أرشيف المقالات

فن القيادة

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 2 - فن القيادة للكاتب الفرنسي أندريه موروا بقلم الأستاذ محمد أديب العامري أما رسالة الزعيم فهي أن يوجه أعمال الآخرين.
ومن المحتوم عليه أن يعلم إلى أي هدف يتجه بهم.
وأعظم صفات الزعيم أهمية أن يكون ذا إرادة قوية يجب أن يعرف كيف يقر المبادئ ويتخذ المقررات وكيف يضطلع بمسئوليتها.
ومن الطبيعي أن يحيط علما بالظروف وأن يزنها حق الوزن قيل أن يصل إلى أي رأي.
فإذا أصدر أمره وجب أن يلتزم ذلك لا يحيد عنه إلا إذا قامت في وجهه عقبة لم ينتظرها أو لا يستطيع التغلب عليها.
وليس يذهب بشجاعة الناس وإقدامهم شيء كالزعيم المتردد.
وقد قال نابليون (إن الحزم سيد الأعمال). ولكي يقر الزعيم رأيه يجب أن يكون ذا شجاعة أدبية عظيمة.
وقد تكون قرارات الزعيم أحيانا شديدة الأذى له.
ففي بداية الحرب العالمية الأولى اضطر (جوفر) أن يعزل عددا كبيرا من قواد الحرب الذين كانوا جميعا أصدقاءه.
ويقع أحيانا أن تكون التضحية بالعدد القليل من الرجال سبيلا إلى اتجاه العدد الكبير.
هذا ويستطيع الزعيم أن يكون شديد بل من الواجب أن يكون كذلك.
على أنه ليس من حقه أن يكون سيئ النية أو فظا أو منتقما، كما أن من واجبه أن يعرض عن القيل والقال بل أن يمنع القيل والقال ما استطاع. ومن الضروري أن يكون حوله عدد من المساعدين المخلصين الذين يستطيعون أن يعرفوا المسائل الثانوية.
ويجب أن يعلو على الصفائر فلا يغرق في التفاصيل.
ولكي ينفذ أوامره يضطلع بالعمل مساعدوه الذين اختارهم والذين يثق بهم كل الثقة.
فهو يأذن لهم بالعمل بحرية ويكتفي بالإشراف، عن طريق التدقيق بين آونة وأخرى في صحة البيانات التي يدلون له بها.
قيل للجنرال ليوتي: ما الذي تقوم به أنت؟ فقال (إني مهندس الأفكار العامة).
إن القائد الخبير يعرف أنه لا يستطيع أن يدخل في تفاصيل ما يقوم به كل واحد من أعوانه.
ويصح هذا بصورة خاصة في المسائل الاقتصادية، فهنا يجب أن يحصر نفسه في بيان الخطط العامة وفي التجديد في أن المصلحة الخاصة يجب أن تخضع للمصلحة العامة.
وهو لا يعمد إلى خطة تصدم الملايين فتؤول إلى مقاومة الأكثرية منها.
إن ضابط حرك السير ينظم هذه الحركة ولكن لا يعين لكل سيارة الطريق الذي يجب أن تنساب فيها. إن رئيس عمل من الأعمال يجب أن يبعث الاحترام في نفوس الذين يعملون معه، فإذا عجز عن ذلك تسربت إليهم الشكوك وأخذوا يتآمرون.
وليس هناك إلا طريق واحد لكسب الاحترام، وهو أن يكون المرء جديرا به.
والقائد العظيم شخصية عظيمة كذلك فإنه غير متحيز وغير ذي مصلحة خاصة.
ولعل (بلدوين) و (بوانكريه) كانا قليلي الذكاء، بل كان بلدوين ويعترف بذلك.
ولكن كلا منهما كان رجل مبادئ وأمانة مالية لا يتطرق إليها شك.
وقد أوصى بلدوين بجزء من ثروته للأمة، وما كان بوانكريه يستفيد قط من موظفي الحكومة لقضاء حاجاته الخاصة.
وكان كلاهما يتمتع بصفات الاستقامة التي يحتاج إليها مدير المصنع أو يتطلبها أب في ابنته.
وأضفت هذه الخصال البسيطة عليهما قوة عظيمة.
