أرشيف المقالات

أعيان القرن الرابع عشر

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 10 - أعيان القرن الرابع عشر للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور الشيخ حسن الطويل المالكي الأمام العلامة، شيخ الشيوخ، وأستاذ الأستاذين، وأحد من تفرد في مصر بالبراعة في المعقول والمنقول، وأتقن العلوم العديدة مع الزهد الصحيح والورع وعلو النفس، والتأدب بآداب الشرع والتمسك بالكمالات. وهو حسن الطويل بن احمد الطويل بن علي، ولد بمنية شهالة إحدى قرى المنوفية، حوالي سنة 1250 كما سمعته من تلميذه الخاص العلامة الشيخ احمد أبي خطوة.
وذكر الشيخ بشير الظافر في كتابه اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة، أنه ولد سنة 1256، وتربى بهذه القرية فقرأ القرآن الكريم وحفظه بها، ثم انتقل إلى طندتا وهو صغير، فاشتغل بتجويد القرآن وحفظ المتون بالمسجد الأحمدي نحو سنتين أو ثلاث، ثم حضر للقاهرة واشتغل بطلب العلم بالجامع الأزهر، فقرأ على شيوخ العصر، مثل الشيخ محمد عليش المالكي في الفقه والحساب وغيرهما، وعلى الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ إبراهيم السقاء، والشيخ محمد الأشموني، والشيخ محمد الأنبابي، والشيخ احمد شرف الدين المرصفي، فظهرت عليه النجابة، وابتدأ في حضور السعد، وكان من دأبه في أول أمره معاكسة المشايخ في الدروس بكثرة الأسئلة والمناقشات، حتى حدث ما اضطره إلى الانقطاع عن الأزهر، وسبب ذلك أن أبناء العمد وأقاربهم طلبوا للدخول في الجندية بقانون وضع لذلك أمر به سعيد باشا والي مصر، ولما كان المترجم من أقارب بعض مشايخ قريته طلب معهم. تجنيده بأمر سعيد باشا وجند مع جند فصار واحداً منهم، إلا إنه لم يسلك مسلك أكثرهم في التفريط في الفروض، فكان يواظب على الصلوات والأوراد، وكان الوالي يكره من الجند من يصلي، وحدث أن المترجم جاءه من شيخه الشيخ احمد شرف الدين المرصفي كتاب فيه استغاثة يأمره بتلاوتها عقب كل صلاة، رجاء أن تفرج كربه وتخلصه من الجندية، فوقع الكتاب ف أيديهم، وعدوه لذلك مذنباً، وكان عقاب المذنبين عندهم إهمال تعليمهم الفنون العسكرية وتشغيلهم في السكك الحديدية وما أشبهها من الأعمال الشاقة، فكان المترجم يشتغل بهذه الأعمال بهمة زائدة تأديباً لنفسه، لأنه ظن ما وقع له عقاباً على جراءته على مشايخه، وكان سعيد باشا يلقب المطيعين من الجند بالفراعنة، والعاصين المذنبين بالنماردة، فغضب مرة على النماردة وأمر بطردهم من الجيش، فخرجوا منه إلا أنهم بقوا تابعين له، وهم ما كانوا يسمونهم بالعساكر الأمدادية، وخرج المترجم معهم، فأقام بقريته مدة، وكان قبل ذلك يجتمع على الشيخ خالد أحد مشايخ الطريق فرأى أن يسافر إليه فسافر إلى بلدته المسماة بالسريرية من أعمال المنية أي منية ابن الخصيب ولزمه بعض أشهر عكف فيها على الاشتغال بالعلم والطريق. فراره ثم طلب إلى الجندية مرة ثانية فذهب إليه أبوه ليحضره وأراد الشيخ خالد منعه فلم يرض هو بل عاد مع أبيه إلى قريته فوجدهم أهملوا طلبه، فحمد الله وأراد والده إبقاءه معه في القرية خوفاً من أن يعود إلى الصعيد، فضاق المترجم بهذا الأمر وخرج من غير علم أبيه من القرية وهو لا يملك شيئاً، فمشى على قدميه يبيت في كل بلدة تصادفه حتى وصل إلى القاهرة، ودخلها من جهة باب الحديد فاشترى بما معه شيئاً أكله، وذهب إلى الأزهر فصادف الشيخ محمد السقاري في طريقه، فلما رأى المترجم أسرع إليه وهش له، وأخبره أنه يطلبه من مدة.
ثم أنزله بداره وحلف أن يبقى بها شهراً لا يتكلف شيئاً من عنده، وكان مراد السقاري نظم قصيدة يمدح بها أحد الأمراء، فنظمها له وأخذ عليها أربعين ديناراً جائزة.
ولما انقضى الشهر حفّ الله المترجم بعنايته، فطلبه الشيخ حسن العدوي لتصحيح البخاري، وكان شرع في طبعه فانتفع بأجر التصحيح.
