أرشيف المقالات

تطور اللغة العربية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ محمود محمد بكر هلال جاءني مبهور الأنفاس، مسجور الحماس، كأنه خرج لتوه من معركة حامية الوطيس، ثم قال لي: لقد حذفتها بالقلم الأحمر، وطمست حروفها فلن تظهر! فقلت له: ماذا حذفت، ومن هي التي طمست على قلبها؟؟ قال: كلمة (زهور)! فلقد كتبها التلميذ في موضوع الإنشاء، ولكنني فتشت عنها كثيراً، ونقبت عنها طويلا، فلم أعثر لها على أثر!! فقلت له: هون عليك ياصديقي؛ فالأمر أهون كثيراً مما تظن! ولست أغير على اللغة العربية من فقيد اللغة العربية؛ الأستاذ المرحوم مصطفى صادق الرافعي! ولست أكثر حفاظا عليها من أستاذنا الكتاب البليغ، أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة، وعضو المجمع اللغوي الملكي؟ قال: ماله الرافعي؟ قلت: لقد قال رحمه الله: عرض لي يوما أحد اللغويين فأنتقد في المقطم قصيدة من القصائد التي رفعتها إلى جلالة الملك فؤاد، وتمحل في نقده، ودلل ببعض ما نقله من كتب اللغة، فكان فيما تكلم فيه (لفظا الأزاهر والورود) فقال: إنهما ليسا من اللغة، ولم يجريا في كتبها.
وكان من ردي عليه أن قلت له: إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع، وجمعوا الناقة سبعة؛ لأنها أكرم عليهم منه.
وإن لكل حياة صورها الدائرة في ألفاظها؛ فالزهر والورد عند المولدين والمحدثين، أكرم من الجمل والناقة عند العرب، أو هذان كهذين.
ثم هما من خاص الألفاظ المولدة؛ فلنا نجمعها على كل صور الجمع التي يسوغها القياس؛ لأن هاهنا العلة الموجبة التي لم تكن مع العرب فيها فمن الصحيح أن نقول: زهور وأزهار وأزاهر وأزاهير إلخ.

