أرشيف المقالات

الجامعة في ربع قرن

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ محمد محمد علي تحتفل جامعة فؤاد الأول بمرور ربع قرن على مولدها الرسمي السعيد.
وربع قرن أمد بعيد في عمر الأفراد، ولكنه ليس كذلك في حياة الجامعات.
فقد احتفلت جامعة مونبلييه بعيدها الألفي ولماذا نذهب بعيداً وأمامنا الأزهر الشريف؟ وليس من شك في أن الجامعة عنوان تقدم المجتمع، وأن أثرها بعيد في إعداد الشباب لخدمة الوطن والمساهمة في حل مشكلاته والتحمس لإصلاحه. وقد اتخذت الجامعة لها مقرا على الضفة الغربية للنيل.
وفي ذلكم - كما رأى الدكتور زكي مبارك - رمز لما تسمو إليه من نقل عقل الغرب إلى روح الشرق. أنشئت الجامعة (الأميرية) في عام 1925 بلا أهداف واضحة ومن غير رسالة محددة.
وهنا يواجهنا أستاذنا الدكتور عباس عمار بتلك الحقيقة المرة؛ وهي أن النظام الجامعي يبدو أنه فرض علينا فرضا، فلم يأت كما حدث في كثير من بلدان العالم الغربي نتيجة تطور طبيعي، وما دعت إليه وقتئذ حاجة ماسة.
(وليس أدل على ذلك من غموض النص على اختصاص الجامعة في اللائحة التأسيسية لها.
فمن اختصاصها مهمة تشجيع البحوث العلمية والعمل على ترقية الآداب والعلوم في البلاد. ذلك أن النظام الجامعي - ككل نظام اجتماعي - لكي يؤتى أكله ويستسيغه الأفراد، لا بد أن يعبر عن الاتجاهات الحديثة التي يتجه إليها المجتمع، وأن ينسجم مع النظام الاجتماعية الأخرى ويتفق مع وجهة المجتمع.
ولقد أثار الأستاذ الكبير فريد يك أبو حديد مشكلة على جانب كبير من الأهمية، وهي: هل كان نشر التعليم حقا هو العمل علة نهضة الأمم في الماضي؟ وهل كان تطور التعليم في البلاد، أم أن تطورهكان نتيجة تطور الحياة في المجتمع. وانتهى الأستاذ في بحثه إلى أن تطور الحياة في المجتمع هو الباعث على نشر التعليم.
بيد أنه كان الكثير من مظاهر نهضتنا الحديثة لم يكن نتيجة تطور طبيعي، فإن التعرض لهذه الناحية فيه زعزعة لأركان هذه النهضة.
فهل كان ينبغي أن نعيش بمعزل عن التيارات العالمية ونتخلف عن الركب؟ إننا لا نستطيع، فالعالم وحده متشابكة المصالح معقد الروابط.
والرأي السليم هو أن يوفق أولو الأمر بين الجامعة (الجديدة) وبين ما تتطلبه الحياة المصرية، وألا يغفلوا عن مكانة الجامعة في المجتمع، وما تؤديه من رسالة خطيرة. حلت كليات الجامعة محل المدارس العليا القديمة وسارت في عملها.
ومع ذلك فقد ظهرت لها مآثر جليلة وآثار عظيمة.
وقد كان في مقدمة ما قامت به من جلائل الأعمال هو إيقاظ الوعي القومي وشحذ العزائم والهمم.
كما كانت الجامعة - ولا زال - مبعث النور والعرفان، ومصدر أصوات الحرية والاستقلال، فحملت ألوية الجهاد في سبيل مصر العزيزة، ولم تبخل في كفاحها فروت أرض الوطن بدماء الشهداء الأبرار من أبنائها الأطهار. وما ينبغي أن ينكر الباحث صولات الجامعة وجولاتها في النهضة الأدبية والعلمية والفنية؛ إذا ازدهرت الدراسات العليا في مختلف النواحي والشؤون، فلم تعد مصر تعيش عالة على ما تجود به الحضارة الغربية بل نبغ من بين جدران الجامعة من بزوا رجال الغرب ونافسوا؛ فئة تعتز بهم الجامعة وتفخر، ويكفي أن نذكر اسم العالم الأشهر (المرحوم) مشرفة باشا، والوزير الأديب طه حسين باشا، والبروفسير الأثرى سليمان حزين، والأنثروبولوجي الاجتماعي عباس عمار، لتخر أشهر الجامعات ساجدة تشيد بفضل صاحبة أقدم حضارة نقلت العالم من الظلمات إلى النور، وتعترف بأنه يصعب عليها أن تخرج أمثال هؤلاء الرجال.
ومما لوحظ على الجامعة خروجها من عزلتها، فظهرت ثمار النشاط الشعبي للجامعين والجامعيات في إقبال الطبقات المختلفة على طلب العلم، وفي نشر الآداب وتبسيط العلوم والفنون.
ولعل من أروع ما صحب الجامعة من ظاهرات: ظاهرتين خطيرتين هما: اختلاط الجنسين وما نتج عنه من تدعيم أركان النهضة النسائية، ثم تطور الصحافة وتنوير الرأي العام أما اختلاط الجنسين فأن كلية الآداب قد سبقت الكليات في إباحته، وذلك بحكم إن دراساتها من أكثر الدراسات الجامعية ملاءمة للفتيات.
والاختلاط قد يرضي عنه قوم ويسخط عليه آخرون.
وفي الواقع أن الاختلاط - كأي ظاهرة اجتماعية - له فوائد ومضار ولم يكن في الإمكان تفادي حدوثه تلبية لدعوى المحافظين، مادمنا قد وافقنا على أنه ليس في استطاعة أمة أن تعيش بمعزل عن العالم، بل لابد من التأثير والتأثر.
فمن مزايا الاختلاط أنه يقلل من (خشونة) الجنس الخشن (إن جاز أن نكون كذلك) ثم أهم من ذلك وهو الحد من سيطرة الغريزة الجنسية وتخفيف وطأتها عند كل من الجنسين.
وقد دلت الأبحاث النفسية على أن الجنسية المثلية الجنسين، وكراهية المرأة الذكور، وكثيرا من الأمراض النفسية والعصبية سببها الحيلولة اختلاط الجنسين ووقوف كل منهما بمنأى عن الآخر.
ونجد أحيانا أن الاختلاط يهدف إلى أغراض شريفة أو ينتهي الأمر بإقامة دعائم الأسرة.
.
ومهما قيل عن الاختلاط فإن الجامعة ليست هي المكان الوحيد الذي يسمح بالاختلاط، ثم إن ظروفها قلما تساعد على التفكير في الفساد.

