أرشيف المقالات

إيمان قلب

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ كامل محمود حبيب (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٌ منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم.
وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم نفسهم وظنواأن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا أن الله هو التواب الرحيم).
(قرآن كريم) اندفع الجيش اللجب يوفض إلى غايته - إلى بلاد الروم - يطوي فجاج البيداء في صبر، ويقتحم فيافي الصحراء في جلد؛ يغذ السير لا يهاب الموت ولا يخشى الردى.
ومن أمامه: الشقة بعيدة، والمسلك وعر، والعدو ذو قوة وذو عدد.
ومن بين يديه: القيظ تتوقد سمائمه فتدمغ الجلد، والسوافي تهب عاصفة فتسفع الوجه وتقذى العين، والضيق يطحن الصبر ويعبث بالقوة، ومن خلفه، في المدينة ظلال وارفة يهفو إليها القلب وتصبو إليها النفس.
ثم طال بالناس السفر وامتد الطريق، فاجتمعت عليهم فنون ثلاثة من العسرة: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، فاشتدت بالمسلمين الحال وغشيتهم المحنة: فكان النفر يأخذون التمرة الواحدة يلوكها الواحد منهم حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه ليشرب عليها جرعة من ماء حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى على التمرة إلا النواة، وكان القيظ اللافح يصيبهم فيحسون لذع الحِرَّة في حلوقهم فيخيل إليهم أن الرقاب توشك أن تنقطع من شدة العطش، فلا يجد الواحد منهم مفزعاً إلا أن ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده.
ولكن الإيمان كان يفعم القلوب فيدفعها إلى ميدان الجهاد في حماسة لا تعرف الخور، وفي جرأة لا ينسرب إليها الضعف، وفي بسالة لا تؤمن بالتردد.
واندفع الجيش يوفض إلى غايته. وانطوت الأيام والجيش في سبيله، يجالد الشدة بالأيمان، ويصارع الغير بالعقيدة، ويكافح الخطب بالصبر؛ وهو لا يحس أن أناساً بهم صَعر إلى الثمار والظلال قد أبطأت بهم النية عن الجيش فتخلفوا عن الجهاد في غير شك ولا ارتياب، وهم نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم ولا يغمزون في إيمانهم.

نفر صدق من بينهم كعب بن مالك بن أبى كعب أخو بني سلمة، وهو فتى أيّد جلد، فارع القوام وثيق الأركان، تتألق على جبينه سمات القوة والفتوة، ويتوثب من إهابه النشاط والشباب، لم يقعد به عن الجهاد نفاق ولا صرفته شهوة الدعة، ولكنه رأى أصحاب النبي (ص) يتهيئون للغزو فطفق يغدو لكي يتجهز معهم فيرجع - آخر النهار - ولم يقض شيئاً، وإنه على ذلك لقادر.
ولم يزل يتمادى به الأمل حتى شمَّر الناس بالجد.
وأفاق كعب من غفوة الأمل فإذا الناس قد أسرعوا وتفرَّط الغزو، وهو في مكانه لم يقدر له أن يهم فيرتجل فيدرك الركب.
لشد ما أحزنه أن يضرب في أرجاء المدينة فلا يرى له أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، مطعوناً عليه في الدين؛ أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء! وعاش الرجل زماناً غريباً في داره، يضل في غاشية من خواطره السود، ويضطرب في لجة من الندم، لا يجد الراحة ولا الأمان ولا يلمس الهدوء ولا الاستقرار.
وهو يعجب - أشد العجب - كيف وسوس له الشيطان فتردى في هاوية مالها من قرار، وإنه لذو قوة وإيمان لا تعوزه الراحلة ولا يفتقر إلى الزاد، وإنه لمن أصحاب بيعة العقبة الكبرى، سبق إلى الإسلام عن عقيدة ثابتة وجاهد الكفار عن إيمان عميق. وتناهى إلى الرجل خبر عودة النبي (ص) قافلاً من غزوة تبوك فتعاورته الأوهام وساورته الهموم واغتمر في لجة من الحيرة والارتباك، وخشي الرجل أن يلقى النبي (ص) وقد جللته الزلة ودنسته الخطيئة وأشفق على نفسه أن يبدوا أمام المسلمين وهو يتعثر في ذنبه فيعجزه أن يتلمس العذر أو أن يجيد الدفاع، فحضره بثه وطفق يقلب الرأي يريد أن يزور كلاماً يجد فيه الخلاص أو ينمق حديثاً يدرأ به غضب الرسول (ص).
غير أنه أيقن - بعد لأي - أنه لن ينجو إلا بحديث فيه الصدق والإخلاص والصراحة جميعاً. وصبح رسول الله (ص) قادماً فأسرع إليه المتخلفون يعتذرون بالكذب ويحلفون بالباطل، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم النبي (ص) علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله. وأقبل كعب بن مالك فسلم فتبسم النبي (ص) تبسم المغضب ثم قال (تعال) فجاء الرجل يمشي على مهل والحياء يوشك أن يبعثر نفسه والخجل يكاد يبدد فؤاده.