ثم طلب إلى ديوان الجهادية لتصحيح ما يطبع به، فقابل هناك احمد عبيد بك رئيس الترجمة، وامتحنه فأعجب به، وكاد يطير فرحاً وقال هذا جوهرة خفيت عنا، واستخدمه في الحال للتصحيح بهذا الديوان، وسعى له حتى محوا اسمه من الجيش حتى لا يعاد طلبه. ثقافة شاملة وكان المترجم في هذه المدة عاد لطلب العلم والاشتغال به، مع القيام بالتصحيح بالديوان، حتى شهد له شيوخه بالتأهل للتدريس فدرّس بالأزهر، وكان أول درس قرأه في شوال سنة 1283.
وابتدأ فيه بالقراءة في الأزهرية.
ولم يقتصر رحمه الله على العلوم المتداولة بالأزهر، بل بحث ونقب، واجتمع بالشيخ محمد أكرم الأفغاني فتلقى عنه العلوم الحكمية، وبرع فيها، وتلقى عن تلميذه خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي، ونظر في الهندسة والجبر وسائر العلوم الرياضية، وقرأ التاريخ قراءة إمعان وتدبر، وطالع كتب اللغة والأدب، ونظم الشعر السهل، وكتب الترسل البديع، وكان لا يسمع عن أحد يعرف علماً إلا ويسعى إليه، ويتلقاه عنه كائناً من كان، حتى صار نسيج وحده، وقريع دهره، في سائر العلوم مع بعد النظر في السياسة، وسعة العقل، وسلامة العقيدة، وشدة الإنكار على البدع والمستحدثات في الدين. مشاهير تلاميذه وقد قرأ عليه في الأزهر كثيرون من علمائه المشهورين، فكان الشيخ الأجل احمد أبو خطوة، والشيخ محمد عبده، والسيد احمد الشريف، وإبراهيم بك اللقاني، والشيخ محمد راضي البوليني، ممن قرأ عليه في الطبقة الأولى من تلاميذه.
ثم قرأت عليه طبقة ثانية منها الشيخ عبد الرحمن فوده، والشيخ محمد الغريني، والشيخ عبد الرحمن قرّاعه، وقرأ عليه أيضاً الشيخ محمد بخيت، والشيخ داغر، والشيخ محمد المغربي، والشيخ احمد الزرقاني، وغيرهم ممن لا يحصون، واختص به الشيخ احمد أبو خطوة، والشيخ راضي البوليني، والشيخ عبد الرحمن فوده، والشيخ عبد الرحمن قراعه، فكانوا يقرأون عليه في داره دروساً غير الدروس الأزهرية، وصحبوه ولازموه فانتفعوا به في دينهم وأخلاقهم فوق انتفاعهم بعلمه. ثم نقل إلى نظارة المعارف وعيّن للتفتيش فيها، ولما مات الشيخ زين المرصفي مفتشها الأول سنة 1300، وأقيم بدله الشيخ حمزة فتح الله المفتش الثاني جعل المترجم مفتشاً ثانياً.
ثم نقل مدرساً بمدرسة دار العلوم، فعم الانتفاع به، وتخرج عليه أحسن من نراهم الآن من الأساتذة المتخرجين في هذه المدرسة كالشيخ الفاضل حسن منصور، والشيخ محمد المهدي، والشيخ محمد الخضري، والشيخ عبد الوهاب النجار وغيرهم من أفاضل الوقت. وفاته وبقي في هذه المدرسة إلى سنة 1317، وكانوا شرعوا في الامتحان قبل الإجازة المدرسية كالعادة، فلما كانت ليلة السبت 17 صفر سهر كعادته.
ثم ذهب لداره معافى ليس به شئ، واستيقظ فتوضأ وصلى الصبح.
ثم طلب الإفطار والقهوة، وأخذته غفوة كان فيها القضاء المحتوم، فلم تشرق شمس ذلك اليوم إلا والنعاة ينعونه والمؤذنون يؤذنون على المآذن كالعادة في موت كبار العلماء، وأمّ داره شيخ الأزهر الشريف الشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ محمد عبده المفتي، وجميع العلماء والفضلاء، وكبار نظارة المعارف، وتلاميذه من الأزهر ودار العلوم، وشيعت جنازته تشييعاً سنياً، فصلوا عليه في الأزهر ودفنوه بمقابر المجاورين رحمه الله وغفر له عدد حسناته.
ومن غريب المصادفات أنه زارني قبل وفاته بيومين في ليلة مقمرة، فجلسنا في صحن الدار نلعب الشطرنج، وكان مولعاً به مع قلة إجادته فيه، فقال لي عندما أراد الذهاب نحن الآن في الامتحان، وقد قربت الإجازة، وصدري ضيق في هذه الأيام من الناس، ونفسي تجنح للعزلة، فهل تعرف لي مكاناً أقضي فيه بعض أيام بعيداً عنهم؟ فقلت يا سيدي إذا انتهى الامتحان فالأوفق أن نسافر معاً إلى ضيعتنا التي بقويسنا فنخلوا فيها بكتاب نقرؤه، فقال نعم الرأي هذا، وسأستصحب معي ولدي حسناً ليشترك معنا في القراءة.
