أرشيف المقالات

من وحي المؤتمر الثقافي العربي

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للآنسة عزيزة توفيق ها نحن أولاً جلوس حجرة الاستقبال (الصالون) بكلية الآداب بالشاطئ بالإسكندرية وقد تعددت اللهجات، كل جاء يحمل مشعلاً ليشترك في إشعاع الضوء من الكوكب الدري الذي مرت على ضوئه غيوم خفيفة حجبت نوره فترة من الزمن، وإن لم يفقد الضياء. وها نحن أولاً نشم عبير الهواء محملاً برائحة (اليود) فتسري في أرواحنا نشوة نشاط، ونرى الأمواج تسرع متسابقة متلاحقة يستخفها الفرح والسرور كأنها ترحب بناء.
لقد دار الزمن دورته واجتمعت وفود العرب في الإسكندرية التي كانت مهد الثقافة العربية ومتلقى العلماء من كل فوج. لقد اجتمعت وفودنا نحن العرب لنتباحث في أحسن الوسائل العلمية التي تساعد على نشر الثقافة العربية.
لقد جرف الشرق تيار قوى الموج يحمل معه زيف المدينة والحضارة وجرفنا نحن العرب أمامه، وما زال يدفعنا ولما نستطيع الرجوع ضد التيار بعد.
قام كل من المصلحين أو الداعين إلى الإصلاح يدلي برأي؛ فمن قائل: يجب أن نعني بالتراث القديم، ونحي ذكر العلوم العربية القديمة وتخرج كنوزها ونبتعد عن الثقافة العربية، ونسي أنه لكي نكون مثقفين يجب ألا نغلق عقولنا على ثقافة واحدة، وأن نأخذ الخير من الثقافات الغربية لتكون بمثابة طعم لثقافتنا.
لقد سلكت وزارات المعارف العربية طرقاً شتى في وضع برامج مختلفة تغيرت مرات كثيرة تبعاً للظروف السياسية وما تقتضيه سياسة الاستعمار أو ما حظيت به بعض الشعوب من استقلال. وها قد اجتمعت وفودهم اليوم ليوحدوا برامج التعليم ونسوا أن هذه فكرة مستحيلة؛ إذ أنه لكي تكون الفائدة من العلم محققة يجب أن يتمشى مع عادات كل أمة وتقاليدها وما تقتضيه مصالحها ونواحي الحياة الاجتماعية والسياسية فيها.
إن البلد الواحد يجب أن ينوع فيه التعليم حسب الأقاليم؛ فمثلاً البلاد الزراعية يجب أن يعم فيها التعليم الزراعي، وفي المدن الصناعية يجب أن يعمم التعليم الصناعي، وهكذا. ولكني أرى أن الفائدة الحقة من العلم والثقافة بوجه عام هي أن يكون علماً تربوياً وثقافة سلوكية؛ أي نعني بتربية أبنائنا التربية الحقة التي تتناول كل مرافق الحياة الخلقية والدينية والعلمية والفنية.
يجب أن نعلم أولادنا الحياة، أي نعدهم ليعرفوا كيف يعاملون الناس وكيف يحترمون أهليهم ومن هم أكبر منهم سناً وكيف يأكلون ويشربون ويلبسون. هذه هي أغراض التعليم والثقافة الصحيحة، إذ لا فائدة من علم أو ثقافة تقرأ في الكتب لتنمي العقل وليس له أثر في التكوين الشخصي والشعور والوجدان الذي يعبر عنه بالضمير. لقد رأينا أولادنا وإخواننا وزملاءنا في الجامعات والمعاهد العالية يقفون حيارى، فقد احتشدت أذهانهم بالعلوم والنظريات التي تلقوها وسيلة مهما اختلفت المناهج وطرق التعليم.
ولكنهم لا يجدون لهذا الحشد من النظريات العلمية والمعارف الثقافية أي صدى في نفوسهم.
لقد ساروا في مرحلة المراهقة التي يتشك فيها الطالب في كل شيء، وليس لهم من أساس ديني يقوى فيهم الروح والعقيدة فباتوا يتساءلون من هم، وماذا يراد بهم في الحياة؟ وثاروا على كل شيء، وانّتهز دعاة السوء ثورتهم تلك فباتوا يملئون أوعية نفوسهم الفارغة بآرائهم ومعتقداتهم الهدامة.
وكانت مأساة الشباب التي شهدناها في مصر وغيرها من البلدان العربية.
لقد تلقى النشء العلم مجرداً، ولم يعن بتربيتهم تربية صحيحة سلوكية أو دينية خلقية، فمشى العقل وبعد مسافات عن الروح، ومن هنا كانت الثورة وكان النزاع وكان عدم الاستقرار الذي يهدد حياة السباب وأهدافهم ومثلهم العليا في الحياة وما يسعون له في الحياة. وإذا تنبهت وفودنا إلى ذلك وراح بعض المصلحين ينادون بجعل الدين عنصراً أساسياً في الثقافة العربية إذا بقائل آخر يعترض متسائلا عن أي دين يتبع. ولو فكر قليلاً لعلم أن جميع الأديان تهدي وتبين الشرائع والسبل الخيرة لإصلاح الفرد والمجتمع، وأن الدين - على حسب المثل القائل - هو المعاملة.
وما أريد بجعل الدين جزءاً من الثقافة أن يحفظ النشء آيات الكتب المقدسة وتفسيرها على حسب ما يذهب إليه رجال الدين، وأن هذا حرام وأن هذا حلال دون أن يكون لذلك من أثر في تربية الروح، بل يراد به أن يتخذ كوسيلة للتربية الخلقية والتكوين النفسي على أسس تتمشى مع وسائل العلم الحديثة وتطور المجتمع. نحن لا نريد من النشء أن يذكر لنا لأنه حائز لشهادات عالية، بل نريد أن نرى ونلمس بأنفسنا أنه قد تثقف ثقافة عالية.
نريد تربية لأولادنا ولا نريد لهم علماً مجرداً يدفعهم إلى صخرة صلدة تحطمهم وتمزق أوصالهم.
ولقد قال الأستاذ محمود شلتوت عضو هيئة كبار العلماء في بعض محاضراته (إن حياة القلب هي التي تنمي حياة العلم والإدراك).
وما دمنا نريد تربية روحية حقه فعلينا أن نلاحظ فيها التربية الجمالية بأوسع معانيها فهي كل فروع الروح، فننمي فيهم حب الجمال الذي يشع منه تربية الذوق الجميل والحس المرهف. فإذا ما نادينا بتربيتهم تربية روحية يجب أن ننادي بالتربية الثقافية الفنية التي تتناول كل ما يتعلق بحياتهم وتعلمهم السير فيها على أحسن ما نرجوه لهم من خير وسعادة. وفقنا الله أعيننا النور قوياً ساطعاً، لا شيء يحجبه دوننا، وأن نسمع الصوت قوياً واضحاً فنسعى إلى الضوء ونلبي جميعاً النداء، لنكون خير أمة عالمية ونحقق الغرض الذي اجتمعت لأجله وفودنا العربية فيزداد الكواكب الدري سناء وحتى تقتبس منه الأمم الغربية والشرقية بعض ما تهدى به ثقافاتها. عزيزة توفيق عضو المؤتمر

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