أرشيف المقالات

مشكلة الفن والقيود

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 للأستاذ علي محمود سرطاوي ذكر الأستاذ المعداوي في تعقيبات عدد الرسالة (885) عن مشكلة الفن والقيود ما يأتي: (في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحس بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف.

هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولا بد من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم.
ذلك لأن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسميها (ملكة التنظيم، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة آلتي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه؛ كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مشوش، ومقاييس معقدة، أو مزلزلة.
وابلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريانية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى ميدان النحت والتصوير والقصة، فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع الفن بطابع التسلسل والوضوح والدقة والوحدة والنظام.

مثل هذه الحركة في الفن ليس لها دف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأسس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود، وشبيه تلك الحركة في جنايتها على معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضى بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تقفز بعض الأذهان إلى تلك (الملكة التنظيمية) التي تلائم بين الجزيئات وتوائم بين الكليات، وتفصل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد.
(نريد من الفنان سواء أكان شاعراً أم مصوراً أم موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم يرسم أصلوه وقواعده قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضى فيه وقبل أن ينتهي منه.

نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم الفني الذي يأمره بالوقوف عند هذا المشهد، وبالتقاط الصورة من هذه الزاوية، وبتركيز الانفعال في هذه الموطن من مواطن الإثارة.
عندئذ نوجد نظاماً، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن.
هذا التصميم الذي تدعو إليه بنظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى.
هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزع الظلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير.
ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي).
لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق.
مستودع النفس، قبل أن تدفع بها إلى الوجود كائناً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء.

أننا ننك ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تطمس فيه معالم الطرق وتنمى الجهات أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات!) أهـ. والذي ينعم فيما اقتبسناه من رأى الأستاذ الفنان المعداوي يخيل إليه أن عمل الفنان لا يفترق عن عمل المهندس في كثير أو قليل؛ ذلك أن المهندس يجلس إلى منضدته وأدواته الهندسية في زحمة الأرقام والأبعاد والحجوم، وتحت سيطرة العقل الواعي وحدة الذهن، وهدوء الطبع، يرسم على أوراقه التصاميم التي يطلب منه عملها؛ من عمارات، وجسور، وطرق، وإنفاق، إلى أخر ما هنالك من أعمال هندسية، حتى إذا ما فرغ من عمله المعقد الدقيق، وحساباته التي تحطم الرأس، نقل ما على الأوراق من أشكال إلى مسرح العمل، وراحت تلك التصاميم تأخذ طريقها إلى الوجود رويداً، رويداً، كل ذلك وهو يراقب العمل مراقبة دقيقة يعينها عليها العلم، وتسنده التجارب لئلا يقه في أخطاء قد تنشأ عنها كوارث تدمر حياة الآخرين وما يملكون، وتقضى على مركزه في المجتمع الذي لا يرحم من يمنى بالفشل الذريع. والواقع أن الفنان من شاعر، ومصور، وموسيقي، لا علاقة له بكل ما ذكرناه.
أنه يعمل في الجو الذي يندمج فيه الفنان بروحه مع السر الغامض في الطبيعة حيث يسقط العقل الواعي صريعاً تحت ضربات النفس الإنسانية التي يكتبها ذلك العقل دائماً؛ أنه يعمل في منطقة التخدر الحسي، تلك المنطقة التي لا تسيطر عليها غير العواطف؛ تتجمع في أجوائها كما يتجمع السحاب، من بواعث إثارة المشاعر عن طريق مؤثر خارجي حينا، وعن طريق مؤثر يطل برأسه من رماد الذكريات المخيفة في مخزن النفس العميق حينا آخر، فإذا بتلك السحب ترسل الغيث مدراراً، وإذا بتلك النفحات الإلهية تأخذ مكانها إلى الحياة وراء الكلمات في الشعر، وبين الألوان والظلال في الصور، وبين الأنغام في القطعة الموسيقية. إن الفنان؛ الذي يزعم أنه يعمل من تلقاء نفسه، ويضع التصاميم ويعد العدة سلفاً لعمله الفني، أشبه ما يكون في نظر الحقيقة بذلك الإنسان الذي تخيل إليه معلوماته القليلة أنه سيد العارفين، وقديماً قال البشر في أمثالهم: اخطر على الإنسان من المعرفة الضئيلة.

