أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 منزل للبيع للكتب الفرنسي ألفونس دوديه بقلم الأستاذ أنور لوقا وراء تلك اللافتة الصغيرة المبتذلة المعلقة على باب بيت من البيوت، قرأ الفونس دوديه - وهو الذي لقب نفسه (بالشيء الصغير) واستلهم أشياء أدبه - هذه المأساة الإنسانية المؤثرة. فوق الباب، باب خشبي واهي المفاصل، يدع رمل الحديقة الصغيرة يختلط بتربة الطريق على بسطة من الارض، كانت لافتة معلقة منذ أمد بعيد، ساكنة في شمس الصيف، معذبة تمكو في ريح الخريف، عليها (منزل للبيع)، ولعلها كانت تقول أيضاً (منزل مهجور)، فقد كان الصمت يكتنف الدار. ولكن امرأ كان يقيم هناك.
فإن دخانا خفيضا مزرقا يصعد من آجر المدخنة الذي يعلو الجدار قليلا، كان ينم عن حياة خفية، متكتمة، حزينة كهذا الدخان الذي ينبعث من نار الفقراء.
ثم من خلال ألواح الباب المزعزعة ما كنت تحس الإهمال والخواء، وهذا الجو الذي يسبق ويعلن بيعا أو رحيلا، بل ترى ممرات الحديقة مستقيمة التخطيط، وعرائش مستديرة مشذبة، وماقي بجوار الحوض، وأدوات بستاني مسندة إلى البيت الصغير.
لم يكن ذلك الربع سوى بيت من بيوت الفلاحين، يتوازن على هذه الأرض المنحدرة بسلم صغير قد نحي الطابق الأول جهة الظل والطابق الأرضي جهة الجنوب.
ومن تلك الجهة كان يخيل إليك أنه معمل الإنبات.
فقد رصت درجات السلم نواقيس زجاجيه، وأصص فارغة مقلوبة، وأخرى منضودة على الرمل الأبيض الساخن قد نما فيها (الجيرانيوم) و (العرفين) بيد أن الحديقة كلها، فيما عدا شجرتين أو ثلاثا من شجر السرج الفارع، كانت تحت وهج الشمس.
وكانت تمتد في النور الساطع مروحة من أشجار الفاكهة، قائمة على أسلاك حديدية، أو معرشة وقد انتزعت بعض أوراقها إعداد للثمرة ليس غير، كما اصطفت أيضاً أغراس من الشليك وأغراس من البازلاء تتسلق قضبانا طويلة مثبتة في الأرض.
وفي وسط هذا كله، وسط هذا النظام وهذا الهدوء، كان رجل عجوز، ذو قبعة من الخوص، يجوس المسالك طول النهار، يروي في الساعات الرطيبة، ويقتطع ويشذب الأغصان ويسوي الأفاريز. هذا الشيخ لم يكن يعرف أحدا في البلد.
لم يكن يطرقه زائر قط.
اللهم إلا عربة الخباز التي كانت تقف في كل باب في شارع القرية الوحيد.
وأحيانا كان يرى اللافتة عابر من الناس يلتمس قطعة من أراضي السفح هذه الغنية الخصبة التي تمنح بساتين جميلة فيتوقف ليقرع الباب، ويقرع في أول الأمر فإذا البيت أصم.
ثم يقرع ثانيا، فيدنو من أقصى الحديقة وقع (قبقاب) في بطأ وتؤدة، ويوارب الشيخ بابه وهو متهجم الوجه: - ماذا تريد؟ - هل المنزل للبيع؟ فيجيب الرجل الطيب القلب بجهد: - نعم.

ولكني أقول لك مقدما إنهم يطلبون فيه ثمنا غاليا جدا.
وكانت يده المتأهبة لإغلاق الباب تسده عليك - وكانت عيناه تطردانك، فما اشد ما كانتا تظهران من سخط، وكان يظل هناك قائما كالفارس على حراسة أحواضه وخضره وفنائه الصغير المفروش بالرمل.
وإذ ذاك كان الطارقون يتابعون سبيلهم وهم يسائلون أنفسهم من تراه يكون هذا المخبول الذي عرضوا له؟ وأي مجنون هذا الذي يحمله على الإعلان عن بيع منزله بهذه الرغبة الملحة في الاحتفاظ به. وخيرا وضح لي هذا السر.
ذات يوم وأنا مار أمام البيت الصغير، سمعت أصواتا ثائرة، وصخب مناقشة حامية. يجب البيع يا أبانا، يجب البيع.
لقد وعدت بذلك وسمعت صوت الأب متهدجا يقول: إني يا أولادي لا اطلب افضل من البيع.

