أرشيف المقالات

قتيبة بن مسلم

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ حمدي الحسيني دهم شبيب بن يزيد الكوفة فهب الحجاج لدفعه.
وعقد مجلسا حربيا من قواد الجيش أبطال حرب وأركان الإدارة واخذ يشاورهم فيما يجب أن يعمل لدفع جيوش شبيب المجتاحة للكوفة والمهددة للسلطة الأموية في العراق وإيران بأشد الأخطار وأفتك الأضرار، فقام من بين الصفوف رجل عليه جلال ووقار وفيه صيد وخيلاء، أخذ كرسيه ووضعه أمام الحجاج وقال له: أن الأمير والله مل راقب الله، ولا حفظ أمير ولا نصح المرعية.
فغضب الحجاج وقال من المتكلم؟ فقام قتيبة بن مسلم وأعاد كلامه فقال الحجاج فما الرأي؟ قال قتيبة: الرأي أن تخرج أنت إلى شبيب فتقاتل حتى يرتد.
قال الحجاج فارتد لي معسراً واغد إلى.
ولما أصبح القوم غدوا الحجاج فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة يسأل عن وقتيبة لما يأت بعد. جاء قتيبة عليه قباء هروي أصفر وعمامة خز أحمر متقلداً سيفاً عريضاً ففتح له الباب فخل بغير استئذان، ولبث الحجاج طويلا ثم خرج وأخرج معه لواء منشورا.
وركب فرساً أغر محجلاً كميتاً.
وركب الحجاج على بلغته وسار الاثنان وسار الناس وراءهما إلى السبخة حيث يعسكر شبيب وهناك دارت المعركة الحاسمة فانهزمت الخوارج ورجع الحجاج وقتيبة ومن معها من أبطال الدفاع ظافرين منتصرين. وخشى الحجاج على سلطانه من يزيد بن المهلب وإلى خرسان ومن آل المهلب الكرماء الشجعان فعزم على التخلص منهم وانقاء ما قد يحدث عن عرامهم.
ولكن من يدخل خرسان بعد يزيد ابن المهلب وخرسان عرين يزبد ومسبعه آل الملهب؟ ليس لهذا الأمر الخطير إلا قتيبة، فقتيبة إلى الملهب عن خراسان فعزله وولى مكانة قتيبة بن مسلم؛ فطار قتيبة إلى خراسان فوجد المفضل بن الملهب (الوالي الموقت) يعرض الجند لغزوة يريد أن يغزوها فإزاحة عن موقفه وحل مكانة واستعرض الجند وخطب فيهم حاثا على الجهاد.
ثم رتب شؤون الإدارة والحكم واستعرض الجند في السلاح وطار بهم إلى غزو أعدائه وفتح بلادهم للإسلام والمسلمين فكان التوفيق يحفه في روحانا وغدواته، والنصر يرافقه في وثباته وغزواته. ولنتبع الآن خطوات هذا الفاتح العربي العظيم الواسعة في الأقطار الشرقية الشاسعة، لنرى خطوات ثابتة متزنة في تسير الجيوش وتوجيهها، ووثبات قوية سريعة في ساحات الكر والإقدام وغزوات موفقة ظافرة في ميادين الغزو والفتح مما يذكرنا بخطوات الإسكندر ووثبات خالد وغزوات نابليون. تحرك قتيبة لنشر دين الله في الأرض رحمة للعالمين، وكانت هيبته قد سبقته إلى قلوب أعدائه فخرجت إليه ملوك الترك والصغد يسلمون إليه مفاتيح بلادهم ومقاليد أمورهم، تارة يصالحهم على فدية.
ويقفون في وجهه يقاومون تارة أخرى فيدخل بلادهم في حرب.
عشر سنين قضاها قتيبة غازياً فاتحاً تقف له حركة ولم تبرد له ولم تطفأ لحربه نار. لم يعجب الحجاج من قتيبة خطة المصالحة التي اتبعها في بعض الممالك فلامه لأنه ليس القصد من الفتح أخذ الفدية وتكديس المال بل الغرض من الفتح نشر الدين وأنقاد المشركين من عماية الضلال.
