أرشيف المقالات

رسالة النقد

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 موسيقى الشعر تأليف الدكتور إبراهيم أنيس بقلم الأستاذ إبراهيم الوائلي تفضل الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس أستاذ فقه اللغة بكلية دار العلوم فأهدى إليَّ نسخة من كتابه (موسيقى الشعر) وقد أخرجه أوائل هذا الصيف دارساً الأوزان الشعرية عند العرب ومقدار تعرض الباحثين لها مؤيداً تارة ومخالفاً تارة أخرى.
وقد بنى بحثه على القواعد علم الأصوات وخصائص الحروف من حيث الجهر والهمس والشدة والرخاوة.
وقد استأثر بآراء جديدة في التنافر وعيوب الشعر والأوزان الإضافية الزائدة، وابتداع تفاعيل جديدة. والكتاب يتألف من أحد عشر فصلاً تنوعت إلى مواضيع مختلفة، وسنشير إلى الفصول ذات الأهمية، كما أننا سوف لا نكتم ما نجده من ملاحظات على هذه الفصول. يتحدث الدكتور في الفصل الأول عن الإحساس الأدبي وعلاقته بالفطرة والتجارب المكتسبة، ثم أثر النعم في حفظ الشعر، وعن أبرز صفات الشعر وهي الموسيقى، وعن التجديد في هذه الموسيقى التي هي عبارة عن الوزن والقافية وينعى على الشعراء المتحدثين عدم تجديدهم في الأوزان ويعزز ذلك إلى البطء في تطور الأوزان وأن هذا البطء طبيعي (لأن الناس عادة لا يقبلون الطفرة في تطوير موسيقاهم أو أوزان شعرهم) ثم يضيف إلى هذا إهمال الإنشاد في عصرنا الحديث، وهذا الإهمال (أفقدنا إلى حد كبير تذوق الموسيقى الشعرية).
هذا رأي سديد، ولكن لماذا لا نظيف إليه التزام شعر المناسبات: من مدح ورثاء وغيرها من الأوزان التي لا تزال آخذة بتلابيب كثيرة من الشعراء؟.
وآية ذلك أن الشعراء الذين تحرروا من كلاسيكية المناسبات يجددون في أوزانهم وقوافيهم كما عند المهاجرين واللبنانيين وبعض العراقيين، وقد أشار الدكتور إلى هذا التجديد عند المهاجرين وذكر لهم بعض شواهد، ولكنه لا يريد أن يبقي ذلك مقصوراً عليهم بل يجب أن يشيع في البيئات العربية. وفي الفصل الثاني يتحدث عن (الجرس في اللفظ الشعري).
وأهم ما فيه تعرضه للتناف وتعريف علماء البلاغة له وهو يتفق مع القائلين بأن التنافر إنما يكون إذا تقاربت الحروف في مخارجها، ولكنه يشترط لذلك ألا يفصل بين الحرفين حركة من الحركات لأن الحركة صوت كسائر الأصوات الأخر.
وعلى هذه القاعدة يجب أن تنظر في الشواهد التي ساقها البلاغيون للتنافر. ثم يتحدث عن طبيعة الأصوات وصلتها بموسيقى الشعر، فالأصوات المهموسة وأصوات الأطباق وبعض أصوات الحلق لا تستسيغها موسيقى الشعر كما تستسيغ الأصوات المجهورة، والشديدة أسهل من الرخوة فعدم استحسان كلمة (اطلخم) يرجع إلى الطاء والخاء لأن الأولى من أصوات الأطباق والثانية من أصوات الحلق وكلاهما مهموسان. وفي هذا الفصل يتحدث عن (جرس الألفاظ في البديع) ويناقش عبد القاهر الجرجاني مناقشة عنيفة لأن الجرجاني لا يهتم بجرس الألفاظ بل يعزو الجمال في التعبير - إذا كان هناك جمال - إلى المعنى وحده. يقول الدكتور في صفحة 44: (ولاشك أن عبد القاهر قد بالغ في هذا مبالغة غير محمودة، فجمال الجرس أمر معترف به بين أهل الأدب ونقاده ولا معنى لإنكاره). ثم يقول في الصفحة نفسها: (وتظهر مبالغة الجرجاني حين نتذكر أن نقاد الأدب، قديمهم وحديثهم، قد أجمعوا على أمر واحد وهو وجوب إخضاع اللفظ للمعنى).