على أن الاختلاط لا يخلو من مضار، لا مندوحة عن تلافيها أول الأمر كما قدمنا.
.
وينبغي أن نعترف بوجودها وقد كان فتح الجامعة أبوابها للفتيات عاملا هاما في تدعيم أركان النهضة النسائية والعناية بتعليم الفتاة، وانتشال المرأة المصرية مهما كانت تغط فيه من جهالة جهلاء وضلالة عمياء.

حتى رأينا المصرية المتعلمة تشغل مناصب الدولة الرفيعة وتصل إلى (الدرجة الأولى)، وتخوض غمار الحياة الاجتماعية والسياسية وتؤلف أحزاباً ثلاثة: بنت النيل والحزب النسائي والاتحاد النسائي، إلى جانب الجمعيات والمنظمات النسائية أما الصحافة فإنا نسجل لكلية الآداب مأثرة كبيرة، إذ أفادت صاحبة الجلالة فائدة عظيمة، وغذتها بغذاء دسم سمين، بإنشائها معهد التحرير والترجمة والصحافة.
فظهرت آثار ذلك في تنوير الرأي العام وإيقاظ الوعي القومي.
وقد خطت الصحافة خطوة واسعة في خدمة الوطن وتعددت أنواعها ومما هو جدير بالذكر ظهور الصحافة النسائية كعامل فعال في النهضة الحديثة. ويمكن إرجاع ظهور الصحافة إلى عام 1892 حين أصدرت (هند بنت نوفل) صحيفة (الفتاة) على أن الجامعة هي صاحبة الفضل في نصرتها ونموها، وهنا ينبغي أن نشيد بجهود الدكتورة درية شفيق في هذا الميدان. بيد أن الجامعة - مع قيامها بهذه الجلائل من الأعمال - فإنها قد أخفقت في تأدية رسالات كثيرة، وفي هذا الإخفاق مآخذ يحق لأبنائها أن يأخذوها عليها. فلم تنجح الجامعة في تعميم الدراسة باللغة العربية في جميع الكليات، وما كان لها أن تتغافل عن العمل ونحن في مستهل نهضتها القومية. ثم مسألة الصلة بين الجامعة والخريجين لم تعمل الجامعة شيئاً في هذا الاتجاه، واقتصرت على الصلة بينها وبين طلبتها.
بل أنه أحياناً نجد الصلة بين الأستاذ والطالب لا تتعدى ساعة المحاضرة لكن لا ينبغي أن ننكر ما في قسم الجغرافيا بكلية الآداب من نظم الحياة الجامعية الحقة، إذ ساعدت قلة العدد على توثيق عرى الروابط بين الطلبة والطالبات والأساتذة، هذا إلى جانب الرحلات أدى إلى تكوين (الأسرة الجغرافية). ولا تزال ظاهرة الحفظ والتقيد (ببعض) ما جاء في كتب معينة، واضحة في بعض الكليات، مما جعل شبه استمرار للمدرسة الثانوية، ويبلد الذهن ويزيد من أمية المتعلمين. والنقطة الهامة هي تأثير الجامعة بالسياسة الحزبية، فقد فشلت الجامعة فشلا ذريعا في تحصين أبنائها وبناتها ضد عبث الأحزاب المختلفة، فأصبح من السهل على قلة من المهرجين وفئة من الديماجوجيين أن يسمموا أفكار الشباب وأن يجرفوهم في تياراتهم، لم تخط الجامعة خطوات حاسمة في تعويد أبنائها التفكير الحر، ولم تبث فيهم روح التحمس الجدي للإصلاح، ولا يغرب عن بال ما دسته هذه الأحزاب من أفكار سامة لوث التعليم الجامعي إذ تدور حول الحقد والطمع والطعن في الغير بالحق وبالباطل. ومع ذلك فقد لاح في الأفق بصيص من الأمل بتولي الدكتور طه حسين باشا أمور التعليم، وأصبح لجامعة فؤاد الأول أخوات ثلاث، نرجو أن تعمل كلها على تحقيق رسالة الجامعة في المجتمع، وأن توجه عنايتها للكيف لا للكم. فإنا نعلق على همة الوزير الأديب آمالا كبارا ونرجو على يديه خيرا كثيراً. محمد محمد علي مدرس بمدرسة مفاغة الثانوية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