أرشيف المقالات

أحلام في الشارع

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 للأستاذ مصطفى صادق الرافعي على عتبة (البنك) نام الغلام وأخته يفترشان الرخام البارد، ويلتحفان جواً رخامياً في برده وصلابته على جسميهما. الطفل متكبكب في ثوبه كأنه جسم قُطّع وركمت أعضاؤه بعضها على بعض، وسجّيت بثوب ورمي الرأس من فوقها فمال على خده. والفتاة كأنها من الهزال رسم مخطط لامرأة، بدأها المصور ثم أغفلها إذ لم تعجبه.
كتب الفقر عليها للأعين ما يكتب الذبول على الزهرة: أنها صارت قشاً.
نائمة في صورة ميتة، أو كميتة في صورة نائمة؛ وقد انسكب ضوء القمر على وجهها وبقي وجه أخيها في الظل؛ كأن في السماء ملكاً وجه إليها المصباح وحدها إذ عرف أن الطفل ليس في وجهه علامة همّ، وأن في وجهها هي كل همها وهم أخيها. من أجل أنها أنثى قد خلقت لتلد، خلق لها قلب يحمل الهموم ويلدها ويربيها. من أجل أنها أعدت للأمومة، تتألم دائماً في الحياة آلاماً فيها معنى انفجار الدم. من أجل أنها هي التي تزيد الوجود، يزيد هذا الوجود دائماً في أحزانها. وإذا كانت بطبيعتها تقاسي الألم لا يطاق حين تلد فرحها، فكيف بها في الحزن.
! وكان رأس الطفل إلى صدر أخته وقد نام مطمئناً إلى هذا الوجود النسويّ الذي لابد منه لكل طفل مثله مادام الطفل إذا خرج من بطن أمه خرج إلى الدنيا وإلى صدرها معاً. ونامت هي ورأسها مرسلة على أخيها كيد الأم على طفلها.
يا إلهي! نامت ويدها مستيقظة! أهما طفلان؟ أم كلاهما تمثال للإنسانية التي شقيت بالسعداء فعوّضها الله من رحمته ألا تجد شقياً مثلها إلا تضاعفت سعادتها به؟ تمثالان يصوران كيف يسري قلب أحد الحبيبين في الجسم الآخر فيجعل له وجوداً فوق الدنيا، لا تصل الدنيا إليه بفقرها وغناها، ولا سعادتها وشقائها، لأنه وجود الحب لا وجود العمر؛ وجود سحري ليس فيه معنى للكلمات فلا فرق بين المال والتراب، والأمير والصعلوك؛ إذ اللغة هناك إحساس الدم، وإذ المعنى ليس في أشياء المادة ولكن في أشياء الإرادة. وهل تحيا الألفاظ مع الموت، فيكون بعده للمال معنى وللتراب معنى؟.

هي كذلك في الحب الذي يفعل شبيهاً بما يفعله الموت في نقله الحياة إلى عالم آخر، بيد أن أحد العالَمين وراء الدنيا، والآخر وراء النفس. تحت يد الأخت الممدودة ينام الطفل المسكين، ومن شعوره بهذه اليد خفّ ثقل الدنيا على قلبه. لم يبال أن نبذه العالم كله، مادام يجد في أخته عالم قلبه الصغير.
وكأنه فرخ من فراخ الطير في عشه المعلق، وقد جمع لحمه الغض الأحمر تحت جناح أمه، فأحس أهنأ السعادة حين ضيّق في نفسه الكون العظيم وجعله وجوداً من الريش. وكذلك يسعد كل من يملك قوة تغيير الحقائق وتبديلها، وفي هذا تفعل الطفولة في نشأة عمرها ما لا تفعل بعضه معجزات الفلسفة العليا في جملة أعمار الفلاسفة. وما صنع الذين جنّوا بالذهب، ولا الذين فتنوا بالسلطة، ولا الذين هلكوا بالحب، ولا الذين تحطموا بالشهوات - إلا أنهم حاولوا عبثاً أن يرْشوا رحمة الله لتعطيهم في الذهب والسلطة والحب والشهوات ما نوّلته هذا الطفل المسكين النائم في أشعة الكواكب تحت ذراع كوكب روحه الأرضي. ألا إن أعظم الملوك لن يستطيع بكل ملكه أن يشتري الطريقة الهنيئة التي ينبض بها الساعة قلب هذا الطفل. وقفت أشهد الطفلين وأنا مستيقن أن حولهما ملائكة تصعد وملائكة تنزل، وقلت هذا موضع من مواضع الرحمة، فإن الله مع المنكسرة قلوبهم، ولعلي أن أتعرض لنفحة من نفحاتها، ولعل ملكاً كريماً يقول: وهذا بائس آخر.
فيرفّني بجناحه رفّة ما أحوج نفسي إليها، تجد بها في الأرض لمسة من ذلك النور المتلألئ فوق الشمس والقمر. وظهر لي بناء (البنك) في ظلمة الليل من مرأى الغلامين - أسود كالحاً، كأنه سجن أقفل على شيطان يمسكه إلى الصبح، ثم يفتح له لينطلق معمّراً، أي مخرباً.