وليس اخطر على الفنان والفنون من أن يزعم زاعمون انهم ينتجون آثارهم الفنية وفق خطط مرسومة سلفاً، فقد تنطلي تلك المقولة على الفنانين فإذا هم جربوها أوصدت في وجوههم آفاق الإلهام، والطريق إلى سر الحياة الذي يغرفون ويسبحون في غمره. إن السحب لا تلقي حمولتها من الأمطار على الأرض إلا إذا كانت أسباب نزول المطر مهيأة؛ من درجة حرارة مواتية ورياح كافية، وكذلك النفس الإنسانية في الفنان لا تلقى حمولتها من الفن على الوجود إلا إذا كانت أسباب الإبداع والإثارة مهيأة تلك الأسباب التي تحمله على أجنحة الانفعالات إلى عالم بعيد عن الترتيب والتنظيم. إن القطع الفنية الخالدة التي يعتز بها كل فنان لم تكن من عمل أرادته، وإنما كانت من عمل قوى خفية لا قدرة له على استحضارها كلما أراد، وإنما هي التي تحمله على الإنتاج مرغماً متى شاءت، حتى إذا ما أصبح الأثر الفني بين يديه وعاد إلى وعيه، تأخذه الدهشة في كثير من الأحيان مما يشاهد ولا يكاد يصدق عينه، وكثيراً ما يعجز عن إضافة حاشية صغيرة وهو في ظلال العقل الذي يرسم ويفكر ويفلسف. إن النقد كثيرً ما يفلسف الحوادث، ويزيف المنطق، ويخدع العيون ببراعة تبعد عن الحقائق كثيراً والذين يفلسفون الحوادث هم في لغالب يعجزون عن وضع الحوادث أو الفنون نفسها. فهؤلاء المؤرخون الذين يفلسفون حوادث التاريخ كثيراً ما ركبوا متن الشطط وهم يتحدثون عن أبطال التاريخ وصدى أعمالهم وبواعثها، ونتائجها وأسبابها.
ومن المؤكد أن أولئك الأبطال لو أطلعوا عل ما كتبه المؤرخون عنهم لأنكروا قسماً كبيراً منه لأنه لم يخطر لهم على بال. ومثلهم أولئك النقاد الذين كثيراً ما حملوا من الشعراء ما لا يذكره الواقع عنهم، كابي نواس والمعرى والمتنبي.
ولعل قصة الحسن بن هانئ مع أحد المعلمين في بغداد تلقى بعض الضوء على ما نحن بسبيله من حديث؛ فلقد زعمت بعض كتب الأدب، أن النواسي كان منصرفاً إلى قضاء بعض حاجات فمر بمدرسة سمع المعلم فيها يشرح إلى طلابه قصيدته المشهورة: ألا فاسقني خماً وقل لي هي الخمر ...
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر فأنصت إليه وإذا به يمضي في شرحه على الصورة بما معناه: إن الشاعر أراد أن يشرك حاسة الذوق، وحاسة السمع، وحاسة النظر، فإن اشتراك الحواس مجتمعة ابلغ في الشعور باللذة.
ولم يتمالك النواسي نفسه لغرابة ما سمع فأطل عليه يؤكد له أن شيئاً مما ذكره للطلاب لم يدر يخلده وهو ينظم ذلك البيت. ولسنا نشك في أن ملكة (التنظيم) التي وردت الإشارة إليها في قول الأستاذ المعداوي لا تخرج في حقيقتها عن حصول الفنان على درجة من المعرفة، لا كما يقال من الثقافة، تعينه على إزالة الصدأ الذي يغطى الدر والجوهر والذهب المتراكم في روحه، وهذه المعرفة لها قيمتها وأثرها، ذلك أنها تجعل نور الفن يشع وهاجاً كنور الشمس وراء آثار الفنان المهذب.
