أرشيف المقالات

تعقيبات

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 للأستاذ أنور المعداوي مع الأستاذ توفيق الحكيم في (أوديب الملك): في العدد (835) من الرسالة، سألني أديب عراقي فاضل هو الأستاذ فؤاد الونداوي عن بعض الآراء التي عقب بها الأستاذ توفيق الحكيم على مقدمة الترجمة الفرنسية لمسرحية (أوديب الملك).

ولقد عرض الأستاذ الونداوي لتلك الآراء بالنقد والتحليل، مخالفاً صاحبها فيما ذهب إليه من تفسير لبعض القيم النفسية والفنية، طالباً أن أعقب على الرأيين: رأي الكاتب ورأي الناقد. يقول الأستاذ الونداوي إن الأستاذ الحكيم قد حاول أن يوفق بين فكرة الأسطورة وبين روح الإسلام، فجعل من رغبة أوديب في العلم بالحقيقة وبحثه المتصل عنها سبباً يدفع أوديب إلى الكارثة، أي أنه جعل الموجب للكارثة طبيعة أوديب ذاتها؛ طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة.
ثم يعقب الأديب العراقي الفاضل على ذلك بقوله: ولست أدري كيف استساغ كاتب فنان كتوفيق الحكيم أن يجعل من حب أوديب للحقيقة وسعيه ورائها إثماً يستحق عليه ذلك العقاب المنكر الفظيع؛ فإن حب الحقيقة والسعي وراءها - مطلقة كانت أو نسبية، عامة كانت أو جزئية - لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق وخلد ذكرهم في أعماق الأفئدة، وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور! أود أن أقول للأستاذ الونداوي رداً على اعتراضه: هل أقمت اعتراضك يا صديقي على أساس من خطأ الفكرة النفسية، أم على أساس من التعثر في خطوات العمل الفني؟ في رأيي إن الأستاذ الحكيم قد بعد عن منطقة الاعتراض في كلتا الناحيتين؛ لأننا لو وضعنا الفكرة النفسية تحت المجهر لبدت لنا متفقة مع منطق الحياة ومنطق الفن.

لا خطأ أبداً إذا ما جعل توفيق الحكيم من جري أوديب وراء الحقيقة سبباً يدعو إلى الكارثة؛ لأن طبيعة أوديب النفسية - طبيعة الشك والتحدي والغرور والكبرياء - من شأنها أن تدفع به إلى هذا المصير المحزن الذي انتهى إليه! إننا لو بحثنا عن نقط الارتكاز الفنية في المسرحيات الثلاث وأعني بها مسرحية سوفوكل ومسرحية أندريه جيد ومسرحية توفيق الحكيم لوجدناها تتفق جميعاً على إن الطبيعة النفسية عند أوديب كانت هي مصدر الكارثة؛ الكارثة التي أدت بأوديب إلى أن يقتل أباه لايوس ويتزوج من أمه جوكاست ويفقأ في النهاية عينيه ليحرم إلى الأبد من نعمة الضياء.

أوديب عند سوفوكل يبحث عن الحقيقة وعند أندريه جيد يبحث عن الحقيقة، وهو يبحث عنها أيضاً عند توفيق الحكيم؛ فالأساس النفسي موجود عند الكاتب الإغريقي وموجود عند الكاتب الفرنسي وموجود عند الكاتب المصري.
وإذا كان الصراع الخارجي بين إرادة الآلهة وحرية الإنسان هو الهدف الأصيل لخطوات العمل الفني عند سوفوكل وأندريه جيد، فإن خطوات العمل الفني عند توفيق الحكيم قد أحالته صراعاً داخلياً بين إرادة الإنسان وبين سطوة الحقيقة.

هناك صراع مشبوب تثيره في نفس أوديب نزعة التحدي للقوى الخفية ولو كان فيها ألف مورد من موارد التهلكة، وهنا صراع مشبوب أيضاً ولكن الدافع إليه نزعة أخرى هي نزعة الشك الملح في التخلص من الواقع، ولو كان فيه ألف سبيل من سبل النجاة من الكارثة.
وكلا الصراعين يتقرر معه المصير على ضوء الطبيعة النفسية التي عالجها الأستاذ الحكيم علاجاً حاول فيه أن يوفق بين فكرة الأسطورة وروح الإسلام! هذا يا صديقي عن منطق الفن، أما عن منطق الحياة فلا أرى أن توفيق الحكيم قد خالف منطق الحياة أو أعترض سيرها الطبيعي.

إن الحياة تقدم لنا في كثير من الأحيان نماذج نفسية من طراز أوديب يدفعها حب الاستطلاع والبحث عن الحقيقة إلى كثير من المتاعب والكوارث والآلام! أنا معك في أن حب الحقيقة والسعي ورائها لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق وخلد ذكرهم في أعماق الأفئدة، وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور.
أنا معك حين أقدم إليك واحد ممن ذكرت وهو الفيلسوف الألماني نيتشه.