أو هو جسم جبار كفر بالله وبالإنسانية ولم يؤمن إلا بنفسه وحظوظ نفسه فمسخه الله بناءً، وأحاطه من هذا الظلام الأسود بمعاني آثامه وكفره. يا عجباً! بطنان جائعان في أطمار بالية يبيتان على الطّوى والهمّ، ثم لا يكون وسادهما إلا عتبة البنك! ترى من الذي لعن (البنك) بهذه اللعنة الحية؟ ومن الذي وضع هذين القلبين الفارغين موضعهما ذلك ليثبت للناس أن ليس البنك خزائن حديدية يملؤها الذهب، ولكنه خزائن قلبية يملؤها الحب.
.؟ وقفت أرى الطفلين رؤية فكر ورؤية شعر معاً، فإذا الفكر والشعر يمتدان بيني وبين أحلامهما، ودخلت في نفسين مضّهما الهم واشتد عليهما الفقر، وما من شئ في الحياة إلا كادّهما وعاسرهما؛ ونمت نومتي الشعرية.
قال الطفل لأخته: هلمي فلنذهب من هنا فنقف على باب (السيما) نتفرج مما بنا، فنرى أولاد الأغنياء الذين لهم أب وأم. انظري هاهم أولاء يُرى عليهم أثر الغنى، وتعرف فيهم روح النعمة؛ وقد شبعوا.

إنهم يلبسون لحماً على عظامهم، أما نحن فنلبس على عظامنا جلداً كجلد الحذاء؛ إنهم أولاد أهليهم، أما نحن فأولاد الأرض؛ هم أطفال، ونحن حطب إنساني يابس؛ يعيشون في الحياة ثم يموتون، أما نحن فعيشنا هو سكرات الموت، إلى أن نموت؛ لهم عيش وموت، ولنا الموت مكرراً. ويلي على ذلك الطفل الأبيض السمين، الحسن البزّة، الأنيق الشارة، ذاك الذي يأكل الحلوى أكل لص قد سرق طعاماً فأسرع يحدر في جوفه ما سرق؛ هو الغنى الذي جعله يبتلع بهذه الشراهة كأنما يشرب ما يأكل، أو له حلق غير الحلوق، ونحن - إذا أكلنا - نغصّ بالخبز لا أُدْمَ معه، وإذا ارتفعنا عن هذه الحالة لم نجد إلا البشيع من الطعام وأصبناه عِفناً أو فاسداً لا يسوغ في الحلق، فإذا انخفضنا فليس إلا ما نتقمم من قشور الأرض ومن حُتات الخبز كالدواب والكلاب؛ وإن لم نجد ومسّنا العُدم وقفنا نتحيّن طعام قوم في دار أو نُزُل فنراهم يأكلون فنأكل معهم بأعيننا، ولا نطمع أن نستطعمهم وإلا أطعمونا ضرباً فنكون قد جئناهم بألم واحد فردّونا بألمين، ونفقد بالضرب ما كان يمسك رمقنا من الاحتمال والصبر. هؤلاء الأطفال يتضورون شهوة كلما أكلوا فيعودوا ليأكلوا، ونحن نتضور جوعاً ولا نأكل، لنعود فنجوع ولا نأكل، وهم بين سمع أهليهم وبصرهم؛ ما من أنّة إلا وقعت في قلب، وما من كلمة إلا وجدت إجابة؛ ونحن بين سمع الشوارع وبصرها، أنين ضائع، ودموع غير مرحومة! آه لو كبرت فصرت رجلاً طويلاً عريضاً! أتدرين ماذا أصنع؟ - ماذا تصنع يا احمد؟ - إنني أخنق بيديّ كل هؤلاء الأطفال! - سَوأة لك يا احمد، كل طفل من هؤلاء له أم مثل أمنا التي ماتت، وله أخت مثلي؛ فما عسى ينزل بي لو ثكلتك إذا خنقك رجل طويل عريض؟ - لا، لا أخنقهم؛ بل سأرضيهم من نفسي؛ أنا أريد أن أصير رجلاً مثل (المدير) الذي رأيناه في سيارته اليوم على حال من السطوة تعلن أنه مدير.