فأخذ قتيبة يستعد لفتح بخاري رغم ما يكلف فتحها من تضحية فاستنصرت بمن حولها من ملوك الترك والصغد فتأهبوا لنصرتها ولكن عين قتيبة اليقظة لمحت إباء بخاري وامتناعها ونصرة جيرانها لها فوئب القوية السريعة فوصل قبل أن يصل أنصارها فألقى عليها الحصار وكانت بين المسلمين وأهل بخاري وأنصارهم معركة حامية الوطيس كان موقف المسلمين فيها غير موقف في أول الأمر فانتفض قتيبة في جيشه انتفاضة الأسد وأخذ يصب ما في نفسه من جرأة وشجاعة وثبات في نفوس أصحابه حتى ذكت الحماسة في الصدور فاندفع المسلمون على خصومهم اندفاع السيل الجارف غير آبهين بالأخطار المدمرة التي تقف أمامهم، فلاح لهم النصر بغرته الجميلة فدخلوا بخاري ظافرين غانمين. اشتدت شوكة الجيش الإسلامي بهذا النصر المبين وازداد شعور قتيبة بقوته ازدياداً عظيماً وأحس بأن هذه الليونة التي يظهرها له هؤلاء الملوك الذين صالحهم ويصالحهم على الفدية إنما هي فرص يغتنمونها ليتكتلوا ضده وينتقضوا عليه.
ولهذا فقد سلك سلوكاً آخر فأخذ يغزو ويفتح ولا يصالح إلا إذا قضت الضرورة الحربية بالصلح.
ولذا رأيناه يلتفت إلى هؤلاء المصالحين الذين انتقضوا عليه في غيابه ورموه في ظهره فيكتسح بلادهم ويقتل ملوكهم جزاء خيانتهم وغدرهم ويثبت سلطانه في تلك البلاد تثبيتاً لا مجال للخيانة والغدر. وقف قتيبة أمام سمرقند يناجي نفسه قائلا: يعشش فيك الشيطان؛ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقضي غاية، سمع هذا القول أحد خاصة قتيبة فقال لبعض أصحابه كم من نفس أبيه ستموت غداً منا ومنهم! أجل لقد أصبح قتيبة والحمد لله سليما معافى، ولابد من البر باليمين فأصدر أمره للجيش بالتقدم نحو سمرقند فسار الجيش للظفر المنصور نحو المدينة والله يعلم كم من النفوس الأبية قد ذهبت على أبواب سمرقند، ولكن على كل حال فقد فتحت سمر قند، ولكن على كل حال فقد فتحت سمر قند، فتحت سمر قند فدخلها قتيبة والسيف في يده يقطر دماً فوقف على جبل سمر قند ونظر إلى الناس متفرقين في المروج فتمثل قول طرفه: - وأرتع أقوام ولولا محلنا ...
بمخشية ردوا الجمال فقوضوا ارتحل قتيبة عن سمر قند بعد أن استحلف عليها أخاه عبد الله وترك له جنداً وعتاداً حربيا وقال له: لا تدعن مشركاً يدخل باباً من أبواب سمر قند إلا مختوم اليد، وأن جفت الطينة قبل أن يخرج فاقتله.
وإن وجدت معه سلاحاً فاقتله وإن أغلقت أبواب المدينة فوجدت فيها أحداً منهم فاقتله. غزا قتيبة كل هذه المغازي وفتح كل هذه الفتوح فلم تقف به همته عند هذا الحد بل دفعة الإيمان بالله والرغبة في نشر دين الله في أوسع بقعة من الأرض ما دام ذلك في إمكانه.
إذاً لا بد لقتيبة من فتح كشعر تمهيداً لفتح الصين، ولكنه فوجئ بموت الوليد هما الوليد ابن عبد الملك بعد موت الحجاج.
والحجاج والوليد هما اللذان يثق بهما قتيبة ويعتمد عليهما ويستمد قوته منهما.
إذاً فقد تغير الموقف وأصبح قتيبة يخشى سليمان بن عند الملك، لأن قتيبة كان قد سعى في بيعة عمر بن عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج، ولأن سلمان كان صديقاً ليزيد بن المهلب خصم قتيبة الألد.