وإلى هنا يبدو شيء من التناقض بين التعبيرين، ويظهر أن الدكتور أراد أن يقول: إنهم يجمعون على إخضاع المعنى للفظ حتى يتناسب هذا مع إنكاره لرأي الجرجاني، وإلاّ فأية مبالغة تظهر عند الجرجاني وهو الذي لا يقيم لجرس الألفاظ وزناً: (فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً ويستجيد نثراً يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ.

فأعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده)
.
ويقول معلقاً على الجناس والسجع: (وعلى الجملة فانك لا تجد تجنيساً مقبولاً ولا سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساقه إليك).
والجرجاني يستحسن سجع الجاحظ لأنه خال من التكلف والصنعة ويزيف كثيراً من التجنيس عند أبي تمام ومن نحا نحوه لأنه مصطنع متكلف، ويسوق لذلك أمثلة كثيرة في أسرار البلاغة الحسن والقبيح. نعم إننا لا نريد أن نزركش الثياب على جسم ناحل متداعي الأوصال كما أننا لا نريد من الزهرة أن تبتسم وهي بين الأشواك والصخور، ولعل الجرجاني لا يند عن هذا الرأي. أما الفصل الثالث فإنه يبحث في الأوزان وأنواعها وبحث القدماء لها وفيه نقد للقدماء على إغراقهم في خصائص الأوزان ومصطلحاتها وإتيانهم بأوزان لم يرد عليها من الشعر العربي شيء وإذا ورد فلا يكاد يتجاوز البيت أو البيتين، ولعل أكثرها موضوع.
كذلك ناقش القدماء في بعض الأوزان التي افترضوا لها أصولاً ثم سقطت منها بعض التفاعيل مع أنه لم يرد لهذا الأصل الذي افترضوه شاهد من الشعر العربي.
ونحن مع الدكتور في مناقشته لهذا التحمل الذي شغل العروضيون به أنفسهم فلا داعي للافتراض لأن الدوائر العروضية لم توضع اعتباطاً وإنما وضعت وفق ما جاء من الشعر العربي.
وفي أثناء بحثه تعرض لبحر المقتضب بشي من الحذر لأنه نادر الشواهد وذكر قطعة للحسين بن الضاحك شاهداً عليه وأولها: عالم بحبيه ...
مطرق من التيه ومنها: لا وحق ما أنا ...
فيه من عطف أرجيه وآخرها: تائه تزهده ...
في رغبتي فيه فقال: إننا مضطرون إلى منع كلمة (عطف) من الصرف حتى يستقيم الوزن.
والحقيقة أن الوزن لا يستقيم حتى مع هذا الاضطرار بل يكون الشطر الثاني من الهزج على كلتا القراءتين، ويخيل إليَّ أن البيت مصحف ولا يستقيم إلا إذا فيه هكذا: لا وحق ما أنا ...
فيه فلا أرتجيه وإن اختلف المعنى وقال: إن الشطر الأخير من القطعة لا يستقيم له وزن، والصحيح أن الوزن مستقيم بتشديد (فيّ) وهذا ما يقتضيه المعنى كذلك. وعالج في هذا الفضل نسبة شيوع الأوزان في الشعر مقدماً بعضها على بعض حسب هذا الشيوع وابتدأ بالطويل وذكر ما فيه من التفاعيل الشاذة التي تأباها الأذن الموسيقية ونحا باللوم على العروضيين الذين أقروها لمثل أو مثلين قد تكون من أخطاء الرواة أو من التصحيف.
ومن هذه التفاعيل ورود (مفاعيل) و (مفاعل) حشواً في البيت الأول قول امرئ القيس: ألا رب يوم لك منهن صالح ...
ولا سيما يوم بدارة جلجل ونحن نوافق الدكتور على هذا ونعتقد أن البيت مصحف إذ تكاد تكون أمثلته نادرة جداً وقد يكون هو وحده الذي روى بهذه الصورة ولذلك روى هكذا: ألا رب يوم لي من البيض صالح ...
ولا سيما يوم بدارة جلجل فراراً من هذه الشذوذ.
ومن الثاني قول امرئ القيس أيضاً: ويوم عقرت للعذارى مطيتي ...
فيا عجباً من رحلها المتحمل وقد افترض الدكتور قراءة: (عقرنا) فراراً من الزحاف.