فلما لقيت الدكتور يعقوب صروف، بعد نشر هذا الرد هنأني به، ثم قال فيما قال: يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة، وليس غيرها ما أستجمل وما استنوق.
!، أما هذا الدهر الطويل العريض، فليس عندهم شيئاً! وهم يستطيعون أن ينكروا على المولدين ألف كلمة ولكن هل في استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألف سنة؟ فذكرت له الأصل الذي قرره أبو على الفارسي، في العربي الصحيح نفسه: من أنه ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخرج به سماع؛ فإذا أخذ إنسان على طريقة العرب، وأم مذهبهم؛ فلا يسأل: ما دليله، وما سماعه، وما روايته؟ ولا يجب عليه من ذلك شئ. حتى قال أبو على: لو شاء شاعر أو متسع أن يبنى بإلحاق اللام (زيادة حرف من جنس لام الكلمة وإلحاقه بها) اسما وفعلا وصفة؛ لجازله ولكان ذلك من كلام العرب؛ وذلك نحو قولك: خرجج أكثر من دخلل، وضربب زيد عمراً، ومررت برجل ضربب وكرمم ونحو ذلك! قال تلميذه ابن جني: فقلت له: أترتجل اللغة ارتجالا؟ قال: ليس بارتجال، لكنه مقيس على كلامهم، فهو إذن من كلامهم! ومن أثر هذه الطريقة التي لاتتحجر، ولاتمنع القياس في اللغة، وتلحق ما وضعه المتأخرون بما سمع من العرب، ما جاء في ص 235 من شرحأدب الكاتب لابن قتيبة وهو باب لم يستوفه غيره، ولا تجده إلا في كتابه! وهذه عبارته: قولهم: يدي من ذلك فعلة: المسموع منهم في ذلك ألفاظ قليلة، وقد قاس قوم من أهل اللغة على ذلك فقالوا: يدي من الإهالة سنخة، ومن البيض زهمة، ومن التراب تربة، ومن التين والعنب والفواكه كتنة وكمدة ولزجة، ومن العشب كتنة أيضا، ومن الجبن نسمة، ومن الجص شهرة، ومن الحديد والشبه والصفر والرصاص سهكة وصدئة أيضا، ومن الحمأة ردغة ورزغة، ومن الخضاب ردعة، ومن الحنطة والعجين والخبز نسغة، ومن الخل والنبيذ خمطة، ومن الدبس والعسل دبقة ولزقة أيضا، ومن الدم شحطة وشرقة، ومن الدهن زنخة، ومن الرياحين ذكية، ومن الزهر زهرة، ومن الزيت قنمة، ومن السمك سهكة وضمرة، ومن السمن دسمة ونسمة ونمسة، ومن الشهد والطين لثقة، ومن العطر عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الغسلة والقدر وحرة، ومن الفرصاد قنثة، ومن اللبن وضرة، ومن اللحم والمرق غمرة، ومن الماء بللة، وسبرة، ومن المسك ذفرة وعبقة، ومن النتن قنمة، ومن النفط جمدة. فأنت ترى أن المسموع من هذه الألفاظ، لا يتجاوز سبعة، والباقي كله أجراه علماء اللغة، وأهل الأدب على القياس، فأبدع القياس أربعا وثلاثين كلمة! فدل ذلك على اتساع اللغة تبعا لتعدد الأغراض، وتطورها تمشيا مع تطور الحياة!! قال صاحبي: وما رأى صاحب الرسالة الأستاذ الزيات؟ قلت: لقد تقدم إلى المجمع اللغوي باقتراح يشتمل على؛ فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة من الارتجال والاشتقاق والتجوز؛ وإطلاق القياس في الفصحي ليشمل ما قاسه العرب ومالم يقسوه، فإن توقف القياس على السماع يبطل معناه، وإطلاق السماع من قيود الزمان والمكان؛ ليشمل ما يسمع من جميع طوائف المجتمع! ورأى صاحب الرسالة أن في إقرار هذا الاقتراح دفعا لمعرة العقم عن اللغة العربية الكريمة التي وصفت في القرن الخامس ناقة طرفة، عضوا عضوا، ونعتت أوضاعها وضعا وضعا، في أربعة وثلاثين بيتا من معلقته! ثم نراها في القرن العشرين، تقف أمام سيارة (فورد) بكماء بلهاء، تشير ولاتسمى، وتجمجم ولا تبين!! ويقول صاحب الرسالة أيضا: إن اللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفد، والناس لا يستطيعون أن يعيشوا خرسا وهم يرون الأغراض تتجدد، والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان، لم يتنبئوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء!! ويرى الأستاذ الزيات - ورأيه سديد - أن للمجمع وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية، يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة، وقوالبها الموروثة، أن يزيد عليها وينقص فيها، ولكنه يعطل مختارا هذه القدرة التي لم يؤتها غيره، باستشارة القدماء في كل إصلاح لغوي يقترحه، وفي كل قرار نحوي يقرره! واستشارة الماضين في شئون الباقين، مع تبدل الأحوال، وتغير الأوضاع، وتقدم العلوم، وتفاوت العقول، واختلاف المقاييس، تكون في أكثر الأحيان معطلة أو مضللة! لقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسيلم؛ أن منافقا نال من عروبة سلمان الفارسي؛ فدخل المسجد مغضبا وقال: أيها الناس: إن الرب واحد والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي! وما إن وصلت إلى هذا القدر من الآراء الحقة ألجريئة، والأفكار المشرقة الوضيئة، من اقتراح الأستاذ الكبير صاحب الرسالة، حتى فغر الزميل فاه، وقال: ولكن حضرات المفتشين يضيقون علينا الخناق، ويحاسبوننا على هذه الكلمات، ويفرضون علينا بعض الأساليب والعبارات! حتى لقد حدا الخوف ببعض أساتذة اللغة العربية في المدارس الثانوية، وإلى أن يغيروا ويبدلوا في قصيدة الأستاذ محمد الأسمر (فرحة الشرق) بعد أن سمعها الناس مسجلة في الشرق والغرب آلاف المرات، فجاء مطلعها في مذكرة النصوص للسنة الأولى الثانوية هكذا: زهر الربيع يرى أم سادة نجب وروضة أينعت أم محفل عجب؟ واستبدلوا كلمة حفلة بكلمة محفل؛ لأن بعض المفتشين لا يقر كلمة (حفلة) لعدم ورودها في معاجم اللغة العربية! فقلت له: وهل يتسع وقت حضرات المفتشين لغير المحاسبة على النقط والهمزات، وترك الإنسان وزيادة الألفات؟! محمود محمد بكر هلال المدرس بمدرسة سوهاج الأميرية القديمة للبنين

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