ولكن لا تنس إن هذا الفيلسوف العظيم الذي ظل يبحث عن الحقيقة حتى رفع عنها الغطاء، هذا الفيلسوف يا صديقي قد فقد عقله في سبيل الجري وراء الحقيقة! أختلف معك في هذه النقطة وأختلف معك في نقطة أخرى، هي اعتراضك على الأستاذ الحكيم حين يقول: إن رغبة أوديب في العلم بالحقيقة هي التي جرته إلى ما جره العلم الحديث على الإنسان الحديث ممثلاً في (فرويد) عندما طفق يحفر في أعماق الإنسان إلى أن وجد أنه عاشق في الباطن لأمه!.

الواقع إنك لم تعد الحق حين أفصحت عن حيرتك أمام هذا التعليل، وحين قلت إنك لم تفهم كيف أرتضى الأستاذ الحكيم أن يشبه حالة أوديب أمام المأساة بحالة فرويد أمام حقائق النفس! إلى هنا يا صديقي وأقف إلى جانبك لأنه لا وجه للمقارنة على الإطلاق.

أما بعد ذلك فلا أرضى عن تفسيرك للمشكلة عندما تقول: إن البحث عن الحقيقة قد أدى عند فرويد إلى اكتشاف الحقيقة فحسب، ولكنه عند أوديب قد أدى إلى وقوع الكارثة أو المأساة وواضح إن الفرق بين الحالين أكبر وأوسع من أن يستسيغ أي تشبيه بينهما! أريد أن أسأل: هل كشف فرويد حقاً عن الحقيقة التي يرددها من بعده الكثيرون في الشرق والغرب، وأعني بها عشق الطفل في الباطن لأمه؟ هذا العشق الناتج عن مص ثدييها في حالة الرضاع مما يترتب عليه لون من ألوان اللذة الجنسية، حتى لتتحل تلك اللذة عند تقدم السن إلى عادة التدخين عند كثير من الناس؛ لأن فيها بقية من المتعة الجنسية في الصغر ممثلة في عملية المص بالشفتين، والفم كما يقول فرويد منطقة من المناطق الشديدة الحساسية والشعور باللذة؟!.

ليصدقني الكثيرون إن هذا التفسير النفسي الذي جاء به فرويد تفسير يحفل بالشذوذ وانحراف التفكير؛ لأنك لو أرضعت الطفل من ثدي أنثى من إناث الحيوان لهام بها نفس هيامه بأمه، ولتعلق بها نفس التعلق ولأقبل عليها نفس الإقبال؛ لأن عقله الصغير إلى أبعد حدود الصغر لا يهيئ له أن يفرق بين مرضعة ومرضعة ولا بين حيوانه وإنسانه! إن المسألة مسألة الشعور بالجوع واندفاع إلى كل منبع من منابع التغذية يمكن أن يرد عن الطفل الجائع غائلة الجوع، فكيف نقبل هذا الشذوذ الفكري الذي ينادي به فرويد حين يلصق بالطفولة البريئة نزعة الانحرافات الجنسية؟!.

ثم هل تتحول حقاً تلك اللذة الجنسية المتخلفة عن أيام الطفولة إلى لذة التدخين عند كثير من الناس؟ ترى كيف يستقيم هذا التفسير العجيب إذا ما قدر لفرويد أن يعيش في تلك الأيام التي لم يكن فيها تدخين ولا مدخنون؟!.
إننا في انتظار الجواب من المولعين بهذا اللون الطريف من الدراسات النفسية! بقي أن أرد على النقطة الأخيرة التي أثارها الأستاذ الونداوي حول رأي آخر من آراء الأستاذ الحكيم حين يقول: إن الطعن الذي أنزله أوديب بعينيه قد ذهب في تفسيره أندريه جيد في مسرحيته إلى كونه إمعاناً في الكبرياء.
يؤكد الأستاذ الونداوي أن الواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد لم يقل مثل هذا الكلام ولم يفكر فيه، لأنه قال بصراحة عن لسان أوديب مخاطبا الكاهن تيرسياس بأنه - أي أوديب - إنما يفقأ عينيه لأنهما لم تحسنا تنبيهه إلى الكارثة قبل وقوعها ولم تضيئا له الطريق! معذرة يا صديقي إذا أكدت لك أن الواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد قد قال مثل هذا الكلام وفكر فيه.

أما عن الواقع فهو ممثل في تلك الزاوية التي سلط أضواءه على شخصية أوديب الإنسانية؛ وهي الشخصية المتعالية المتحدية المتكبرة المغرورة الثائرة على الآلهة في كل فصل من فصول مسرحيته.
إن طعن أوديب لعينيه لم يكن في الواقع إلا تحديا للألم وإمعاناً في الكبرياء! مهلا يا صديقي ولا تعترض.