كما افترض لبعض الأبيات التي ساقها شاهداً لهذا النوع قراءة تتفق مع الوزن الصحيح، وإلى هنا لا نستطيع أن نوافق الدكتور على تخطئة الرواة أو التصحيف؛ لأن هذا النوع شائع عند العرب في الجاهلية والإسلام وفي العصر العباسي وشواهده كثيرة في الشعر الجاهلي، ويكثر عند الأخطل في صدر الإسلام ومنه قوله: فجاء بها كأنما في إنائه ...
بها الكوكب المريخ تصفو وتزبد وعند البحتري في العصر العباسي ومنه قوله: جديد الشباب كبره لفعاله ...
وبعض الرجال كبره بسنيه ومثل هذا كثير لا يتسع المقام لذكره.
ولعل مرجع ذلك إلى طبيعة الغناء في العصر الجاهلي فإن معظم الشعراء كانوا يترنمون بأشعارهم حين ينشدون وهذا الإنشاد قد يطيل المقاطع والحركات فلا يحس الشاعر بنبوة أو شذوذ.
وإطالة الحركة شائعة في الشعر قال لبيد: فبنى لنا بيتاً رفيقاً سمكه ...
فسما إليه كهلها وغلامها فوزن البيت يقتضي إطالة الكسرة في هاء (إليه) وعلى هذا فلا يبعد أن امرأ القيس كان ينشد بيته هكذا: ويوم عقرت (و) للعذارى مطيتي ...
فيا عجباً من رحلها المحتمل أما شيوعه فيما بعد العصر الجاهلي فلأن الشعراء وجدوه شائعاً فنسجوا عليه.
على أننا مع الدكتور في أن هذا النوع من التفاعيل يجب الابتعاد عنه. وفي استعراضه لبحر البسيط ذكر شواهد لمجيء (متفعلن) بدل (مستفعلن) في حشو البيت.
ومن هذه الشواهد بيت النابغة وهو: سراته، مدخلا (لبانه)، لهق ...
وفي القوائم مثل الوشم بالقار وآخر لأعشى باهلة وهو: طاوى المصير على (الغراء) منجرد ...
بالقوم ليله، لا ماء ولا ثمر وقد وضعنا كلمتي (لبانه) و (العزاء) بين قوسين إذ فيهما يرد احتمال الشذوذ.
أما القراءة الصحيحة فأنها تجعل البيتين مستقيمي الوزن، فصحة الكلمة الأولى: (لبَّاته) بياء مشددة وتاء جمع لبَّة وهي موضع القلادة.
وصحة الكلمة الثانية (المزَّاء) بتشديد الزاء وهي السنة الشديدة وهذا ما يقتضيه المعنى أيضاً. تعرض الدكتور في ص 94 لبحر المديد وذكر أنه وزن قديم جداً هجره الشعراء وليس في القدماء الجاهليين من نظم عليه ما يستحق الذكر إلاّ بضعة أبيات نسبت للمهلهل بن ربيعة.
ولا أدري هل يوافق الدكتور على رواية أبي تمام فقد روى قصيدة ذات 26 بيتاً لتأبط شراً وأولها: إن بالشعب الذي دون سلع ...
لقتيلاً دمه ما يطل ولعل رأي الدكتور في بحر المديد أرجح لأن الأصمعي نفسه شك في أن تكون هذه القصيدة جاهلية لبعض المعاني والتعابير التي وردت فيها؟ وقد أشار إلى هذا التبريزي في شرحه للحماسة وبَّين الآراء التي قيلت فيها. وقد جمع الدكتور بين الهزج ومجزوء الوافر في بحث واحد وسرُّ هذا الجمع كون البحرين يلتقيان في تفاعيلهما ويفترقان في بعض التغييرات.
فالهزج يأتي فيه (مفاعيل) أحياناً بدل (مفاعيلن) ولا يجوز ذلك في مجزوء الوافر.
وقول الدكتور: (فإذا جاءت الأبيات مكونة من مكرر مفاعلتن وحدها فذلك هو مجزوء الوفر) قول صحيح لا غبار عليه.
أما قوله: (وإذا رويت من مكرر (مفاعيلن) وحدها فهنا يلتبس الأمر بين مجزوء الوافر والهزج) فهذا ما لا نستطيع أن نؤيده بل تقول: إنه الهزج بصورته الأصلية القديمة، وكان على الدكتور أن يبرئ الهزج من (مفاعلتن) ليستريح من كلُّ هذا العناء، والذي جعله يمزج بين البحرين هو هذا الخلط العجيب الذي درج عليه بعض المحدثين فلم يفرقا بين الهزج ومجزوء الوافر بل تأتي القطعة وهي خليط من هذا وذاك.