أتدرين ماذا أصنع؟ - ماذا تصنع يا احمد؟ - أرأيت عربة الإسعاف التي جاءت عند الظهر فانقلبت نعشاً للرجل الهرم المحطم الذي أغمي عليه في الطريق.؟ سمعتهم يقولون: إن المدير هو الذي أمر باتخاذ هذه العربة، ولكنه رجل غُفل لم يتعلم من الحياة مثلنا، ولم تحكِمه تجارب الدنيا فالذي يموت بالفجاءة أو غيرها لا يحييه المدير ولا غير المدير، والذي يقع في الطريق يجد من الناس من يبتدرونه لنجدته وإسعافه بقلوب إنسانية رحيمة، لا بقلب سواق عربة ينتظر المصيبة على إنها رزق وعيش. إن عربات الإسعاف هذه يجب أن يكون فيها أكل.
.
ويجب أن تحمل أمثالنا من الطرق والشوارع إلى البيوت والمدارس؛ وإن لم يكن للطفل أم تطعمه وتؤويه فلتصنع له أم. كل شئ أراه لا أراه إلا على الغلط، كأن الدنيا منقلبة أو مدبرة أدبارها، وما قطّ رأيت الأمور في بلادنا جارية على مجاريها؛ فهؤلاء الحكام لا ينبغي أن يكونوا إلا من أولاد صالحي الفقراء، ليحكموا بقانون الفقر والرحمة، لا بقانون الغنى والقسوة، وليتقحموا الأمور العظيمة المشتبهة بنفوس عظيمة صريحة قد نبتت على صلابة وبأس، وخلق ودين ورحمة؛ فإنه لا ينهزم في معركة الحوادث إلا روح النعمة في أهل النعمة، وأخلاق اللين في أهل اللين؛ وبهؤلاء لم يبرح الشرق من هزيمة سياسية في كل حادثة سياسية. إن للحكم لحماً ودماً هو لحم الحاكم ودمه؛ فإن كان صلباً خشناً فيه روح الأرض وروح السماء فذاك، وإلا قتل اللين والترف الحكم والحاكم جميعاً.
وهؤلاء الحكام من أولاد الأغنياء لا يكون لهم هم إلا أن يرفعوا من شأن أنفسهم، إذ السلطة درجة فوق الغنى، ومن نال هذه استشرف لتلك، فإذا جمعوهما كان منهما الخلق الظالم الذي يصور لهم الاعتداء قوة وسطوة وعلوّاً، من حيث عدموا الخلق الرحيم الذي يصور لهم هذه القوة ضعفاً وجبناً ونذالة.
إن أحدهم إذا حكم وتسلط أراد أن يضرب، ثم لم تكن ضربته الأولى إلا في المبدأ الاجتماعي للأمة، أو في الأصل الأدبي للإنسانية.
ويحرصون على ما به تمامهم، أي على السلطة، أي على الحكم؛ فيحملهم ذلك على أن يتكلفوا للحرص أخلاقه، وأن يجمعوا في أنفسهم أسبابه؛ من المداراة والمصانعة والمهاونة، نازلاً فنازلاً إلى درك بعيد، فينشرون أسوأ الأخلاق بقوة القانون ماداموا هم القوة. - وماذا تريد أن يصنع أولاد الأغنياء يا احمد؟ - أما أولاد الأغنياء فيجب أن يباشروا الصناعة والتجارة ليجدوا عملاً شريفاً يصيبون منه رزقهم بأيديهم لا بأيدي آبائهم، فإنه والله لولا العمى الاجتماعي لما كان فرق بين ابن أمير متبطّل في أملاك أبيه من القصور والضياع وابن فقير متبطل في أملاك المجلس البلدي من الأزقة والشوارع.
وابن الأمير إذا كان نجاراً أو حداداً أصلح السوق والشارع بأخلاقه الطيبة اللينة، وتعففه وكرمه، فيتعلم سواد الناس منه الأمانة والصدق، إذ هو لا يكذب ولا يسرق مادام فوق الاضطرار، ولا كذلك ابن الفقير الذي يضطره العيش أن يكون تاجراً أو صانعاً فتكون حرفته التجارة، وهي السرقة، أو الصناعة وهي الغش، ويكون في الناس أكثر عمره مادة كذب وإثم ولصوصية. آه لو صرت مديراً! أتدرين ماذا أصنع؟ - ماذا تصنع يا احمد؟ - أعمد إلى الأغنياء فأردهم بالقوة إلى الإنسانية، وأحملهم عليها حملاً، وأصلح فيهم صفاتها التي أفسدها الترف واللين والنعمة، ثم أصلح ما أخل به الفقر من صفات الإنسانية بالفقراء، وأحملهم على ذلك حملاً، فيستوي هؤلاء وهؤلاء، ويتقاربون على أصل في الدم إن لم يلده آباؤهم ولده القانون.
ألا إن سقوط أمتنا هذه لم يأت إلا من تعادي الصفات الإنسانية في أفرادها، فتقطّع ما بينهم، فهم أعداء في وطنهم، وإن كان اسمهم أهل وطنهم. ومتى أحكمت الصفات الإنسانية في الأمة كلها ودانى بعضها بعضاً - صار قانون كل فرد كلمتين، لا كلمة واحدة كما هو الآن.
القانون الآن (حقي) ونحن نريد أن يكون (حقي وواجبي) وما أهلك الفقراء بالأغنياء، ولا الأغنياء بالفقراء ولا المحكومين بالحكام إلا قانون الكلمة الواحدة. أنا احمد المدير.

