أرشيف المقالات

في الشعر السوداني

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 الأخلاق والعادات للأستاذ علي العماري - 8 - لست في حاجة إلى أن أؤكد هنا ما قلته مراراً من أني لا أقصد من تصوير أدب الأمة لحياتها أن يكون - فقط - سجلاً تصور فيه مناظرها الطبيعية أو مشاكلها السياسية، أو تحصى فيه عاداتها وأخلاقها وتقاليدها، وإنما أقصد أن يتأثر الأدب بهذه الظواهر في الأمة، فيجرى في أوصاله ما تعكسه هذه الأمور من شمائلها، وما توحيه إلى أنفس الشعراء من خصائصها، فالأخلاق التي توجه الأمة؛ والعادات التي تذيع فيها، والخرافات التي تسيطر عليها، كلها ذات انعكاسات نفسية، لا مندوحة من ظهورها في الأدب - أن صدق الأدب - ونحن حين ننظر في الأدب لنحكم عليه بالتخلف أو النجاح، وبالتقاليد أو الأصالة، من واجبنا أو لا أن نتفهم جيداً ما يحيط بهذا الأدب من شتى الاتجاهات والمؤثرات. وإذا كان الباحثون في الأدب العربي يجعلون أول همهم حين يفصلون تصوير الشعر العربي للحياة الاجتماعية عند العرب أن يعدوا ما ورد على السنة الشعراء مما يعد تسجيلاً لعادات قومهم فإننا نجعل هذا آخر همنا وننظر أولا في المظاهر العامة للأدب.
ونرى هل تأثرت في اتجاهها بيئتها وانحرفت عن السبيل، وظهرت فيها خصائص بيئات أخرى، ولنضرب لذلك مثلاً: من ابرز الأخلاق التي يمتاز بها عرب السودان البطولة والجلادة، والصبر على المكاره، وقد اتخذت هذه الصفات مظاهر متعددة، وبدت في أشكال مختلفة، فمن أكبر العار عند العربي السوداني الفرار من الميدان، وهو يقاتل ما دام النصر يتراءى له؛ فإذا تأكد الهزيمة لم يول ظهره ولم يقاتل قتال المستميت بل يلقى فروته على الأرض ويجلس عليها رابط الجأش، ثابت النفس حتى يقتل أو يؤسر، كما فعل الملك جاويش الشايقي الكبير عندما تغلب عليه بشير ملك الخندق.
كان فرسان الشايقة يفتخرون بأنهم يفترشون (فراويهم) إذ بدا لهم أنهم غلبوا، وكما فعل الملك نمر عندما تغلب عليه الترك في واقعة النصوب فإنه ترجل عن جواده، وجلس مفضلاً الموت. ومن العار الذي لا يمحى، ويبقى سبة للرجل وأولاده من بعده يعيرون به، أن ينطق المريض مهما اشتد مره بكلمة تدل على تألمه، أو يبدى المضروب اقل توجع مهما اشتد عليه الضرب أو يظهر على المسوق إلى القتل اقل جزع أو خوف.
وقد حدثت بأحاديث كثيرة في هذا الشأن، فقد ذكروا أن جماعة من المجموعة حكم عليهم بالإعدام وكانوا يساقون إلى المشنقة واحداً واحداً، فجلسوا يلعبون (السيجة) وهم ينتظرون نوبتهم في القتل، وكان الجلاد يأتي فيأخذ أحدهم للقتل، ويبقى الآخرون مستمرين في لعبهم دون أن يبدو عليهم أي ذعر أو خوف.

وهكذا حتى قتلوا جميعاً. وحدثت أن بعض الفرسان بق إلى المقصلة، وكان مكانها بعيداً، وقد أبى أن يمشى مقيداً، ولكن القيد كان من النوع المفرغ، فلا يمكن فكه، فأيئسوه من فك قيده، فطلب أن يقطعوا قدمه ففعلوا، وجعل يمشى وما رؤى عليه أي تأثر. ومن العار أن يرفع الإنسان صوته بالأنين والتوجع في حادث من الحوادث حتى لقد تجرى لأحدهم عملية جراحية دون مخدر ومع ذلك لا يرتفع له صوت، رأيت مثل ذلك في مثقفيهم، وتأكد لي من مناقشتهم طويلاً في هذا الشأن، ولقد قلت مرة لأحد المترفين: ماذا وضربت عشرين سوطا؟ قال: أتألم اشد التألم، قلت أما ترفع بالتأوه والأنين؟ قال: لا.
لا.
