أرشيف المقالات

ثورة الطبيعة وثورة المجتمع

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للدكتور محمد يحيى الهاشمي كم من تشابه بين حوادث الطبيعة وحوادث المجتمع! وهل المجتمع إلا جزء من عالم الطبيعة وخلية من الخليات المتعددة التي تشكل هذا العالم الكبير الواضح بمظاهره والخفي بأسراره ومعمياته؟ وكما يسود التطور في نظام الطبيعة على اختلاف أشكالها وتباين أنواعها، يسود في نظام المجتمع والهيئات البشرية هذا القانون.
هكذا نجد انتقالا وتصعداً في سلم الرقي خطوة فخطوة ودرجة فدرجة.
أما الطريق ففي العالمين بعيد، وليس من هدف ولا غاية، وما المكان الذي نظنه بنهاية المطاف ما هو في الحقيقة إلا مرحلة انتقالية إلى مرحلة أخرى.
الطبيعة تمشي والمجتمع يسير، لا يعرفان الوقوف ولا السكون ولا الراحة ولا الاستقرار، وما الاستقرار الظاهري إلا دور يهيئ إلى دور آخر؛ فكل ما يقع عليه بصرنا أو تدركه بصيرتنا، يسطو عليه دوما ناموس الجريان والتغير الدائم. إن هذه التغيرات البطيئة جداً تدق حتى عن فهم الذكي، ولكن لدى النظرة العميقة وتتبع الحوادث الطويلة نجد كل ما على سطح الأرض تابعاً للتغير والتبدل، فلا شيء يبقى على حاله الأصلي فالجبال التي يضرب بها المثل في الثبوت لا تبقى مكانها، بل بتعاقب الأحقاب الطويلة تتزلزل وتصبح سهولاً وترتفع السهول فتصير وهاداً فنجاداً فهضاباً إلى أن تكون جبالا شاهقة تتخللها الوديان السحيقة، وكثيراً ما تجف بعض المناطق البحرية، فتصبح براً والبر يتحول إلى بحر، وهكذا فإن التبدلات الجزئية التي تظهر للناظر السطحي كشيء تافه لا قيمة له، تكون بتعاقب ملايين السنين انقلاباً خطيراً يدهش الأنظار، ويكاد لا يصدق الإنسان ما كانت عليه بعض المرتفعات الشاهقة في الماضي لولا الحيوانات البحرية التي بادت وتركت معالمها بين طيات الحجار. قياساً على ما بينا فإن الأمم تتغير وتتبدل، وبتأثير الأفكار الهادئة الرزينة تنتقل من طور إلى طور وذلك بتعاقب الأجيال والعصور، ولولا ما دونه لنا التاريخ في قرون مضت، أو بعض الآثار الباقية عن الأمم الخالية، لما عرفنا ما كانت علي الشعوب والحضارات الماضية. نعم إن بعض الأمم قد تدنت عما كانت عليه من قبل، كاليونان الذين كانوا يحملون مش العلم والفن، أو كالرومان الذين شيدوا الممالك وأوجدوا التشاريع، أو كالأمة العربية التي أخذت عن الأمم السالفة ما أخذت وأبدعت من ذاتها ما أبدعت وساهمت في تشييد صرح المدنية الحاضرة، ولكننا إذا اعتبرنا البشرية بأجمعها أسرة واحدة ورثت كل أمة عن الأخرى ما ورثت فعند ذلك نميل إلى الاعتقاد بالتقدم الدائم والتطور المستمر. هذا التطور البطيء هو من سنة الكون، ولكن بجانب ذلك نشاهد في عالم الطبيعة وعالم المجتمع من انقلاب فجائي واندفاع آني يدك الأرض دكا ويغير معالمها.
إن هذه الغضبة تغضبها الطبيعة في انفجار البركان وفي الزلزال الأرضي يذهب ضحيتها في كثير من الأحيان كثير من الكائنات الحية.
وفي عالم الاجتماع نشاهد ذلك أيضاً في الانقلابات الاجتماعية التي تكون عند الاختراعات العظيمة أو عند اليقظة الفكرية.