أما ترون؟ لقد وضعت اللافتة.
وهكذا علمت أن هؤلاء أبناؤه وكناته، تجار من صغار أصحاب الحوانيت في باريس، يحملونه على أن يتخلص من هذا الركن الحبيب.
لأي سبب كان؟ هذا ما كنت أجهله.
أما المؤكد فهو أنهم بدءوا يلمسون أن الأمر قد طال وأن الشيخ يمطلهم.
ومنذ ذلك الوقت اقبلوا بانتظام؛ يوم الأحد من كل أسبوع، يستنهضون الرجل المسكين ويحثونه على أن ينجز وعده ومن الطريق في هذا الصمت العريض الذي يسود القرية يوم الأحد، حين تستريح الأرض ذاتها من كونها قد حرثت وبذرت طوال الأسبوع، كنت أسمع ذلك جليا.
كان التجار الصغار يتحدثون، ويتجادلون فيما بينهم وهم يلعبون لعبة (البرميل)، وكانت كلمة (النقود) ترن رنينا جافا كهذه الأقراص المعدنية التي يقذفونها.
وفي المساء كان الجميع يرحلون، وكان الرجل الطيب القلب، بعد أن يرافقهم في الطريق بضع خطوات، يعود مسرعا فيغلق من جديد بابه الغليظ سعيدا مبتهجا، وقد ظفر بمهلة لمدة أسبوع.
ويستعيد البيت سكونه، ويظل ساكنا ثمانية ايام، فما تسمع في الحديقة الصغيرة التي تلفحها الشمس إلا صوت الرمل يسحقه وطء قدم ثقيلة أو تجرفه المجرفة. على أنهم من أسبوع لأسبوع، راحوا يضيقون الخناق على الشيخ.
ولم يدخر صغار التجار وسيلة من الوسائل.
أحضروا الأحفاد لإغرائه: (أترى يا جدنا حين يبيع البيت ستأتي لتسكن معنا، وكم سنكون سعيدين معا!.
)
ثم كانت أحاديث منفردة يلقيها كل امرئ لنفسه في ركن من أركان البيت على حدة، وسير خلال ممرات الحديقة لا يقف عند حد، ومسائل حسابية يجريها صوت مرتفع.
ومرة سمعت إحدى البنات تصيح: - هذا ألخص لا يساوي مائة دانق.

أنه خليق بأن يهدم. وكان الشيخ يصغي دون أن يقول شيئا.
كانوا هم يتكلمون عنه كأنه قد مات، وعن داره كأنها قد هدمت بالفعل.
فكان يتجنبهم ويمشي، احدب الظهر، والدموع ملئ عينيه، ملتمسا كعادته غصنا يشذ به أو ثمرة يعني بها أثناء مروره.
وإنك لتحس أن حياته قد تغلغلت جذورها في هذا الركن الصغير من الأرض تغلغلا لن يبعث فيه القدرة على اجتثاث نفسه منه.
والحق أنه كان مهما افتنوا في إغرائه، يرجئ دائما لحظة الرحيل.
في الصيف، حين تنضج هذه الثمار التي ويحي إليك مذاقها الحامض بعضا الشيء بأن السنة ما زالت في نضرتها وريعانها، ثمار الكرز، والبرقوق، والمشمش، كان يقول: لننتظر المحصول.

سأبيع بعده مباشرة. وبعد المحصول، بعد انقضاء موسم الكرز، يأتي موسم الخوخ ثم العنب، وبعد العنب تأتى ثمار (النيفل) السمراء الجميلة التي يكاد المرء يجنيها تحت الجليد.
وحينئذ يأتي الشتاء، فيسود الريف وتخلو الحديقة.
الآن لا مارة، ولا شراة، بل ولا صغار التجار يوم الاحد، وإنما ثلاثة اشهر عريضة من الراحة لإعداد البذار، وتقليم أشجار الفاكهة، بينما تتأرجح على الطريق اللافتة الباطلة وقد قلبها المطر والريح. وعلى مر الأيام، فرغ صبر الأبناء واقتنعوا بأن الشيخ كان يبذل كل ما في وسعه لإقصاء المشترين، فاتخذوا قرارا حاسما.
قدمت إحدى الكنات واستقرت بجانبه، وتلك امرأة صغيرة من نساء الدكاكين، حالية منذ الصباح، بارعة في إظهار الحفاوة وتكلف الرقة والتلطف في المجاملة براعة الذين اعتادوا التجارة.
وكأن الطريق قد أصبح ملكها.
فقد كانت تفتح الباب على مصراعيه، وتتحدث وتلغو، وتبتسم للمارة كأنما تقول لهم: ادخلوا.