(الكوراك) لا سبيل إليه (والكوراك: رفع الصوت) ومعروف من عاداتهم في (البطان) أن الشاب إذا اعجب بفتاة ووقع حبه في قلبها نزعت من معصمها سواراً، وألبسته إياه، فيأخذ الشاب إذ ذاك سوطه، ويهزه فوق رأسها ويقول: (ابشري بالخير أنا أخو البنات عشرة) فإذا كان له بين الحضور منافس فيقف له حامل السوار واضعاً يده اليمنى فوق رأسه فيجلده بسوطه إلى أن يكل فيرمى السوط فيجلده حامل السوار في نوبته بما أعطي من قوة، ويقف المضروب في حالة الضرب جامداً لا يتحرك، ولا يطرف له جفن كأنه صخر أصم، ومن بدت عليه ظواهر التألم بل من بدت منه أقل حركة كهز الكف أو طرف الجفن، لبس العار، ولم يعد له في البنات نصيب. بل قد حدثت بما هو ابعد من هذا، حدثت أن سيدة أبت أن تقوم في مأتم أخيها، أو تقف على قبره، لأنها رأت في وصيته ضعفاً وخوراً لم تحبهما فيه، رأته يوصى بان يدفن بجوار قبر ولي من الأولياء، ولا يدفن في مقابر أهله وعشيرته، فقالت لا أبكيه أيخاف من النار وأبكيه؟! هذا الخلق لابد أن يظهر في الشعر وإلا كان الشعراء يعيشون مع قوم آخرين فليس طبيعيا أن ترى الأنين والباء والتوجع والتأوه في الشعر السوداني، وإنما الطبيعي أن ترى التسامي على حوادث الدهر، والسخرية بتقلبات الأيام، والنفور من الضعف والهوان.
وإذا كان للشعراء في أي جهة أخرى أن يسهوا الليل وأن يعدوا النجوم، وأن يلطموا الخدود، ويشقوا الجيوب في سبيل محبوبة هاجرة، وإذا كأنهم أن يشيعوا موتاهم بالعويل، وأن يتلقوا حوادث الأيام بجفن باك، وقلب واجف، وصبر متخاذل، فإنه ليس للشاعر السوداني إلا أن يقول كما قال ابن سناء الملك: ولو مد نحوي حادث الدهر كفه ...
لحدثت نفسي أن أمد له يدا فليس من الطبيعي أن نقرأ للشاعر شيئاً من هذا إلا حين يئس نفسه وقومه، كقول الشيخ عمر ألا زهري: سلا عن فؤادي مسبلات الذوائب ...
فقد ضاع من بين القلوب الذوائب فلا سلمت نفسي من الحب قد خلت ...
ولا كان جفن دمعه غير ساكب ولا أن تقرأ للشيخ أحمد المرضى: لقد آن أن أبكي وأبكي البواكيا ...
وانظم من حب الدموع المراثيا ولكن من الطبيعي جداً أن نقرأ للشاعر عبد النبي مرسال هذه الأبيات. أنا أن عضني الزمان بناب ...
ودهائي يوماً بفرس وبلتني الخطوب من كل نوع ...
ودهتني الكروب من كل جنس أن لي كالحديد عزماً ونفساً ...
لا تفل الخطوب عزمي ونفسي ومن الطبيعي أن يفتخر الشاعر السوداني بالبطولة والشجاعة وأن يتمدح بها، وأن يمدح حين يمدح بها ويهجو إذا هجا بالجبن والضعف والفرار يوم الزحف، وأن تظهر عواطفه في مثل هذه الأبيات: ألقى بصبري جسام الحادثات ولى ...
عزم أصد به ما قد يلاقني ولا أتوق لحال لا تلائمها ...
حالي، ولا منزل اللذات يلهيني ولست أرضى من الدنيا وإن عظمت ...
إلا الذي بجميل الذكر يرضيني وكيف اقبل أسباب الهوان ولى ...
آباء صدق من الغر الميامين وإذا كان أهل السودان يعدون الكرم من أكبر مفاخرهم والبذل من أحد سجاياهم - وهو كذلك - فبديهي أن تظهر هذه الحضارة النبيلة في الشعر، وأن تأخذ مكانها اللائق بها، وكثير ما نقرأ لهم الأبيات الجميلة في تمدح بالكرم، والافتخار بالجود كما نجدهم إذا هجو كان من أبلغ الهجاء عندهم أن يصفوا الرجل بالشح، وانه لا يؤدى واجب أضيافه، وكما تجد هذا في الشعر المعرب تجده في الشعر العامي، ويعجبني قول امرأة ترث زوجها. بي عبدو، بي خادمو.
...
للدهر العيش مورادمو يكفى الضيف، ويقادمو فهي تصف زوجها بالسيادة، وأنه صاحب عبد وخادم، تدق في الوصف، وتبلغ في التعبير وتنبل في المعنى، فتصف زوجها بالبذل والأنفاق، وإنه يعطى ما لديه، وإذا كان البخلاء يختزنوه العيش مخافة حوادث الدهر، وتقلبات الأيام، وإذا كان ظنهم في الله سيئاً فإن زوجها رجل لا يخاف إلا البخل، ولا يهرب إلا من قالة السوء، ولا يحسب حساباً للدهر والأيام، فهو لم يردم العيش ويختزنه خوفاً من الدهر (للدهر العيش المرادم) ثم تتحدث عن مظهر من مظاهر الكرم فتصف زوجها بأنه يكفي الضيف، وهذا لباب الكرم، ومع ذلك لا يقصر في الإكرام فهو يودع أضيافه إلى مسافة بعيدة على عادة الكرماء وعبرت عن ذلك ابسط تعبير (يكفى الضعيف ويقادموا) كما يعجبني رجل من البطاحين: من منا ولى منا ...