فالقطعة التي نقلها الدكتور من ديوان (الملاح التائه) شاهداً على الهزج لا يقرها الوزن الصحيح لأنه يقول فيها: هناك على ربي الوادي ...
لنا مهد من العشب فإن الشطر الأول من مجزوء الوافر حتما لمجيء (مفاعلتن) فيه وقال: (ويظهر أن الهزج تطور لمجزوء الوافر جاءت به عصور الغناء أيام العباسيين ولم يكن معروفاً أيام الجاهليين) وقد بنى رأيه هذا على ندرة الشواهد وعدم اعتماده على الرواة في معظم الأحيان.
ولو أنه اعتمد على رواية أبي تمام لما أنكر وجود الهزج فقد روى أبو تمام في الجزء الأول من الحماسة قطعة نسبها إلى الفند الزماني من شعراء بكر بن وائل ومنها: صحفنا عن بني ذهل ...
وقلنا القوم إخوان والدليل على أنها من الهزج قوله فيها: ولم يبقِ سوى الأعداء ...
دّناهم كما دانوا وقوله: بطعن كفم الزق ...
غذا والزق ملآن فقد وردت (مفاعيل) في البيتين الأخيرين وهي من خصائص الهزج: هناك شيء يجب أن أشير إليه بإعجاب وهو التفاعيل التي استنبطها الدكتور لتبنى منها الأوزان الشائعة بعد ترك الأوزان التي لم يرد عليها شاهد صحيح، وهذه التفاعيل ثلاث: فعولن، فاعلن، مستفعلن.
ثم يضاف إلى كلُّ تفعيلة مقطع ساكن فيتولد ثلاث تفاعيل أخر: وهي فعولانن، فاعلاتن، مستفعلاتن.
ومن هذه التفاعل الست يمكن بناء عشرة أبحر ما عدا الكامل والوافر والهزج.
وعذر الدكتور في استثناء هذه الثلاثة أنها قد تشتمل على مقطعين قصيرين متواليين فيتعذر بناؤها.
وكان على الدكتور أن يضم الهزج إلى هذه البحور العشرة ويبنيه من (فعولاتن) مكررة بعد أن قلنا: إن الهزج لا تأتي فيه مفاعلتن، أما الكامل والوافر فإنه يمكن أن تجري فيها على قواعد الصرفيين.
ونقول: إن الحرف المتحرك لا ينافي أن يقابله الساكن في الكلمة بالمتحرك في الميزان الصرفي؛ فيقولون: اشتد على وزن افتعل.
وإن كان في هذا مجال للبحث. وفي الفصل الرابع تعرض لتحليل المستشرقين للأوزان واتخاذ نظام المقاطع بدل التفاعيل.
ولعل هذا يحتاج إلى دراسة شاملة؛ لأن نظام المقاطع مبنى على دراسة الأصوات اللغوية وهذه لا تزال في بداية مراحلها. وفي الفصل الخامس تحدث عن غناء الشعر وإنشاده وعلاقة هذا بجودة الشعر وموسيقاه ونبه على ضرورة العناية بالإنشاد في المدارس لتؤدي رسالة الشعر غير منقوصة.
ولدى الحقيقة أن إهمال الإنشاد في العصر الحديث قد أفقد الشعر ميزة كبرى لا تقل عن العاطفة والتعبير. واختص السابع بدراسة أوزان المولدين كالمستطيل والممتد والمتوفر وغيرها وشيوع الأزجال المبنية على نظام البحور القديمة وقد ذكر لهذا عدة شواهد من مقدمة ابن خلدون ومن الأزجال المصرية الحديثة وحاول جهد الطاقة على البحور الشائعة. والحق أن الأزجال في البلاد العربية كلها أو معظمها موزون كالشعر الفصيح ولكن الوزن يختلف باختلاف اللهجات والأغاني في الشعوب العربية؛ لأن الشقة قد أصبحت بعيدة بين البيئات العربية في تأدية الكلمات العامية. وفي الختام لا يسعني إلا أن أثنى على المؤلف الجليل لما بذله من عناية وجهد في هذا الكتاب فجاء تحفة رائعة تغني عما كتبه العروضيون وتكفي من يريد دس العروض دراسة صحيحة يستطيع بواسطتها أن يعرف النسج الشعري دون مشقة أو عناء ويتجنب العيوب الشعرية من علل وزحافات وغيرها. إبراهيم الوائلي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١