لست المدير بما في نفس احمد، ولا بمعدته وبطنه، ولا بما يريد احمد لنفسه وأولاده.

كلا، أنا عمل اجتماعي منظم يحكم أعمال الناس بالعدل، أنا خلق ثابت يوجه أخلاقهم بالقوة، أنا الحياة الأم مع الحياة الأطفال الأخوة في هذا البيت الذي يسمى الوطن، أنا الرحمة، عندي الجنة ولكن عندي جهنم أيضاً مادام في الناس من يعصي، أنا بكل ذلك لست احمد، لكني الإصلاح. هأنذا قد صرت مديراً أعسّ في الطريق بالليل وأتفقد الناس ونوائبهم. من أرى؟ هذا طفل وأخته نائمان على عتبة البنك في حياة كأهدامهما المرقعة، في دنيا تمزقت عليهما، قم يا بني، لا تُرَع إنما أنا كأبيك، تقول اسمك احمد، واسم أختك أمينة؟ تقول: إنك ما نمت من الجوع، ولكن مضمضت عينك بشعاع النوم؟ يا ولديّ المسكينين بأي ذنب من ذنوبكما دقتكما الأيام دقاً وطحنتكما طحناً، وبأي فضيلة من الفضائل يكون ابن فلان باشا وبنت فلان باشا في هذا العيش اللين يختاران منه ويتأنقان فيه، ما الذي ضر الوطن منكما فتموتا، وما الذي نفع الوطن منهما فيعيشا؟ إن كنت يا بني لا تملك لنفسك الانتصار من هذه الظليمة فأنا أملكها لك، وإنما أنا المظلوم إلى أن تنتصر، وإنما أنا الضعيف إلى أن آخذ لك الحق. إليّ بابن فلان باشا وبنت فلان باشا. يا هذا عليك أخاك احمد ولتكن به حفياً، ويا هذه عليك أختك الآنسة أمينة.
أتأبيان، أنفرةً من الإنسانية، وتمرداً على الفضيلة، أحقاً بلا واجب، دائماً قانون الكلمة الواحدة!؟ خلقتما أبيضين سخرية من القدر وأنتما في النفس أحبوشة الزنج ومناكيد العبيد. ورفع احمد يده.

. وكان الشرطي الذي يقوم على هذا الشارع، وإليه حراسة البنك قد توسنهما ودخلته الريبة، فانتهى إليهما في تلك اللحظة وقبل أن تنزل يد سعادة المدير بالصفعة على وجه ابن الباشا وبنت الباشا كان هذا الشرطي قد ركله برجله فوثب قائماً واجتذب أخته وانطلقا عَدْو الخيل منم ألهوب السوط. وتمجدت الفضيلة كعادتها.
.!.
.
أن مسكيناً حلم بها.
. مصطفى صادق الرافعي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن