أرشيف المقالات

تعقيبات

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 للأستاذ أنور المعداوي بين بلزاك ودستويفسكي في مقالكم القيم الذي ظهر في العدد (889) من الرسالة، تحدثتم عن أثر القصاص الفرنسي بلزاك في صقل الموهبة القصصية عند الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل، وذلك عن طريق القراءة والدراسة والاحتذاء.
.
ولقد وردت في ثنايا المقال فقرة من الفقرات قلتم فيها بعد شيء من العرض والتمهيد: (وجاء اليوم الذي كان يحلم به الزوج وتحلم به، وخرجت إلى حيز الوجود (ذهب مع الريح).
.
أول نفحة من نفحات الكاتب الفرنسي العظيم، أستاذ مرجريت الذي درست فن القصة على يديه، أستاذ الأساتذة في فنه بلا جدال)
! قلتم هذا عن بلزاك، وهو قول يعبر عن رأيكم في الكاتب الفرنسي وخلاصته أنه أعظم كتاب القصة بلا استثناء.
.
فما هو موقفكم من هذا الرأي الآخر طلع به علينا الأستاذ العقاد في عدد أغسطس من (الهلال)، حيث قال في معرض الحديث عن القصاص الروسي دستويفسكي: (ذلك هو دستويفسكي العظيم، دستويفسكي الخالد، دستويفسكي الذي لا يعلو على منزلته في القصة ولن يعلو عليها فيما أظن كاتب من كتابها المبرزين)؟! ترى هل اطلعتم على هذا المقال الذي كتبه الأستاذ العقاد؟ وإذا كنتم قد اطلعتم عليه فكيف نوفق نحن القراء بين نظريتين، تدفع إحداهما ببلزاك إلى مقدمة الصفوف بينما تقصيه الأخرى عن مكانه لتحل محله دستويفسكي؟.
نحن في انتظار رأيكم على صفحات الرسالة. (دمشق سورية) عدنان المطيعي حقيقة نحب أن يعلمها الأديب السوري الفاضل ويعلهما غيره من القراء، وهي أن اختلاف الآراء حول قيم العباقرة من أهل الفن أمراً لا غرابة فيه.
.
وكيف لا تختلف الآراء وهناك تلك الحقيقة الأخرى التي تدور حول اختلاف الأذواق، وتنتهي إلى أن الذوق هو دعامة كل نظرة وسند كل لمحة وأساس كل ميزان؟ لا عجب إذن من أن ينظر الأستاذ العقاد إلى دستويفسكي نظرتنا إلى بلزاك، وأن يتنازع القصاصان الخالدان مكان الصدارة في عالم النقد بما خلفاه للإنسانية من تراث عظيم! الأستاذ العقاد معجب كل الإعجاب بدستويفسكي لا يكاد يفضل عليه قصاصاً سواه، هو لا يقف وحده في مجال الإعجاب بسيد كتاب القصة الروسية إنما يقف إلى جابه الكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد.
وكاتب هذه السطور مقدر كل التقدير بلزاك لا يكاد يعدل به أحداً في مزاياه، وهو لا ينفرد بهذا التقدير لسيد كتاب القصة الفرنسية وإنما يشاركه فيه الكاتب الروسي العظيم فيدرودستويفسكي.
.
وإذا شهد دستويفسكي لبلزاك فهي الشهادة التي يعتز بها النقد ويحلها من مقاييسه في أبرز مكان!! هذه حقيقة لا يجادل فيها كل مطلع على تاريخ دستويفسكي وكل دارس لحياته الفنية.
.
لقد قرأ الكاتب الروسي كثيراً من آثار بلزاك قبل أن تناول قلمه ليخرج للناس أول قصة، وكان إعجابه به هو إعجاب المعترف بالفضل حين يتمثل في القول المأثور أو الرأي المكتوب.

وأبلغ الدلالة على هذا الإعجاب هو إقباله في مطلع الشباب على إحدى روائع بلزاك يقرؤها في نهم ويدرسها بعناية، ثم يأخذ في نقلها إلى لغته كنموذج رفيع لأدب القصة، ونعني بها رواية (أوجيني جرانديه) التي نشر ترجمتها في إحدى الصحف الأدبية الروسية! حدث هذا على الرغم من تلك العصبية الإقليمية التي أشتهر بها دستويفسكي ورمي في سبيلها من مؤرخي الأدب بأقسى النعوت والأوصاف.
.
كان يفضل الشعب الروسي على غيره من الشعوب: فثقافته في رأيه هي خير الثقافات؛ وحضارته في نظره هي أرقى الحضارات، وقس إلى ذلك أغلب آرائه وأحكامه حين تدعو المناسبة إلى وضع الأدباء الروسيين في الميزان.

هو مفتون بشعر (هيجو) الفرنسي يردده بينه وبين نفسه وبينه وبين الأصدقاء، ولكنه ينتصب واقفاً على قدميه ليدفع عن شعر (بوشكين) الروسي كلما هم لسان بالمقارنة بين الشاعرين، ثم لا يعدو مكانه إلا وقد خفض من قدر الأول ورفع من شأن الأخير! وهكذا كان حاله في كل موقف يتطرق الحديث فيه إلى المدح بين أدباء وطنه وأدباء غيره من الأوطان، إلا بلزاك.
.
فقد رأيه فيه فوق ك شك وفوق كل اتهام، حتى لتتوارى العصبية الإقليمية ولا تبقى غير كلمة الحق يجهر بها في إعجاب منقطع النظير.
وحسبنا من دستويفسكي تقديراً لبلزاك تلك الحملة شنها على الناقد الروسي (بلنسكي) لتفضيله إحدى قصص (تولستوي) على (أوجيني جرانديه!!) ولقد قلنا ونحن نستعرض جوانب الملكة القاصة عند بلزاك ونشير إلى مزاياه: (لقد كان بلزاك دارس نفسيات من الأول، حتى لتستحيل النفس الإنسانية تحت لمسات ريشة غرفة مفتحة النوافذ والأبواب.
وكان راسم شخصيات لا له، حتى لتطالعك النماذج البشرية في ساحة عرضه الفني كما تطالعك في ساحة العرض الكبرى نعني بها الحياة.

وكانيخسر الحوادث والشخوص لإبراز فكرته العامة التي ينسج خيوطها العرض والحوار، فإذا هذه الفكرة منشورة على حدود القصة تمتد ظلالها من البداية إلى النهاية.

وكان في التزامه لعنصر الواقعية الفنية مثلاُ أعلى للمراقبة الحسية والنفسية حين تعملان في خط اتجاه فكري واحد ينتظم كل من خطوط)
. ويقول الأستاذ العقاد عن دستويفسكي في مقاله الذي نشر في الهلال: (فالمواقف الغرامية من أهم المشوقات في القصة على العموم، ولكنك لا ترى رواية لدستويفسكي تحل الغراميات في المحل الأول، ولعلها لا ترتقي في معظم روايات المرتبة الثانية من مراتب العناية، فهي فضول يأتي في السياق اضطراراً ويوشك أن يسقط من الحساب لولا أن إسقاطه واحدة مجافاة للواقع في العلاقات بين الناس.

ومن نواحي التشويق التي لا يكترث لها دستويفسكي تضخيم الحوادث والأكثار من المزعجات أو الطوارق التي تهول العدد الأكبر من قراء القصص فربما دارت القصة كلها على حادثة واحدة من الحوادث اليومية، وهي تشتمل على مئات من الصفحات.

وقلما يتحدث هذا الكاتب الموهوب عن (الشخصيات) العظيمة التي تعود الناس أن يستطلعوا أنباءها ولو كانت من توافه الأنباء، فمعظم شخصياته من صغار القوم الذي يعدون في المجتمعات بالألوف والملايين، ولكنه يجعلهم على الرغم من ذلك (مهمين) جداً كأنهم ذوو قرابة يشغلون بال القارئ لقرابتهم لا لأنهم ذوو خطر أو لأن حوادثهم ذات بال. هذه هي النواحي التي لا يكترث لها دستويفسكي في رواياته، فليس هو كاتب غراميات ولا كاتب جرائم ولا كاتب بطولات ومظاهر تروع الناس بالمناصب والألقاب.