كذبوا القالوا متلنا يكفى مراره فيسلنا ...
ويصد القوم عاطلنا فهو يفتخر هنا بنسب قومه ومكارمهم وشجاعتهم ويقول: أنه لا يساميهم أحد ومن قال أنه مثلهم فقد كذب، ويسكن البطاحين بين الجعليين والشكرية، الجعليون شمالهم، والشكريية جنوبهم، أو على تعبيرهم الشكرية في الصعيد، والجعليون في السافل، وهو يقول: من هنا والى هناك يقصد الجعليين والشكرية يكذب من يقول أنه مثلا، ثم يصف قومه بالكرم فقال: يكذب مرارة فسلنا، والفسل البخيل، ويكفى مرارة إشارة إلى العادة المعروفة في السودان وهي أنه إذا نزل أضياف برجل وكان كريما ذبح لهم، وللدلالة على أنه ذبح يقدم لهم أول ما يقدم الكبد والطحال والكرش، وتؤكل كل نيته، يرون في ذلك دلالة على نهاي الكرم، ويعبرون عن هذا الطعم (بالمرارة) والشاعر البطحاني يقول: أن يخيلهم يبلغ به الجود إلى درجة أنه يكفى الأضياف ويذبح لهم حتى يباع حد الكرم، وإذا كان بخيلهم يقوم بحق الأضياف، فضعيفهم يصد الجيش المغير، وهذا نهاية المدح والافتخار. والحق أن شديد الإعجاب بهذا الشعر البدوي، وهو عندي أصدق لهجة واقرب إلى الواقع من الشعر المعرب. أما تسجيل الشعر للعادات، فالمطلع يجد كثيرا من هذه العادات في الشعر السوداني، ولا سيما العامي منه، وسأقتصر هنا على بعض تلك العادات؛ فمن العادات الشائعة في السودان أن يلبس النوادب لباس الحرب الميت ويحملن آلاته التي كان يستعملها في القتال، تتقلد واحدة من قريباته سيفه وتلبس أخرى جبته أو عمامته، ويدرن باكيات في ساح الدار، ولا يعمل هذا العمل إلا للعظماء من الرجال ملوكاً كانوا أو محاربين، وقد يستمر هذا خمسة عشر يوماً، والشاعر السوداني يذكر هذه العادة في معرض الحسرة والألم على ما صارت إليه حال قومه، فهو يبكى على زمن مضى كان السيف فيه في يدي البطل يدافع به عن حوزته ويدفع به في صدر عدوه، فعدا الزمان وسلب السيف من يديه ووصفه في يد الناعية، فأصبح لا يرى إلا في يدها، والخوذة ويسمونها (التربك) لا ترى إلا على رأسها: كأن الزمان برغم الزم ...
ان أمسى تبيعا لسلطانيه غفرت له وهو ذاك العتي ...
فكم ناشئ بيد عاتيه عدا فاستباح دروع الكما ...
ة فلف بها رمما بالية وخلى التربك وهز البوا ...
تر حبساً على الغادة الناعية والشعوذة والدجل، وضرب الرمل، وطرق الحصى، والودع كثير في السودان، والناس يؤمنون بكثير من هذه الضلالات، ولا يفوت الشعراء أن يحدثونا عن صاحبة الودع، وأن يصفوا لنا ما يفعله الحاوي، ويجرى على ألسنتهم ذكر التعاويذ والتمائم، ومن ذلك ما يقوله التيجاني يوسف: عوذوا الحسن بالرقى وخذوني ...
أنا تعويذة لكعبة روحي قربوها مجاماراً أنا وحدي ...
عوذ للجمال من كل روح احرقوني عل يديه وشيدوا ...
هيكل الحب من فؤادي الذبيح واعصروا قلبي المفزع للحسن ...
أماناوعوذوه (ينوح) وللمجامر في الحياة السودانية شأن أي شأن، فليس يخلو منها بيت من البيوت، ويوضع فيها البخور حيث تتطيب به النساء والتيجاني يشير إلى ذلك حين يقول: وليلة من جمادي ...
في مثل روعة شهره درجت والحسن حولي ...
إلى خبيئة سره ورحت احرق نفسي ...
على مجامر عطره أذبت من خمر روحي ...
على يديه وثغره بقية من ربيع ...
شقيت وحدي بزهره ومن عادة الزوجة في السودان إلا تخاطب زوجها باسمه بل تدعوه بأسماء أخرى تتحاشى طوال حياته أن تناديه باسمه، والشاعر يسجل هذه العادة فيقول: ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ...
فتاته اللحظ ذات الحاجب النوني يا بنت عشرين والأيام مقبلة ...
ماذا تريدين من مرءرد خمسين قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ...
أطيعه وحديث ذو أفانين ولا منى فيك والأشجان زائدة ...
قوم وأحرى بهم إلا يلوموني في ذمة الله محبوب كلفت به ...
كالريم جيداً وكالحيروز في اللين يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً ...
يا أنت، ياذا، وعمدا لا يسميني على العماري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