انظروا.

إن المنزل للبيع! ولم تعد للشيخ المسكين مهلة بعد ذلك.
أحيانا كان يحاول أن ينسى أنها هناك، فينصرف إلى تقليب حياضه وبذرها من جديد، كهؤلاء الناس الذين يوشكون على الموت ويحبون القيام بمشروعات ليخدعوا مخاوفهم.
ولكن البائعة كانت تتبعه طيلة الوقت وتنغص عليه.
- دع! ما انتفاعك بهذا؟.

أمن أجل سواك تجشم نفسك كل هذا التعب؟ فما كان يجيبها وإنما كان ينكب على عمله في عناء غريب.
إن ترك حديقته لعبث الإهمال معناه فقدانها بعض الفقدان منذ ذلك الوقت، وبد انفصاله عنها.
ولهذا ما كنت تجد في الممرات عودا واحدا من العشب، ولا في شجيرات الورد غصنا طفيليا. وظل البيت معروضا للبيع، ولكن الشراة لم يتقدموا.
ذلك أن الحرب قد نشبت.
وعبثا ثابرت المرأة على فتح بابها وإرسال النظرات المعسولة إلى الطريق، فلم يكن يمر غير النازحين عن الأرض ولم يكن يدخل إلا الغبار.
واشتد غيظ السيدة من يوم إلى يوم، لا سيما وقد كانت أعمالها في باريس تستدعيها.
كنت اسمعها توسع حماها لوما وتأنيبا، وتقسو في الهجون عليه وتخبط الأبواب، وما الشيخ فكان يحني ظهره دون أن يقول شيئا، ويتعزى إذ يبصر بازلاء الصغيرة تنمو، واللافتة معلقة في مكانها دائما: (منزل للبيع). وفي هذا العالم، عندما وصلت إلى الريف، وجدت المنزل وعرفته! ولكن وا حسرتاه لم تكن اللافتة هناك! كانت إعلانات ممزقة بالية لم تبرح عالقة بأوجه الجدران.
لقد قضي الأمر، وباعوه!.

وفي مكان البوابة الرمادية الكبيرة أصبح باب أخضر، حديث الطلاء، تعلوه عتبة مستديرة، وتنفتح فيه نافذة ذات قضبان، تلوح من ورائها الحديقة.
ولم تعد الحديقة ذلك البستان الذي كنت أعهده هناك قديما، بل غدت خليطا (بورجوازيا) من السلال والخضرة، ومساقط الماء، وصور لهذا كله تنعكس على كرة معدنية تتأرجح أمام الدرج.
وفي هذه الكرة، بدت الممرات صفوف من الأزهار الزاهية، وأمتد شكلان في كثير من المبالغة والتهويل، رجل سمين أحمر، غارق في عرق غزير، غائص في كرسي من كراسي النزهة الخلوية؛ وسيدة ضخمة لاهثة الأنفاس، تصبح وهي تطوح مسقاة بيدها. - لقد دفعت ثمنا للبلسمين أربعة عشر! وكانوا قد شيدوا طابقا، وجددوا السياج، وفي هذا الركن الصغير المستطرف، الذي ما زالت تفوح منه رائحة الطلاء، كان (بيانو) يعزف ملء الريح مقطوعات صاخبة مبتذلة وألحانا جذلة مما تردده جلبات الرقص العامة.
وهذه الأنغام الراقصة التي كانت تنطلق إلى الطريق نابضة حارة، مختلطة بقتام بوليه الكثيب، وعجيج تلك الأزهار الضخمة، والسيدات الضخمة، هذا المرح الغامر الفياض، هذا المرح السوقي المبتذل، كن يقبض قلبي.
كنت أفكر في الشيخ المسكين الذي كن يتمشى هنا راضيا وادعا سعيدا، ثم أتمثله في باريس، وقبعة الخوص على رأسه، وحدبة البستاني للعجوز في ظهره، هائما في غور دكان ما، ضيقا بأمره، حبيا، مشحونا بالدموع، بينما تتبوأ زوجة ابنه الظافرة خزانة جديدة، ترف فيها قطع ذهبية هي ثمن البيت الصغير. أنور لوقا

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١