وما دام قتيبة يخشى سلمان فعليه أن يحتاط للأمر فينقل أهله إلى سمر قند ليكونوا بالقرب منه، حتى إذا بدا سلمان ما يريب اعتصم دونه بهذه البلاد التي فتحها بسيفه.
ولكن مع كل هذا ر بد من غزو الصين ما دام قد احتل كشعر وأصبح من الصين على الحدود. علم ملك الصين بعزم قتيبة على فتح بلاده فلم ير أمامه إلا المطاولة والمصابرة بالمفاوضة والمخابرة على أمل أن يكون في حادث الدهر ما يغني عن قتال.
فأرسل ملك الصين إلى قتيبة أن لبعث إلينا رجلاً من أشرف من معكم يخبرنا عنكم ونسائله عن دينكم.
فانتخب قتيبة من عسكرة أثنى عشر رجلاً لهم جمال وأجسام وألسنة وبأس، وجهز لهم أحسن جهاز وقال لهم إذا دخلتم عليه فأعلموه إنني حلفت أن لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي إخراجهم.
وصل الوفد إلى الصين فدعاهم الملك فلبوا الدعوة ودخلوا عليه وهم في ثياب بيض تحتها الغلال تنبعث من أردانهم رائحة الطيب فلم يكلمهم الملك، فنهضوا، فقال لمن حضر كيف رأيتم هؤلاء قالوا رأينا قوماً ما هم إلا نساء ولما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز.
فلما دخلوا قيل لهم ارجعوا، فقال لأصحابه كيف رأيتم؟ قالوا هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال.
فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وتقلد السيوف وأخذوا الرماح وتنكبوا القسي وركبوا خيولهم وغدوا، فنظر إليهم الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين فقيل لهم ارجعوا، فركبوا خيولهم واختلجوا رماحهم ثم رفعوا خيولهم كأنهم يطاردون بها.
فقال الملك لأصحابه كيف ترون؟ قالوا ما رأينا مثل هؤلاء قط.
فلما أمسى الملك طلب زعيم الوفد فدخل عليه فقال له الملك.
لم صنعتم ما صنعتم في الأيام الثلاثة؟ فقال له أما زينا في اليوم الأول فلباسنا في أهالينا، وأما اليوم الثاني فزينا إذا أتينا أمراءنا وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا.
قال ما أحسن ما دبر تم؛ انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف.
إني عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه.
قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا وراءه قادراً عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل.
قال فما الذي يرضى صاحبك؟ قال إنه حلف أن لا ينصرف حنى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطي الجزية.
قال فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأها ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ثم أجاز الوفد وسرحه إلى قتيبة الجزية وختم الغلمة وردهم ووطئ التراب. رجع قتيبة إلى خراسان وكان سليمان قد ولي الخلافة فما لبث سليمان حتى عزل قتيبة عدوة وصديقه يزيد بن الملهب، ولكن هيهات أن يذعن قتيبة لأمر سليمان دون أن تشرق هذه الأقطار بالقنا والصوارم والدماه فخلع قتيبة سليمان وأراد أن يملأها عليه خيلا ورجالا؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه فقد حدثت فتنة عمياء صماء ذهب قتيبة وأهل بيته ضحيتها.
قال رجل من عجم خراسان: يا معشر العرب قتلتم قتيبة؛ والله لو كان قتيبة منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا.
والله ما صنع أحد قط بخرا سان ما صنع قتيبة.
وقال آخر: يا معشر العرب قتلتم ويزيد بن المهلب وهما سيد العرب.
فقال له أحدهم أيهما كان أعظم عندهم وأهيب؟ قال: - لو كان قتيبة بالغرب بأقصى حجر بالأرض مكبلاً بالحديد ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. رحم الله بن مسلم الباهلي وإلى خراسان، وقاهر الشرك في إيران والأفغان والتركستان، ومرغم ملوك الصين على التسليم والإذعان، وجزاه عن العروبة والعرب والإسلام والمسلمين خير الجزاء وجعل الجنة مأواه. حمدي الحسيني

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن