أرشيف المقالات

أحمد يوسف نجاتي

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للأستاذ حسين علي محفوظ قرأنا في العراق - أيام الدراسة - على طائفة من أشياخ مصر، ونفر من أئمة اللغة في مغانيها، وردوا العراق، فانتهزنا فرصة مقامهم، ولبثوا فيها فاهتبلنا مكثهم، أقبلنا على الأخذ عنهم، واعتكفنا على الإفادة منهم، وتوفرنا على الدراسة عليهم، وقد كانت أيامهم حفلا، يعمرها الأنس، ويغمرها البشر، وتشوبها النعماء لازمتهم ملازمة السقب لظئره لا يزايلها، وخالطتهم مخالطة الابن لأبيه لا يفارقه.
ولا أزال أمحضهم هواي، ولا أنفك أصفيهم ودي، وقد شغفت حبا بفضلهم، وأولعت وجدا بعلمهم، وأغربت صبابة بخلقهم.
وكنت إذا آن أوان الدرس أقبل عليهم ولا كالظمآن، وأهفو إليهم ولا كالعجلان.
وكان ذلك يقربهم مني ويزلفني عندهم.
وقد كان يجمعني معهم شعر، ويؤلف شملنا أدب، ولقد كان فراقهم يوم حزن لم استطع صبرا عليه، وكان تحملهم يوم أسى لم أملك حملا له وما أنس لا أنس شيخهم في مصر - غير مكابر - إمام النحاة أستاذنا أحمد يوسف نجاتي، الذي أعجبت بفصاحته، وأغرمت بمنطقه، وكلفت بشمائله، وهو عيبة علم حافلة وجؤنة أدب ساطعة، تنم على فضله أصول الأدب التي هذبه، وتدل على علمه دواوين اللغة التي أوضحها، وتعبر عنه مجاميع السير التي حررها. قرأنا عليه النحو فذكرنا سيبويه، وقرب من خواطرنا ابن هشام، وأيا ابن يعيش وأسمعنا الكسائي، ونشر المبرد.
ولا نزال كلما ذكرناه حننا نزوعاً نحوه، وطربنا شوقاً إلى القرب منه، وزدنا وجداً إلى لقياه وهو من بيت شهير ينميه إلى سيدي الناس فرع شامخ، وعرق طيبن , حسب باذخ، ونسب وضاح.
كان آباؤه من أئمة علماء الدين وأولى الأمر والوجاهة بالإسكندرية، درس في مجالس العلم بالمساجد، وتخرج في دار العلوم سنة 1906 لا يعاوره ملاءة الحضر أحد أبدا.
وكان لازم الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده - رضي الله عنه - واقتدى بهداه؛ وهو وارث علمه الجم، وأدبه الغزير، وخلقه العظيم، وفضله الباهر، ومواهبه الجسيمة، وتواضعه الوافر.
وأنا لا أعرف أحدا أحاط بفنون اللغة سواه، ولا أدري بأحد ملك نواص الأدب غيره جاء العراق فتهللنا، وأقبل علينا ولا إقبال الحيا على الثرى المكروب فتشوقنا لدروسه تشوق الظمآن إلى الماء، واستمسكنا بمجلسه ولا استمساك الخائف بالأمن.
وقد حل ساعة ورد بيت (رحمة الله الطاله باني) من أهل الجاه ببغداد واحتفوا به فأنشد مورياً: تغربت عن مصر ببغداد طائعاً ...
وقد حيل ما بيني وبين هوى النفس يقولون يشفيك الأنيس من الجوى ...
ومالي إلا رحمة الله من أنس وكان أراد في غضون دراستنا عليه، وإبان أخذنا عنه، أن يجرب علمنا ويمتحن ذكاءنا، ويختبر فهمنا، وكان يعبر عن الامتحان بقرع الصفاة، فأقبل والصبح في العنفوان، وقال أريد لأقرع صفاتكم، فقلت أجيبه مورياً: أبهذا البحر الذي جمع العل ...
م فأوعى ورام قرع صفاتي أنا إن رزتني ولا غرو صلب ...
مكسري لم تلن لغمز قناتي وإذا كنت أنت ثقفت عودي ...
فحرام ألا أبز لداتي أنا إما أغوص في بحرك اللج ...
ي لا أختشي فأنت نجاتي وكنت وقفت نفسي على مصاحبته، ونذرتها لتقييد أوابده، وعقل شوارده، وتصيد نوافره.
وما أنس لا أنس فائق إعزازه إياي، وإعظامه لي، وثقته بي.
وكان ينسبني إذا سئل عني إلى الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الدليل، ويعزوني في إثبات الحكم على الحجة والتعليل وهو (حفظه الله) - وقد ذرف على الستين - حفظة لا تخفى عليه اللغة، ولا تغرب عنه الأصول كان يسابق الفجر، ويسارع إلى النهوض، وطالما رأيته يتوضأ والليل شامل، وكان رأس ما عظمه في عيني دين يستمسك بعروته، وإيمان يعتصم بحبله، كان يتهدج بالقرآن في الغدو، إذا وخط المشيب عارضي الليل، ويرتل الكتاب في الآصال إذا أوشك أن يتخفر النهار، وقد كان ينطق بالفضل، ويتفجر الظرف من جوانبه؛ قال: وإني وإن دب في المشي ...
ب فتي الفؤاد قوي الأمل أنزه طرفي بروض الجمال ...
على رغم من لام أو من عذل وأصبوا إلى الحسن أنى أراه ...
كأني ببرد الصبا لم أزل وأجمع بين الهوى والتقى ...
وقلب إذا جد حينا هزل وما صدني عن هوى طاهر ...
بياض المشيب بفودي نزل (وقد علم الناس أني امرؤ ...
أحب الغزال وأهوى الغزل)
وما لامرئ لذة في الحياة ...
إذا هو عاف الصبى واعتزل وهو طيب النفس لا يبخل على أوليائه وخلانه بالمزح.
وطرائفه لا يحصرها العد، ولطائفه لا يدركها الحصر.
وكأني به يتمثل بقول الشاعر: أفد طبعك المكدود بالهم راحة ...
قليلا وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ...
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح العراق - الكاظمية حسين علي محفوظ

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١