ثم لم يمض يومان حتى نقله الله إلى جواره ويسّر له العزلة، ولكن في دار قراره، فأصبت فيه مصيبة لم أصبها في بعيد ولا قريب، لما كان له عليّ من الفضل ولو لم يكن له عليّ سوى تصحيح العقيدة وتأديبي بآداب الحنيفية السمحاء لكفى. الأستاذ يرشد أما سبب اجتماعي به وقراءتي عليه، فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يتلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين، وقد علق بالعقيدة شئ من آثار التربية بهذه المدارس إلا إني كنت مولعاً من الصغر بالإسلام ومحاسنه، والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء، وينقبض من أشياء تعرض لي فيها شبهات.
ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها، وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التناقض والتصادم، فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم، لعلي أجد عندهم مفرجاً فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات، حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين، فأما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وأما أن يكون ما نراه حقاً، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس.
حتى أرشدني بعض الأصحاب للمترجم، فأخذت في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفرونني منه حتى بالغ بعضهم عامله الله بما يستحق ورماه بالزندقة، فقلت إذا كنت لم أجد طلِبتي عند من تسمونهم بالصلاح والورع، فلعلي أصيبها عند الزنادقة.
ثم سعيت في الاجتماع به، وسألته القراءة عليه، والاهتداء بهديه، فقرأت عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدت عليه الصرف بتوسع وعلوم البلاغة.
ثم قرأت طرفاً من الحكمة في شرح الدواني على هياكل النور للسهروردي، وشرح رسالة الزوراء وغير ذلك.
ولما رآني مجدّاً في التحصيل، قرر لي درساً ثانياً بعد العشاء كنا نقرأ فيه كتب الأدب ونحوها، وأنا في كل هذه المدة استوضح منه ما أشكل عليّ فيحله لي، فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نعم الله عليّ في ديني، وكثيراً ما كان يغضب مني ويؤنبني إذا رأى مني تهاوناً في الصلاة. وكان من عاداته الخروج إلى الريف كل خميس ترويحاً للنفس فكان يذهب إلى الأميرية من ضواحي القاهرة عند تلميذه الشيخعبد الرحمن فودة فيقضي عنده الخميس والجمعة ويعود يوم السبت فلما عرفته صار يذهب للأميرية بعض الأخمسة ويسافر في بعضها إلى ضيعتنا التي بقويسنا أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاء، فكنت أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال حتى في حالة المشي والتنزه كنت أحمل الكتاب معي وأسمعه فيه فيقرر لي المسائل ونحن سائران. كان متصوفاً وكان رحمه سنيّ العقيدة، صوفيّ المشرب، لا يحيد عن الشرع قيد إصبع، آخذاً بمذهب الإمام ابن تيمية في مسألة الاستغاثة بالقبور والاستشفاء بالموتى، منكراً على المبتدعة أشد إنكار، آية من آيات الله في معرفة التفسير وحل مشكلات الكتاب المبين، متضلعاً من الحديث، متحصناً بالشريعة في كل علم يقرؤه من كلام أو حكمة أو تصوف أو رياضيات أو طبيعيات، وخص باستحضار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستشهاد بها على حل المشكلات الدينية، فكان أمره في ذلك عجباً وشأنه فيه مستغرباً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومع انحراف علماء الأزهر عنه لإنكاره عليهم بدعهم وما درجوا عليه، فإنهم كانوا مقرين بفضله، وكثيراً ما كانوا يحتاجون إليه في معرفة أسرار الشريعة، وحل مشكلاتها والرد على الطاعنين عليها من أرباب النحل الأخرى أو المرتدين. أخلاقه ومساعيه أما أخلاقه فزهد غريب، وعلو نفس عن الدنايا، وبعد عن الرياء، وتواضع مع كل إنسان، وسذاجة في المطعم والملبس والمسكن، لا ينفق على نفسه من مرتبه إلا القليل ويتصدق بالباقي في الخفاء؛ فلما مات قام الصراخ في دور كثيرة يسكنها فقراء وأرامل، كان يعولهم في كل شهر بما فضل من نفقته، وما علم بهم أحد حتى من أقرب الناس إليه وأخصهم به إلا بعد موته. وكان كثير الاشتغال بأمور المسلمين، دائم الهموم لما أصابهم من التأخر في مشارق الأرض ومغاربها، منتظراً فرجاً يأتيهم، ولطفاً من الله يحفهم، فتقوم فيهم دولة شعارها الدين، تقوى على جمع شملهم؛ ولذلك لما قام المهدي بالسودان وانتصر انتصاراته المشهورة واستولى على البلاد السودانية، أحسن المترجم فيه الظن وقام بنصرته بقلبه ولسانه، حتى اضطر الإنكليز أن يسيروا وراءه عيناً يخبرهم بحركاته وسكناته، وكاد يقع فيما لا تحمد عقباه لولا أن سلمه الله. ولمداومة اشتغاله بالإقراء وتربية النفوس لم يؤلف تأليفاً، غير أن نظارة المعارف لما كلفت كل مدرس بجمع ما يلقيه من الدروس، وكان يدرس التفسير بمدرسة دار العلوم، شرع بجمع ذلك في كتاب سماه (عنوان البيان) لم يطبع منه غير المقدمة سنة 1316، أي قبل وفاته بسنة. احمد تيمور

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن