما أسبغ عليه.
. ولم يتركه الفقر بما هو عليه.
.
بل نشر سحابة على منزله الذي اختاره في أحد أحياء الفقراء المعوزين.
.
ولم يجد في حياته أحداً ليزيل عنه شبح الحاجة.
.
ويشاركه في حرمانه وشقائه سوى والدته العجوز التي أضناها الداء.
.
وأقعدها العجز. هذه هي حياة (جان فينول) الكاتب الروائي الذي كان ينشر رواياته.
لكنها لم تلق قبولاً حسنا بين الجمهور: إذ أنهم كانوا يجدونها فارغة جوفاء.
.
لا أثر للحياة فيها.
.
صامتة خرساء.
.
لا سبيل للعاطفة إليها.
.
خالية من الإبداع حتى أن رئيس تحرير أحد الصحف قال له ذات يوم: إن القراء ينكرون صدق عاطفتك.
.
وقوة وحيك.
.
وخصب خيالك.
.
فأرجو أن تمد قصصك ورواياتك من خيالك الواسع حتى تلبسها ثوباً قشيبا من البهجة والروعة.
. وسكت جان على مضض.
.
وقد تحير فيما يجيب.
.
إلا أنه أرسل زفرة حرى انبعثت من صميم فؤاده الملكوم.
.
وأخذ يحدث نفسه: إنني أعتقد بموهبتي أنها أرفع شأناً.
.
وأعظم قدراً من أن أكون واضع روايات ومؤلف قصص لإحدى الصحف) وخرج من عند رئيس التحرير مهيض الجناح.
.
ومنكسر الخاطر.
.
منطوياً على نفسه.
.
تاركاً عنان حياته للقضاء والقدر.
.
فلا يدري ما يخبئ له الزمان.
.
ولا يعلم ما يضمر عنه الغد.
وظل صابراً على الأذى، مقيماً على الضيم والحرمان.
.
حتى امتدت يد المنون إلى منزله.
.
وسلبت والدته من حياته فتركته وحيداً مفرداً.
.
لا أنيس له.
.
ولا رفيق يشاركه لوعة حرمانه.
.
وعذابه.
.
وشقائه.
. ولم تمض مدة على وفاة والدته حتى تسرب الملل إلى نفسه، ورأى السأم في حياته.
.
فأحاطت عيشه هالة دكناء.
.
وغمرت بيته.
.
فإذا بالوحشة تتمثل أمام عينيه وتتراءى له عن كثب كأنها أشباح تتراقص وتزغرد لتسلب منه كسرة الخبز التي يتناولها كل يوم مرة.
. فقد الأمل.
.
وضاع الرجاء.
.
دون أن يهتدي إلى شعاع يستمد منه السعادة المسلوبة.
.
وكان بين حين وآخر يستلق على مقعده ويحدث نفسه: يا إلهي.
.
ما هذا الشقاء البرم.
.
وما هذه الحياة الدكناء.
.
ألا تعساً لها.
.
وسحقاً لمن يرضخ إليها.
. وذات ليلة دخل غرفته كعادته.
.
متهالكاً على نفسه.
.
يجر خطاه جراً.
.
وألقي نظرة على أثاثه الذي أكل الدهر عليه وشرب وجلس وراء مقعده ليشرع في كتابة قصة للجريدة.
.
والتفت إلى نار المدفأة.
.
فرآها خامدة كحياته، لا أثر لها وأراد أن يوقدها.
.
دفعاً للبرد القارس ووقاء من الزمهرير العاتي.
.
وفتش عن عود ثقاب.
.
فلم يجد وهم بالنزول لشراء علبة جديدة ولكنه تريث قليلاً إذ طرأ على فكرة أن يفترض واحدة من جارته العجوز (أم ماتيو) التي فقدت أبنتها الوحيدة بعدما ترملت وخلفت طفلا لترعاه جدته العجوز.
. طرق جان الباب على الأم ماتيو.
.
ليسأل حاجته منها.
.
ففتحت له.
.
وألقى نظرة عليها فرآها وقد أضناها التعب وأنهكتها الفاقة.
.
ومد بصره إلى الداخل.
.
فشاهدها وقد جمعت فراشها.
.
وحزمته على ضوء شمعة ذاوية.
.
فبادرها: ماذا تفعلين.
.
وأي شيء تصنعين.
.؟؟ وما السبب الذي دعاك لأن تربطي الفراش.
.
فأجابته بعد ما طفرت الدموع من عينيها: إنك كما ترى.
.
لقد صممت ان أذهب.
.
وأرهن فراشي مقابل مبلغ.
.
لأني في حاجة قصوى إليه.
. فقال: ولكن.
.
ترهنين فراشك لحاجتك؟ قالت: نعم.
.
إنني مرغمة على ذلك.
.
فقد بلغني اليوم أن شقيقتي أقعدها المرض وقد رفض قبولها في المستشفى.
.
لأنها لا تملك ثمن دواء.
.
ورأيت أن واجبي نحوها يدعوني أن أقدم إليها المساعدة.
.
فلم أجد سوى أن أرهن فراشي راضية أن أفترش الأرض.
.