إن صحائف الكتاب تشهد بصدق ما أقول، هناك قبل نهاية الفصل الأخير بصفحتين حيث يقول أندريه جيد عن لسان تيرسياس مخاطباً أوديب بعد أن فقأ عينيه: (إذن فهي الكبرياء التي دفعتك إلى أن تفقأ عينيك.
لم يكن الإله ينتظر منك هذا الإثم الجديد ثمناً لجريمتك الاولى، وإنما كان ينتظر منك الندم ليس غير)
! بعد هذا أرجو أن يتقبل الأستاذ الونداوي خالص الشكر على حسن ظنه، وعاطر التحية على صدق إخائه. حول مستقبل الشعر وانحراف المواهب: هذا العنوان يجمع بين عنوانين، أحدهما لمقال كتبه الأستاذ يوسف البعيني في العدد (835) من الرسالة، والآخر لمقال كتبته أنا في العدد (797) من الرسالة.

ولقد لاحظت أن الأستاذ البعيني قد جال بفكره في نفس الأفق الذي جلت فيه من قبل، وأن هناك كثيراً من التقارب بين وجهات النظر وطرائق التعبير ومرامي الألفاظ.
أنه لون من توارد الخواطر غير شك؛ لأن طبيعة الموضوع الذي تناولته بالدراسة كما تناوله الأستاذ البعيني حول ماضي الفن وحاضره، من شأنها مع النظرة المتغلغلة في أعماق المشكلة أن يخرج منها الباحث بمثل ما خرج به الأستاذ وخرجت، من تحليل يؤدي إلى تعليل ومن مقدمة تدفع إلى نتيجة. يبدأ الأستاذ البعيني مقاله عن (مستقبل الشعر) بهذه الكلمات: (أجمع فريق من الحكماء والمصلحين وفي طليعتهم الموسيقي البولوني المشهور أنتون بادريفسكي على أن الفنون الجميلة تسير بخطى واسعة نحو الفناء.
ومما قاله ذلك العبقري الموهوب أن تلك الأنغام العميقة التي كانت ترفع الروح إلى الملأ الأعلى توارت أمام الموسيقى الأمريكية الحديثة.
لقد صدق هذا الفنان في تعليله؛ فإن رجل الفن كان في الماضي البعيد يغذي عبقريته بجمال الطبيعة.
أما الآن فهو لا يعنى بإغناء موهبته وتهذيبها إذ طغت موجة المادة وتبدلت أغراض الحياة فاختلفت عما كانت عليه في سابق الأجيال)
.
هذا هو مفتاح المشكلة الذي يعالج به الأستاذ البعيني فتح المنافذ المؤدية إلى نتائج موضوعة، وهو نفس المفتاح الذي قدمته من قبل حيث قلت: (.

هذه الحضارة التي نعيش فيها حضارة قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير الأدب والفن في كثير من الأحيان؛ لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأمول العواقب في ميدان النضال مع الحياة ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكاتهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان المرموق والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا، وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان!.
إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شيء لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ.
وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء)
!.
إن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة، وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي البعيد يعيشون للفن ويطربون له ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادة على كل شيء طغيانها الجارف، انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق)
! (من وراء الأبد) وجرأة القصاصين العوام: قيل إن الذبابة هبطت يوماً على رأس الفيل، فلما يئست من أن تشعره بوجودها قالت له: ياعزيزي، إني طائرة عنك.

ونظر إليها الفيل ضاحكا ثم قال: يا عزيزتي، والله ما أحسست بك هابطة حتى أحس بك طائرة!! تذكرت هذه القصة الطريفة وأنا أستمع لمن نقل إلي خبراً فحواه أن قصاصاً من القصاصين العوام، اجترأ على أن يتهمني في إحدى الصحف اليومية بالسطو على أحد الأفكار من قصصه لتزدان بها قصتي (من وراء الأبد).

أما هذا القصاص العامي النابغ الذي أراد أن يشعرني بوجوده كما فعلت الذبابة الخالدة، فهو السيد أمين يوسف غراب! أود أن أقول لهذا القصاص الذي لا أشك لحظة في أنه درس فن القصة في كتاب القرية؛ أود أن أقول له أنه لو قدر له أن يعاصر المثال الفرنسي العظيم رودان لألهمه الإبداع في صنع تمثال يمثل الغباء النادر.

ذلك لأنه لو خطر لي أن أنقل فكرة عن أحد القصاصين، فإن الذوق يفرض على أن ألجأ إلى أعلام القصة في أدب الغرب.
عندي مثلا في الأدب الفرنسي بلزاك وديماس وفلوبير وزولا وموباسان، وعندي مثلا في الأدب الروسي تولستوي ودستويفسكي وتورجنيف وتشيكوف وجوركي، وعندي مثلا في الأدبيين الإنجليزي والأمريكي ديكنز ولويس ولورنس وبووموم.
.
فمن يصدق أنني أترك تلك القمم حيث يحلق النسور، لأهبط إلى السفوح حيث يحلق الغراب؟! أنور المعداوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١