جاء يمشي حتى جلس بين يديه فقال له (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟) فقال كعب (يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني، والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك).
قال رسول الله (ص) (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك). ورأى رجال من بني سلمة ما كان فثاروا واتبعوا الرجل يؤنبونه على ما كان منه، وحاولوا أن يرغموه على أن يرجع إلى النبي (ص) فيعتذر إليه بما اعتذر به إليه المتخلفون غير أن إيمان الرجل دفعه عن أن يتردى في الهاوية مرة أخرى، فمضى.
ونهى النبي (ص) عن كلام كعب بن مالك - وعن كلام رجلين آخرين لقيا مثل ما لقي كعب، هما: مرارة بن ربيعة وهلال ابن أمية - فخاصم الناس الرجل وتغيروا له، فأحس كأن في نظراتهم سهاماً من المقت والكراهية تتناوشه كلما مر بهم وكأن الأرض وقد تنكرت له حين عافه الأهل واجتنبه الرفيق فما هي بالأرض التي عرف.
وكان كعب شاباً فتياً فما قعد ولا استكان، فراح يشهد الصلاة في مكابرة ويطوف بالأسواق في إصرار، ولكن واحداً من المسلمين لم يكلمه؛ ثم يأتي مجلس رسول الله (ص) فيسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فما يظفر منه برد السلام. وطالت عليه جفوة المسلمين فأحس مس الضيق في قلبه، فأنطلق إلى دار أبى قتادة، وهو ابن عمه وأحب الناس إليه، فتسور عليه جداره وسلم عليه فما رد السلام، فقال له يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟) فسكت.
فعاد فناشده، فسكت.
فعاد فناشده، فقال له (الله ورسوله أعلم!) ففاضت عينا الرجل وتولى يضرب في الأرض وقد أمضه الحزن وأرهقه الأسى، يتخبط في ظلمات من الضيق والألم، فما راعه إلا نبطي من الشام يدفع إليه كتاباً في سرقة من حرير من ملك غسان يقول فيه (أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك). لقد قرأ كعب كتاب الملك فما وسوست له نفسه بريبة، ولا اختلج قلبه بشك، ولا خطفه بريق الأمل ولا سيطرت عليه روعة السلطان.
هذا القلب أفعمه الإيمان الحق فسما بالرجل على النوازع الأرضية، وغمرته العقيدة الصادقة فسخر من بهرج الحياة وزيف الدنيا، وأشرق فيه نور السماء فترفع على رب التاج والصولجان.
لقد كان الرجل سماوياً يعيش بين دقات النور الإلهي ينعم بأفراح الجنة وهي تتألق في قلبه ويسعد باللذة الروحانية وهي تتدفق بين جوانحه؛ فأعرض عن حديث الملك الغساني لأنه حديث أرضى فيه التراب والطين معاً. يا للقلب الكبير! لقد تساقطت كلمات الكتاب على قلب الرجل شواظاً من نار فيه المهانة والاحتقار وفيه الرزء والبلاء، لأن رجلاً طوعت له نفسه أن يغمز إيمان كعب بن مالك وأن يعبث بعقيدته.
وأحس كعب في كلمات الملك الغساني معاني السخرية الجامحة والامتهان المرير فنشر الكتاب أمامه - مرة أخرى - فبدت له كلماته تتلوى كأنها حيات توشك أن تنفث فيه سمومها فتعصف به فأصابه الذعر والفزع، فأنطلق إلى التنور يسجره بالصحيفة خشية أن يصيبه الأذى، ثم هام على وجهه أياماً يرسل الدمع في حسرة ولوعة لا ترقأ عبرته ولا تجف. ومضى أربعون يوماً منذ أن جلس كعب أمام النبي (ص) يحدثه حديث الصدق والإخلاص والصراحة، ثم أرسل النبي (ص) رسوله خزيمة ابن ثابت إلى الرجل يأمره بأن يعتزل امرأته فما تلبث ولا تعوق ولا جادل.
ولكنه أحس العنت والبلاء، هذه - ولا ريب - قاصمة الظهر، إن الرسول (ص) لا يأمر الرجل بأن يعتزل زوجته إلا أن يكون كافراً وهي مسلمة، وشمل الرجل حزن عميق حين رأى النبي (ص) يوشك أن ينزع عنه حلة الإيمان ليجلله العار والضعة، فاستسلم إلى البكاء عسى أن يكفر عن ذنبه أو ينفس عن أشجانه. وقسا الرجل على نفسه - مرة أخرى - فابتنى خيمة على ظهر جبل سلع يخلو فيها إلى نفسه وإلى همومه، ويقضي هناك عمره يبتغي التوبة مما فرط منه، وقد ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه. وصلى كعب صلاة الفجر صباح خمسين ليلة في خيمته التي ابتنى فما فرغ من الصلاة حتى سمع صوت صارخ أوفىعلى سلع ينادي بأعلى صوته يا كعب بن مالك: بشر، فخر الرجل ساجداً حين تبين له أن قد جاء فرج من الله.

خر ساجداً والعبرات تتزاحم في محجريه فرحاً وسروراً.
وجاء البشير فكساه كعب ثوبيه ببشارته، وهو - إذ ذاك - لا يملك غيرهما، ثم استعار ثوبين فلبسهما، وانطلق يتأمم رسول الله (ص)، فتلقاه الناس فوجاً بعد فوج يهنئونه بالتوبة حتى دخل المسجد فسلم على رسول الله (ص) فرد عليه السلام وهو يبرق وجهه من السرور ويقول (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) فخر الرجل ساجداً شكراً لله، والعبرات تتزاحم في محجريه فرحاً وسروراً. كامل محبوب حبيب

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