وعلى الرغم من هذا كله يكتب ويشوق ويبلغ الغاية في التشويق والإبداع، فلولا قدرة خارقة في ذلك القلم لما استطاع أن يرتفع إلى القمة العليا بين كتاب الرواية في جميع العصور! ما هي هذه القدرة الخارقة؟ هي القدرة على الغوص في السريرة الإنسانية، ففي بضع صفحات ينتقل القارئ من الشاطئ إلى أعمق الأغوار الإنسانية فإذا هو غارق معه في بحر لجي لا يحف فيه بالأرض والسماء، ولا يسأل أهو في ربيع أو شتاء، وفي صباح أو مساء، لأن (معمعان) هذه النفوس التي يغوص فيها يشغله عن الدنيا وما فيها ويبلغ من طغيانه على خيال القارئ أن يتوهم أنه عائش في قلب الرواية، فهي عنده الدنيا الحقيقية والدنيا التي تحيط بها هي الخيال)
! هذه كلمات تصدق على فن دستويفسكي كل الصدق وتنطبق عليه كل الانطباق، اللهم إلا في موضع واحد تختلف بشأنه مع الأستاذ العقاد، وهو قوله بأن دستويفسكي لم يكن كاتب جرائم.
الحق أن أحداً من القصاصين لم يتناول الجريمة في قصصه بالتحليل العميق كما تناولها هذا الكاتب الفنان: هناك في روايته (الساذج) عامة، وفي روايته (الشياطين) خاصة، وفي روايته (الجريمة العقاب) على الأخص.
.
ولقد كان تحليله للجريمة في هذه الروايات الثلاث منصباً على الناحية النفسية والخلقية الاجتماعية! وكل ما ذكره الأستاذ العقاد بعد ذلك عن قدرة دستويفسكي على الغوص في السريرة الإنسانية كما وهبة كبرى من مواهبه حقيقة ناصعة يندرج تحتها فن الكاتب الفرنسي فهما في هذه الموهبة متساويان.

ولكن بلزاك يتفوق على صاحبه حين له تلك العناصر المشوقة التي لم يكن دستويفسكي يكترث لها التحقيق.
وتبقى ناحية أخرى في فن الكاتبين من شأنها أن تثير بحثاً منفصلاً في أدب القصة.
ومحورها أن دستويفسكي كان فهما للحياة من بلزاك وأن بلزاك كان أعمق تذوقاً للحياة من دستويفسكي.

وسنتحدث في عدد مقبل من الرسالة عن الفوارق الفنية بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) تحت هذا العنوان: (القصة بين فهم الحياة وتذوق الحياة) حول رأي قديم في أحد الكتاب قرأت لكم في تعقيبات العدد (889) من الرسالة كلمة تحت عنوان (الإنتاج الأدبي بين الأصل والترجمة) تقولون فيها ما نصه: (أما عن وجود التفاوت بين الأصل والترجمة في الروح فهذا أمر لا جدال فيه).
.
وتقولون في نهاية الكلمة: (بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فأن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي لهذه الروح في الأصيلة التي يتذوقها المتذوقون)! قرأت ذلك فقمت مسرعاً يدفعني شعور خفي إلى البحث عن أعداد الرسالة السابقة وسرعان ما وجدت ما كنت أبتغيه.
العدد (817) كلمة في تعقيباتكم بعنوان (كاتب لا يعرف قدر نفسه) رددتم بها على الأستاذ سلامة موسى الذي كتب العدد (188) من المسامرات كلمة جاء فيها: (وقد ترجم من كتب جتيه إلى العربية كتابان، الأول (آلام فرتر) الذي (ألفه) وترجمه الأستاذ أحمد حسن الزيات، والثاني (فاوست) الذي ترجمه الدكتور محمد عوض محمد.

وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصتي الشاعر الألماني، وعلى من يريد الوصول إليه أن يرجع إليهما في الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية)
وقد هاجمتموه هجوماً عنيفاً مراً.
.
وكلمتكم الأخيرة تدل المرء على اتفاقكما في الرأي.