أما الفنان غير المتعلم، فيبدو الاضطراب، وتطل الفوضى من آثاره، أن هذه الملكة في الفنان المتعلم أيضاً تتوارى كالشهادة المدرسية التي توصل حاملها إلى باب الحياة فيلجه مجرداً منها، حين ينتج الفن كما تصنع النحلة الشهد من الأزاهير. ومن تحصيل الحاصل أن نقول في هذا الموضع من حديثنا أن الفنان يخلق ولا يضع؛ وإن كثيراً من آثار الفنانين غير المتعلمين اقرب إلى روح الفن من آثار الأدعياء الذين امتلأت بهم الطرقات، والذين يحملون أكبر الشهادات الجامعية، ذلك لأن الفن من صنع الله وليس من صنع الإنسان. أن الحركة السريالية والرمزية إلى جانبها، وما قد يتبعها من حركات فكرية، ليست في واقع الأمر (فوضى فكرية تنسب ظلماً لي الفن)؛ بل لعل فيها بعض الشيء الذي لم تستطع تذوقه أو أبصاره وأبصره وتذوقه بعض من سوانا.
أن الذين يعرفون أسرار الذرة يعدون على الأصابع، ولكن هل يعني جهل الكثرة من البشر هذه الأسرار أن قوانين تحطيم الذرة مضطربة مشوشة لا يطمئن الفكر إليها.
أن الطبيعة حولنا لغز من أسرار لا تحصى، وما تزال في أول الطريق إلى التافه القليل من هذه الأسرار.
. إننا في واقع الأمر، نحب الشيء أو نكرهه، لأسباب لا تمت للشيء المكروه أو المحبوب بصلة؛ إنما مرد ما تشعر به نحوها من صدى إلى العادة والذوق. لقد كان غاندي العظيم يقول لاتباعه وهو يوصيهم بالمسلمين في الباكستان: ليس كلما تقولون صواباً، وليس كل ما يقول ويعتقد خصمكم باطلاً، هنالك شيء من الباطل فيما تعتقدون وتقولون، وشيء من الصواب فيما يعتقد ويقول خصمكم. نحن كثيراً ما نرى الأشياء في شكل خاص، لا نلبث أن نراها تختلف عنه إذا تغير الزمان والمكان، واختلفت زاوية النظر، فلقد مات غاليلو حرقاً بسب آرائه حول دوران الأرض على يد محاكم التفتيش وهو يقول: ومع ذلك فإن الأرض تدور. ليس من عمل الناقد، ولا مهمة النقد أن يفرض رأياً بعينيه أو فكرة بذاتها قد يرى فيها غيره من قرائه أشياء وأشياء! كما ليس من عمل الناقد التحليق بجناح النسور بعيداً عن عالم الحقائق، إلى عالم يموج ويضطرب بالرؤى الحالمة والخيال الجميل! أترى هل حقيقة أن الجمال مرتبط بالنظام؟ وأننا إذا أوجدنا النظام خلقنا الجمال؟ لست ادري، وإنما يخيل إلى أن أيجاد النظام كثيراً ما يعجز عن خلق الجمال؛ فالطبيعة لسبب واحد؛ ذلك لأنها فوضى شاملة وإسراف في عدم النظام. والفن سر الطبيعة البكر، لا يبلغ الذروة إلا إذا كان كالطبيعة نفسها.
والإنسان الضعيف الذي ما فئ يمد بصره وراء الأسرار الغامضة في صدر الطبيعة، محملقاً فيها، يخدع نفسه دائماً، وهو يدور الحقاق ولا يقوى على مواجهتها، يفتش عن الأسرار والأسرار أمامه محملقة فيه، تمد ألسنتها إليه من بعيد ومن قريب. وبعد فإن الأستاذ أنور المعداوي.
قد أوجد فناً جديداً في النقد يستحق عليه شكر الذين يعشقون الأدب والفن من الناطقين بالضاد؛ فقد قضى على تلك الأساليب الميتة، وراح يقيم على أطلالها صرحاً من الذوق الرفيع، والخيال الجميل، والرأي السديد يعالج بكل ذلك مشاكل ما زلنا نتخبط في دياجيرها، وما زلنا ننظر إليها بعيون الموتى من البائدين، ونفهمها بعقول أهل الأساطير. وأنا واحد من آلاف المعجبين بالأستاذ العبقري المعداوي، أغتنم هذا الفرصة فأبعث إليه بأطيب ما في قلبي من إكبار وإعجاب بأدبه وفنه وذوقه.
بغداد علي محمد سرطاوي دار المعلمين الريفية

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١