ولقد تختلف معهما في السياسة أو تتفق، ولكن خصومهما لم يجدوا غضاضة في أن يتبوأ الحكم.
ومما يزيد الحاكم المطلق قوة اقتصاده وفي النفقات وعدم انصياعه للفساد في عمله. ويجب أن لا تكون للقائد إلا عاطفة واحدة هي عاطفته نحو عمله ومهنته.
كما يجب أن يكون متحفظا، حتى إلى درجة إضفاء غلالة من الشك حول نفسه.
إن الرجل في رواية (كبلنغ) التي عنوانها (الإنسان الذي يكون ملكا) كان مغامرا استطاع بقوة أخلاقه وحدها أن يسود عدة قبائل جبلية وأن يصبح زعيمها.
ولكنه خسر مركزه وعرشه عندما ضعف إلى حد الوقوع في شرك فتاة من شعبه، فأذن لها أن ترى أنه كان رجلا عاديا وحسب.
ولقد قال نابليون (ما أكثر الرجال الذين يقعون فريسة المشاكل من جراء ضعفهم أمام امرأة). وهنا يجب أن نتحدث عن زوجة الزعيم، فإن عليها وظيفة صعبة تؤديها.
إنها يجب أن تدافع عنه تجاه العالم كله وأن تحميه من التعب الذي يرهقه دون جدوى.
وأن تتحاشى ما يؤذيه، وأن نجعل من بيتها مستقرا هادئا، لا أن نخلق له إمبراطورية أخرى يحكمها، فهذه إمبراطورية يصعب عليه حكمها أكثر من أي شيء آخر. وقد وقع أثناء مناقشة في الصفات الضرورية للرجل السياسي بمحضر من (وليم بت) أن ذكر أحد الحاضرين الجد، وذكر آخر النشاط، وذكر غير الفصاحة.
أما (بت) فقد قال إن الصفة الضرورية لرئيس وزارة هي الصبر، ولقد أصاب.
فإن الصبر ضروري لا لرئيس وزارة فقط، ولكن لجميع الذين تلقى إليهم مقاليد قيادة جماعة من البشر.
إن الغباء عنصر بحسب الزعيم حسابه دائما في التعامل مع الناس.
والقائد الحقيقي يتوقع أن يصادف هذا دائما، ويتهيأ للصبر عليه ما دام نوعا عاديا من الغباء، وهو يعلم أن أفكاره ستنضر، وأن أوامره ستنفذ في غير عناية، كما يعلم أن الحسد يقع بين مساعديه.
إنه يدخل هذه الظاهرات كلها في حسابه، وبدل أن يحاول إيجاد رجال لا يخطئون (وهؤلاء غير موجودين) فإنه يجهد نفسه في الاستفادة من أحسن الرجال الذين يحيطون به ليستفيد منهم على علاتهم، لا كما يجب أن يكونوا. وهناك نوع آخر من الصبر، وهو المثابرة.
فإذا انتهى الزعيم إلى غرض وحققه فإنه لا يتصور أن أمور بلاده قد استقامت إلى الأبد، لأنه لا يستقيم شيء في هذا العالم استقامة لا مغير لها.
ولقد قال نابليون (إن أشد اللحظات خطرا هي لحظات النصر) فالحديقة المنسقة تنمو فيها الإعشاب إذا ما أهملت بعض الوقت، والبلاد الغنية القوية لا تتعرض بضع سنوات لسوء النظام إلا سقطت في أيدي شر أبنائها وعدا عليها جيرانها.
والزعيم يعرف أن جهوده لا تؤتي ثمرات باقية، وأن هذه الجهود يجب أن تتجدد كل صباح. والحزام فضيلة أخرى لها ذات قيمة.
ولقد قال (ريشليو) (إن الكتمان روح الأعمال الوطنية) وأضاع شارل الأول ملك إنكلترا عرشه لأنه أضاع الحزم.
فسوء التدبير أوقعه في أن يطلع زوجته الفاتنة على خطة ينتويها إزاء عدد من نواب البرلمان، فأطلعت إحدى وصيفاتها الوثوقات على ما سيقع فلم تضع الوصيفة وقتا في أبطال هذا إلى بعض أصدقائها الذين سارعوا فأوصلوا الخبر إلى النواب المهددين.
فلما حان الوقت لتنفيذ الخطة الواسعة، وجد الملك أن فريسته قد ولت وأن الناس يحملون السلاح ضده.
