أرشيف المقالات

بين المهد واللحد

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 الكلمة التي ألقيت في تأبين الأستاذ علي محمود طه بالمنصورة سادتي أقرباء علي طه، وأصدقاء علي طه: نحن هنا في البلد الذي خرج فيه إلى نور الوجود.
ونحن هنا في البلد الذي رجع فيه إلى ظلام العدم! نحن هنا في البلد الذي قدم إليه المهد مزبناً بأوراد الربيع، مشرقاً ببسمات الحب، محفوفاً بنظرات الأمل؛ ونحن هنا في البلد الذي أعد له اللحد مكللاً بأزهار الخريف، مللاً بعبرات الأسى، مودعا بحسرات الذكرى! نحن هنا في البلد الذي نشأ علياً على حب الجمال، وهيأ علياً لرسالة الشعر ووجه علياً إلى طريق المجد.
وضرب فيه على السمع الواعي، وحكم فيه على اللسان البليغ! من هذا الشاطئ شاطئ المنصورة ركب الملاح زورقه الهائم، ثم مخر به العباب في خضم الحياة.
تارة يختفي، وتارة يظهر.
فإذا اختفى غاب مع (الأشباح والأرواح) في جزر الأرخبيل أو على جبل الأولمب؛ وإذا ظهر شوهد على سواحل كليو باترا يردد اللوعة والأنين، أو على جندول البندقية يرجع الشوق والحنين، أو في بحيرة كومو بمجد الحب والجمال في صور الناس ومجالي الطبيعة. وكذلك كان في كل بحر يجري فيه، وفي كل ساحل يدنو منه: يرسل الأنغام العذبة من قيثارة المرح، ويبدع الصور الجميلة بريشته الفنانة، وينقح الصدور المكروبة بنسماته الشعرية السحرية التي تسري هموم النفس وتهوٌن متاعب الحياة. ثم غام الأفق في وجه الملاح، وثارت الأعاصير على جوانب الزورق، فكلت الذراع وسكن المجداف وتمزق الشراع.
وفي يوم من الأيام السود ألقى في ساحل المنصورة حطام الزورق وجثة الملاح وفي حفرة ضيقة من القبرة المنهومة ثوى القلب الكبير، وذوى الأمل النضر، وهمد الجناح المحلق. في هذا البلد الوفي الحبيب عرفت علي طه وأحببته، منذ تسعة وعشرين عاماً وأحببته منذ عرفته.
كان لقاؤنا الأول على هذه الضفاف الخضر في أصيل يوم من أيام أغسطس من السنة الحادية والعشرين من هذا القرن.
وكان علي لا يزال طالباً في مدرسة الفنون والصناعات، يكابد ألم التناقض بين ما وجه إليه بالفطر، وما جمل عليه بالاكتساب؛ بين النوازع الأدبية التي يجدها في نفسه، والمسائل العلمية التي يتلقاها في درسه؛ بين الناس الذين يتخيلهم في الذهن، والناس الذين يتمثلهم في الخارج؛ بين مطالب الجسد التي تربطه بالأرض، وتوازي الروح التي تجذبه إلى السماء. كان يقضي طرفي نهاره في قهوة ماتيو بشارع البحر ينظر في كتاب مرة، ويكتب في ورقة مرة؛ ثم يذهل عن الكتاب والورقة ويرسل بصره إلى الأفق البعيد، ثم يرده إلى نفسه وينطوي عليها انطواء الفيلسوف المفكر أو الشاعر الحالم.
فإذا جلس إليه أحد ثقاته أخذ ينفس عن صدره المكظوم بالحديث عمن يحب أو بالشعر فيمن يحب.
وحبه يومئذ كان حب الفنان الخيالي يجعله بالتنزيه والحرمان منبعاً للألم ومبعثاً للشكوى ليرهف به شعوره ويغذي عليه شعره. قلت له ذات يوم: ما بالك يا علي وأنت في زهرة العمر ونضرة الصبى حزين الشعر ضائقاً بالناس والحياة؟ فهل تشكو من مرض؟ فقال علي، وما زلت أذكر ما قال: إنما أشكو مرض الاغتراب.
يخيل إلي أني من قوم آخرين ومن بلد آخر، فإنا لا أزال أشتاق إلى القريب المجهول، وأحن إلى الوطن النازح.
ويشتد بي النزوح أحياناً فأتمنى لو أطير، وأن ضلوعي قفص من حوله يأبى أن ينفرج. ثم انقضى ذلك العهد وانقضت معه تلك الحال الغريبة.
ودخل علي في زحمة الحياة وغمار المجتمع فأزدهر الوجه الشاحب، وانبسط المحيا الكثيب، وابتسم الشعر الحزين؛ وتشعبت في نفسه أصول الجمال والحب، فامتد في نظره الجمال إلى العمل والخلق والسلوك، واتسع في قلبه الحب للخير والأخاء والمروءة.
ولذلك عاش ما عاش في سلام نفسه، وعلى وثام منع الناس. وتأكدت بيني وبين علي أسباب المودة فعرفته في جميع حالاته، وخبرته في أكثر ملابساته، فلم أره يوماً قبض يده عن معروف، ولا بسط لسانه بأذى، ولا طوى صدره على ضغينة. كانت لذته في أن يفعل الخير لأنه إنسان بفطرته، وكانت متعته في أن يقول الشعر لأنه فنان بطبعه.
وفيما عدا فعل الخير وقول الشعر كانت حياته أشبه بحياة الطائر الغرد في سماء الربيع الطلق: انتقال من غزل إلى شدو، وارتحال من جو إلى جو. كان علي طه أكرم الله مثواه طاغي الشخصية ولكنه طغيان الروح؛ مستبداً بالحديث ولكنه استبداد النبوغ يجلس الجالس إليه ويطيل الجلوس ويكرره، ولكنه في كل جلسة يجد نفسه في حضرة رجل ممتاز.
وامتيازه كان من طلاوة حديثة وشجاعة رأيه وصراحة قوله وعفة لسانه وحرية ضميره وخلوص قلبه.
كان في صرامة الرجل ووداعة الطفل، فلا يسع من يلقاه إلا أن يجله، ولا يملك من يعرفه إلا أن يحبه. وكان شعره صورة لشخصه ومرآة لنفسه.
نقرأ فكأنما نقرأ في قلب مفتوح، وننظر فيه فكأنما ننظر في أفق منير.
أجمل ما فيه الصدق، وأقوى ما فيه الجمال، وأعظم ما فيه الحب.
والصدق والجمال والحب هي عناصر الرسالة الفنية التي أداها علي طه. كان شعره صافي الأسلوب لأنه صافي القلب، متسق الألفاظ لأنه الخلق، مشرق المعنى لأنه مشرق النفس.
وإن من المصائب التي يرفض لها الصبر ويضيق بها العزاء أن نستعمل (كان) في الحديث عن علي طه أنه باق ما بقيت العربية، مذكور ما ذكرت العروبة، خالد ما خلد القرآن. ولست اليوم بسبيل الكشف عن عبقريته في فن الشعر في فن الشعر ولا عن مكانته في تاريخ الأدب، إنما هي عبرات مما بقي في المآقي جئت أسكبها على ثراه، وزهرات من الروض الذي كان يحبه جئت أنثرها على قبره. رحم الله الفقيد العزيز أوسع الرحمة، وعزى عنه الأمة العربية أجمل العزاء، وعوض الأدب الرفيع من فقده خير العوض. حمد حسن الزيات

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