حتى يتسنى لي أن أجمع هذا المال فأرد به فراشي.
.
على أن أذهب الآن.
.
قبل فوات الأوان.
.
أما الطفل فلا أدري أين أو دعه ريثما أعود.
.
فهزت الشفقة والرحمة نفس جان فترقرقت دموعه في عينه وقال: دعي فراشك هنا.
.
وإنه ليسوئن أن أراك على هذه الحال.
.
هاهي عشرة فرنكات أقدمها إليك لتستعيني بها على شراء الدواء لشقيقتك المريضة.
.
أذهبي حالا الآن.
.
واتركي الطفل هنا.
.
أقوم على حراسته حتى تعودي.
. وحاولت أن تشكره على شهامته.
.
ولكن الكلمات ارتبكت على لسانها.
.
واستعصت في فمها فأنفجر الدمع من عينها.
.
وغادرته بعد ما عهدت إليه بطفلها.
. واستلقى جان فوق الفرش المحزومة.
.
وأخذ يتأمل أثاث الغرفة والطفل أخرى ويناجيه بقلبه: أيها الطفل المسكين.
.
هذه هي جناية آبائنا.
.
وأمهاتنا.
.
يرموننا في هذه الحياة بالرغم عنا.
.
دون أن يأخذوا رأينا.
.
ولو سئلنا.
.
لا ريب كان جوابنا.
.
لا.
.
لا نريد أن نحيا.
. ثم يعود إلى نفسه ويتساءل: ما أكثر أمثال هذا المسكين.
.
حيث ينتظرهم المستقبل المبهم.
.
ليقذفهم في مضمار شقائه.
.
فأي مستقبل ينتظرهم.
.
وأي صباح يبتسم لهم.
.
وأي مساء يقطب أمامهم.
. مسكين هذا الطفل.
.
فها هي جدته قد أنهكها طول العهد.
.
وقد أصبحت على حافة القبر.
.
تنتظر موافاة المنية بين يوم وآخر فأي مصير سيكون لهذا المسكين وأي سبيل سينتظره.
.
علم الله.
.
عله يكون من هؤلاء المنبوذين.
.
المتشردين في أرض الله.
.
يتخبطون في خضم من الجنايات وينساقون في سيل من الجرائم هؤلاء اللصوص الذين يودعون حياتهم بين جدران السجن في عذاب.
.
وألم.
.
وحرمان.
. وهكذا تسلطت هذه الأفكار.
.
واستولت رأس جان.
.
فانطلقت الدموع إلى سبيلها.
.
وهو مطرق ساهم.
.
يتأمل الطفل حيناً.
.
ويسبح في خياله وقد خيم عليه الهدوء والسكون.
.
إلى أن دخلت عليه الأم (ماتيو) فوجدته على حاله يبكي.
.
فاستخبرته عن سبب بكائه فأجابها: لاشيء.
.
فكرة ألمت بي ولكنني أريد أن أقترح عليك.
.
عملا نقوم به سوية.
.
فما رأيك.
. فأجابته: حسناً تفعل.
.
وما هو.
.؟؟ قال: ماذا تقولين.
.
فإن ما أحصله من المال.
.
يكفيني.
.
ويكفي والدة لي - لو كان لي والدة - فهل ترضين.
.
أن تشاركيني العيش مع طفلك الصغير.
.
وبذلك نضع جل اهتمامنا في تربية هذا الطفل.
. فصاحت الأم من أعماق فؤادها بعد ما سمعت ذلك.
.
وهمت أن تركع أمامه لتشكر رجولته.
.
وتحي شهامته.
.
ولكنها تمتمت بعدما غلبها الدمع: يالك من رجل.
.
تريد أن تنق حياة طفل بريء.
. وبعد مضي مدة من قيام هذه الأسرة على قدم من الفقر وساق من الفاقة.
.
كان خلالها جان قد أنهى روايته الجديدة التي أطلق عليها أسم (اليتيم) وما أن انتشرت بين الناس حتى نالت رواجاً لا مثيل له.
.
وأحرزت تقديراً من جميع القراء على اختلاف ميولهم وأهوائهم.
.
فقد أحس كل فرد منهم بالروح الحية التي تنبض فيها.
.
وفي أحد الأيام.
.
التقى جان برئيس تحرير الجريدة.
.
فبادره قائلاً: إنني أرحب بك اليوم.
.
وأقدم لك أجمل التهاني.
.
وأعظم التمنيات على روايتك (اليتيم) وإنني أصبحت أحد المعجبين بها.
.
فقد لاقت.
.
رواجاً كبيراً في أكثر المدن.
.
فإذا كتبت بعد اليوم قصة أو رواية.
.
فابعثها إليَّ كي أنشرها لك بكل سرور وامتنان مقابل ثمن ترضى عنه.
. ومنذ ذلك الحين حالفه.
.
وأقبل النجاح عليه.
.
فأبح من الكتاب المرموقين في المدينة.
.
بينما لم يغير منهاج حياته.
.
وظل يعيش مع الطفل وجدته عيشة.
.
راضية هنيئة.
.
ترفرف عليهم السعادة والوئام.
. دمشق عبد اللطيف حسين الأرناؤوط

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