والمغزى من ذلك أن لا تعلن شيئا إلا إذا كان ضروريا، وللرجل الذي يجب أن تعلن إليه الخبر، وفي الوقت المناسب لذلك فقط. كتب (ديجول) (لاشيء يمكن للسلطة كالصمت) فالكلام يغمر الفكر ويفقد المرء شجاعته.
إنه بالاختصار يضيع التركيز اللازم.
ولن يكن إنسان في هدوء (بونابرت) ولقد اتبع الجيش الكبير خطواته.
وكتب (فيني) (عرفت ضباطاً أشتملوا على الصمت، فلم يقولوا كلمة ألا إذا أصدروا أمرا).
ولقد عرف (الرئيس كولدج) حق المعرفة أن الصمت ينفعه، فأتخذ هذه الصنعة مبدأ له في الوصول إلى أهدافه وفي تكوين فكرة خرافية عن نفسه. وكان (لويس الرابع عشر) ذا خلق رصين يبعث الخوف والاحترام في الناس، ويمنع حتى المقربين إليه ممن أعجب بهم من أن يتصرفوا معه بحرية حتى في الأمور الخاصة.
ولا ريب أنه من الصعب جدا على زعيم أن يجد التوازن بين التحفظ والهدوء اللازمين له في عمله والحب المطلوب من إزاء الذين يعملون معه، ولكن مما لا ريب فيه أن هذه العقبة تزول بسهولة عندما يعمل الزعيم الحذر اللازم واللباقة المطلوبة من رجل خلق للقيام بأعباء الأعمال العظيمة مضاف إلى هذه الصفات شجاعة القائد وصحته، فإن الصحة الجيدة تزيد الزعيم قوة، وهذه تمكنه من الصبر والجد والإرادة الماضية.
ومن الصفات التي كان يتمتع بها (المارشال جوفر) شهيته للطعام وقوته على النوم.
وإلى هاتين الصفتين نعزو كسبنا لمعركة (المارن) لأن التوازن الصحي العضوي يشحذ قوي الدماغ (إن الهدوء هو أعظم الصفات التي يجب أن يتصف بها الرجل الذي قدر له أن يحكم) ويذكرنا هذا بما كان يصنعه (جاليني) بعد أن يصدر الأوامر في ساحة القتال، فإنه كان يتناول كتابا فيقرأ وكان (ليوتي) وهو ضابط صغير دهشا من هذا السلوك ولكن (جاليني) كان يجيبه (لقد قمت بكل ما أستطيع، والآن أنتظر ما يحدث، وفيما أنا أنتظر أستطيع التفكير في شيء آخر).
ولقد كانت هذه طريقة حسنة لتهدئة خواطره، والتمكن من موقفه.
إن الذين تثقلهم أعباء أعمالهم فلا يستطيعون أن ينحوا وساوسهم جانبا ليفكروا فيها بعد، إنما هم أناس لا قيمة لهم. إن الأخلاق في الدرجة الأولى من الأهمية، لكن الذكاء لا بد منه على كل حال.
ومن المستحسن أن يكون القائد واسع الاطلاع.
وتزيد دراسة التاريخ والشعر من علمه بعواطف الناس.
وإن الثقافة لترد المرء بين آونة وأخرى إلى الرصانة اللازمة، وهي تتيح له فرصا تطلعه على نماذج من النظام والوضوح في الأشياء.
وإن قيادة جيش والنهوض بأمة لعمل فيه ولا ريب معنى فني.
فالرجل الذي يكتسب حس الجمال مما يقرأ ويطالع يكون أكثر نجاحا في المهمة التي ينهض لها. ولقد كتب (المارشال فوش) فقال إذا كانت قيمة الدراسات العلمية هي تدريب العقل على أدراك القوانين والأبعاد المادية فإن الأدب والفلسفة والتاريخ تولد الفكر القادر على فهم العالم الحي.
وبهذا يشحذ الذكاء ويتسع أفقه ويظل دائم الحيوية والإنتاج عند التفكير في آفاق اللانهاية.
وستزيد أحداث المستقبل حاجة الضابط في الحرب إلى استيعاب الثقافة العامة إضافة إلى اختصاصه الفني. ومما لا جدال فيه أن المعرفة الفنية شيء ضروري.