ولعل حاجتنا في هذا العصر الذي قطعت فيه أوروبا في سبيل الرقي والتقدم ما قطعت من الخطوات الواسعة، إلى انقلاب في جميع طرز حياتنا لأعظم من أي عصر، لأن بلاد الغرب قطعت تلك المراحل في قرون عديدة. أما نحن، فان حاجتنا أن نأخذ النتائج كما هي، ومن بعد ذلك نسمى في الإبداع وإظهار قابليتنا.
فإذا أردنا أن ننتظر الزمن وتقلباته البطيئة فلن نلحق بركاب الغرب.
عند ذلك نبقى متأخرين عن الأمم الراقية أبد الآبدين.
فالأرض تثور لتخرج ما في جوفها من لظى مستعر، والمجتمع يثور ليطلق ما في قلبه من نار متأججة مبدلا بها معالم حياته.
وكم من تشابه بين الطبيعة والمجتمع.
تدفع المياه إلى النيران المستعرة في جوف الأرض فتتشكل الأبخرة وتتراكم إلى أن تنطلق بقوة وعنف، وكذلك تتجمع الأفكار في الأدمغة إلى أن تنطلق بقوة فعالة فتدك المعالم القديمة لتبني فوق أنقاضها عالما جديدا على أساس عميق.
وما أعمق غور الإنسان، وما أشد حاجته إلى أن يبني بناء المجد الشامخ على أساس ثابت! وكلما سمت الشجرة في السماء تحتاج إلى جذر عميق في الأرض، منبعث عن توق للتجدد واشتياق كامن في النفوس إلى الحياة.
ولا يعد من أبنائها إلا من تاق لها وقدر قيمها.
أما من لم يتق إلا للفناء ففي قرارة نفسه على رأي بعض الأدباء المعاصرين فراغ رهيب وصدى فناء صارخ بصوت القبور، ونشاط أجوف يبتلع القيم، ناقم على الوجود.
ويقاس الناس في عمل كل إصلاح بالنسبة إلى إيجابيتهم وأهليتهم للبناء ومساهمتهم في الفوضى.
المدمرون كثيرون وأما البناءون فقلائل.
ودعاة الفوضى لا يحصى لهم عدد؛ أما الإيجابي فطريقه طريق الحياة ولو جاءت الحياة من طريق التدمير. في النهضة المنبعثة عن الحياة النابضة انطلاق وثاب ونفس ضاقت بما فيها فانفجرت في قوة مكتسحة بناءة تتجه نحو الخير والجمال، وتدوس في سبيل بلوغها بقايا الفساد القائمة.
شتان بين من يهدم ليهدم وبين من يهدم ليبني، ففي أحشاء الأول فناء وفي أحشاء الثاني حياة وارتقاء.
يثور الأول ليحطم، فلن يلبث أن يبتلع نفسه.
أما الساعي للبناء ففي أحشائه امتلاء دفاق، فيعطي عطاء سخيا، ولا تكون الحياة إلا حيث يكون العطاء. في انطلاق البراكين مواد هامة لبناء القشرة الأرضية، حتى أن دورة الماء لا تقف عند سطح الأرض، بل ثبت أن الحياة الاندفاعية الباطنية لتشترك في الدورة المائية، وفي الأحقاب التي كان فيها اندفاع البراكين على أشده كانت المياه أشد غزارة.
في اندفاع الينابيع الفوارة ارتواء للأرض وللكائنات الحية على سطحها، وفي الفيضانات الطاغية سماد لها لتزداد قوة الإنبات فيها، رغم ما تجره تلك السيول الطاغية على الحقول والبساتين والمنازل من الأضرار والتخريب.
حتى أن في الزلازل المخيفة فائدة في تكييف شكل الأرض. إن في النهضات الاجتماعية أيضاً والثورات الفكرية أضراراً جزئية لا يخلو منها انقلاب من الانقلابات، ولكن الحوادث تتراءى لنا عكرة إذا نظرنا إليها بمنظار أنانيتنا، أما إذا نظرنا إليها بمنظار المصلحة العامة والخير الشامل، عند ذلك يتلاشى من نفوسنا حب الذات والأثرة وندرك أموراً خافية عنا. قد يكون في النور الشديد الظل المديد، وجذر الانقلاب العميق هو في النفس، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. (بغداد) محمد يحيى الهاشمي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١