فهل يا ترى غير الأستاذ الناقد رأيه؟.
وإذا كان، فهل تنظر إنصاف الأستاذ سلامة نن قلم كقلم المعداوي؟.
.
الأمل كبير.
.
وتقبل سلاماً من المعجب. رجاء عبد المؤمن النقاس طالب توجيهي لو دقق الأديب الفاضل فيما رمينا إليه من معنى في هاتين الفقرتين اللتين نقلهما من كلمة سابقة، ولو دقق مرة أخرى فيم رمى إليه الأستاذ سلامة موسى لأدرك أننا غير متفقين معه في الرأي كما يقول.
.
فكلمة (ألفه) التي ينسبها سلامة موسى إلى ترجمة الأستاذ الزيات لقصة (ألام فرتر)، هذه الكلمة ترمي إلى تجريد الترجمة الزياتية من الصدق والأمانة وهما لازمتان من لوازمها الحقيقة.
.
وكلمته الأخرى التي يقول فيها: (إنها لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصة الشاعر الألماني) ترمي هي أيضا إلى نفي كل أصالة فنية عن حقيقة تلك الترجمة وهي صفة أولى من صفاتها الجوهرية! هذا السخف الذي لا يستند إلى شرعة واحدة من العدل والإنصاف، هو الذي دفعنا إلى كتابة تلك الكلمة في الرد على باطل الأستاذ سلامة موسى في مجلة المسامرات.

ومع ذلك فأن قولنا: (ومهما بلغ المترجم من الإجادة والصدق والأمانة فإن روح النص في غير لغته لا يمكن أن تسمو إلى المستوى الحقيقي لهذه الروح في لغتها التي يتذوقها المتذوقون)، هذا القول لا يؤدي مطلقاً إلى ما يؤدي إليه قول الأستاذ سلامة موسى: (وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي قصة الشاعر الألماني).
ذلك لأن هذا التعبير (لا يمكن أن تسمو) معناه في لغة الألفاظ الدقيقة أن ترجمة المترجم الصادق الأمين وإن احتفظت بروح النص في غير لغته فهي لا يمكن أن تحتفظ بجوهر تلك الروح في صورته الكاملة، ومثل في ذلك مثل المصور البارع الذي ينقل إليك لوحة (الجيو كندا) لدافنشي.
.
ليس من شك في أنه يستطيع أن ينقل إليك اللوحة نقلاً أميناً بما تزخر به من الملامح الألوان والظلال، ولكن الصورة التقليدية لا يمكن أن توحي إلى الشعور المتذوق (بكل) ما في اللوحة الطبيعية نبض وحياة! وإذن فترجمة الزيات العربية تستوي وأي ترجمة أخرى سواء أكانت إنجليزية أم فرنسية، ولا مبرر هناك يصر الأستاذ سلامة موسى على الرجوع إلى هاتين الترجمتين! هذا هو المعنى الدقيق الذي درنا حوله وقصدنا إليه، وهو يفترق كل الافتراق عن المعنى الآخر الذي دار حوله الأستاذ سلامة موسى، حينا خطر أن يجرد ترجمة الأستاذ الزيات وصحبه (كل) احتفاظ بروح النص في لغته الألمانية! ترى هل ينتظر الأديب الفاضل بعد هذه الكلمة سلامة موسى شيئاً من الأنصاف؟ إن رأينا اليوم في هذا الكاتب هو رأينا بالأمس، وإنه لرأي قديم دفعتنا المناسبة وحدها إعلانه، وكم لا في بعض الناس من أراء لا ينقصها لتظهر غير عدد من المناسبات! رجاء إلى القراء: هناك قراء لا يزالون يبعثون إلينا ببعض الأسئلة التي تتعلق بأمور شخصية؛ فهذا طالب حصل على التوجيهية يسألنا عن أي الكليات أكثر ضمانا للمستقبل وتوجيها إلى الحياة، وهذا آخر يسألنا النصح والمشورة؛ هل يتزوج الآن أم يرجئ هذا الأمر ليتفرغ لدراسته الجامعية، وهذا طالب ثالث يكتب إلينا راغباً في (إعطائه) بعض الدروس في الأدب العربي، قارئ رابع أضناه الحب وعذبه الأرق فه محتاج إلى (فتوة غرامية) تهيئ له أن يظفر بمن يحب، وهذا قارئ خامس يرغب في (وساطتنا) لدى وزير المعارف لينقل أحد أقربائه من المدرسين إلى القاهرة لأن الوزير الأديب في رأيه لن يرد طلباً للكاتب الأديب.
.
إلى آخر هذه النماذج العجيبة من الرسائل الطريفة! إن ردنا على هذا النوع من القراء هو أننا نعتذر إليهم من الإجابة على أمثال هذه الأمور، لأنها تخرج عن دائرة اختصاصنا في هذا المكان من الرسالة، وإن رجاءنا إليهم هو أن يقصرون أسئلتهم على الشئون الأديبة والفنية! أنور المعداوي

شارك الخبر

المرئيات-١