وعندما نشرت منذ زمن كتابي (حوار في القيادة) كتب إلي (المارشال فيول) كتابا جاء فيه: إن الرجل يكون ضابطا قديرا إذا كان ذا أخلاق وكان مرهف الذوق، ذا اطلاع واسع عام، ولا يكون ذلك إلا بعد دراسة طويلة.
ولا يعلم الناس إلى الآن علما كافيا أن كثيرين من القادة في الحرب الماضية كانوا أساتذة في الكلية العسكرية، فإنني أنا و (فوش) و (بيتان) وكثير غيرنا كنا أساتذة قبل أن نصير جنرالات، وكانت خبرتنا ناتجة عن التدريب العلمي الذي جرى في الكلية، وكان هذا التدريب قائما على دراسة التاريخ والتدريبات العلمية.
وقد كنا ندرس الكتب المدرسية والتمرينات التحريرية في الشتاء، ونقوم بدراسة تطبيقية ومناورات عملية في الميادين في الصيف.
ولك أن تتصور أن الرجل الذي حل مدة سنوات مشاكل مختلفة في الأساليب العسكرية لا يضطرب أي اضطراب في ساحة القتال.
وإنك لن تعجز عن ابتداع حلول للمشاكل إذا كان التدريب واضحا وقائما على أصول منطقية فيجمع النواحي المادية والعقلية والأخلاقية لتؤدي جميعا غرضها بنسب صحيحة.
ومما تجب عناية به أن لا تهمل صفة على حساب أختها فإنها جميعا ضرورية. إن تفكير الزعيم يجب أن يكون بسيطا واضحا فأن العمل يصبح صعبا عندما يكون الدماغ محشوا بالخطط والنظريات المعقدة.
والصناعة المنظمة تنظيما بالغا تفقد من المواد اللازمة لها بمقدار ما تستهلك صناعة لا نظام لها.
(ولذلك كانت الصناعة القائمة على مشاريع صغيرة يديرها رجل واحد أحسن إنتاجا من الشركات الضخمة لأن تكاليفها أقل، وإنتاجها أعلى قيمة) فالزعيم يجب أن تكون آراؤه قليلة وبسيطة جدا، قائمة على الاختبار مؤيدة بالتجربة.
وهذا البناء القائم على الخبرة سيكون ذا غناء كبير فيما ينفذ من أعمال لما ينطوي عليه من المعرفة الموثوقة. ومن المحتم على الزعيم أن يستطيع الاستفادة من عقول الآخرين.
قال (ريشليو) (يجب أن يتحدث المرء قليلا ويصغي كثيرا إذا أراد أن يحكم أمة حكما صحيحا) ولكن الإصغاء إنما يكون لرجال محدودين ذوي معارف صحيحة.
ولا ريب أن الصمت صفة ممتازة، ولكن من الممتاز كذلك أن نحمل ذوي الكلام الفارغ على الصمت. ومما يجب أن يتمتع به الزعيم أو القائد بديهة حاضرة.
فان الوقت عامل كبير في جميع المهمات، والخطة غير الكاملة يطبقها صاحبها في الوقت المناسب أفضل من خطة كاملة تنفذ متأخرة عن موعدها.
وتشتد أهمية الوقت أحيانا إلى حد يصبح له المقام الأول.
فليس لوزير الطيران مثلا أن يقول.
(ما هو الوقت الذي أستطيع أن أبني فيه خمسة آلاف طيارة بما عندي من الرجال والميزانية وبما سيصادفني من المشاكل الإدارية) ولكنه يقول: (إذا كان علي أن أبني خمسة آلاف طيارة قبل حلول الربيع فما هي الميزانية التي يجب أن ألح في طلبها؟ وما هو المجهود الذي يجب أن يقوم به الموظفون لإنهاء المشروع في الوقت المعين)؟ والبطء يمكن أحيانا أن يكون قتالا في جميع الأعمال.
فالسرعة لازمة في عمل الملابس كما هي لازمة في الحرب وكما هي لازمة في إدارة بنك أو جريدة.
والرئيس هنا يفكر بسرعة ويحيط نفسه برجال ينفذون بسرعة كذلك. للكلام بقية محمد أديب العامري

شارك الخبر

المرئيات-١