أرشيف المقالات

الخلاف على القنبلة الذرية

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ عمر حليق قنبلتان ألقتهما طائرتان يقودهما نفر من الطيارين الأمريكان على جزر اليابان فقتل 115 ألف شخص وأصيب 110 آلاف آخرون بجراح مختلفة، وزالت من الوجود معالم مدينتين كانتا تعجان بالحياة.
وأصبحت كارثة هاتين المدينتين اليابانيتين (ناكي ساتي) و (هيروشيما) علما على البعبع الذري الذي يهدد الحضارة والإنسانية. لم يكن وزن هاتين القنبلتين يزيد على بضعة أرطال، ولكنهما كانتا مشحونتين بقوى متفجرة تعادل 40 ألف طن من أشد الديناميت والبارود تفجرا، وتحتاج إلى عشرة آلاف طائرة ضخمة لتنقل هذه الأطنان وتلقي بها على هاتين المدينتين. هذا تقدير للفظاعة الكامنة في القنبلة الذرية - التي حاولت هيئة الأمم المتحدة معالجتها خلال السنوات الثلاث الماضية فلم تفلح حتى الآن. إن مراقبة الطاقة الذرية على نطاق دولي مشكلة لا تعطيها الصحافة العالمية وألسنة الرأي العام الدولي ما تستحقه فعلا من أهمية ودراسة، وأن الروس والأمريكان وحلفائهم قد اختلفوا اختلافا شديدا لخطورة هذه المراقبة، ولخطورة الطاقة الذرية وما تنتجه من قنابل ومهلكات جهنمية.
وسبب هذا الاختلاف لا يعود إلى عجز في التقدير، ولكن لأن المصالح الشخصية للدول الكبرى قد طغت على مصلحة الإنسانية والحضارة وصدت مندوبي الدول الكبرى وصناع السياسة فيها عن تضحية منفعتهم الفردية العاجلة المؤقتة في سبيل الحضارة والمدنية التي تهددها الذرية وأسلحتها الجهنمية بالمحق والإبادة. وقد أحال مجلس الأمن الدولي قضية مراقبة الإنتاج الذري على الجمعية العمومية في دورتها الثالثة الحالية بباريس وأردف هذه الإحالة بتوصية فحواها أن هذه القضية تحتاج إلى اهتمام خاص ومزيد من الجهد والعناية والرغبة في التعاون والإخلاص وحسن النية. ومن سخرية القدر في شؤون الطاقة الذرية أن اختلاف الدول الكبرى على مراقبة الإنتاج الذري قد حال بين الإنسانية وبين أن تستفيد إفادة لا حد لها من هذه الطاقة الهائلة التي لولا القيود على إنتاجها لاستطاعت الآن أن توجه توجيها فيه خدمة للصناعة السلمية وما يلحق بها من نواحي الحضارة والتقدم الآلي والفني في عالم يعاني أزمة في الغذاء والمواصلات وتزايد السكان ومشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة.
فإن الطاقة الذرية إذا أنتجت لمنفعة الصناعة السلمية ستحل مشاكل الوقود البترول والكهرباء والفحم الحجري وهي مواد يشتد التنافس الدولي عليها وتدفع إلى الحروب وتعاني الدول الفقيرة الحرمان منها. كان أول خطوة في سبيل هذه المراقبة الدولية اجتماع تمهيدي عقدته حكومات بريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية في منتصف نوفمبر 1945 في مدينة واشنطون عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقررت هذه الحكومات الثلاث في ذلك الاجتماع بأن مصلحة السلم العالمي تتطلب مراقبة الإنتاج الذري على نطاق دولي واسع وبالتعاون الوثيق بين حلفاء الغرب وروسيا السوفيتية وحلفائها.
ثم كانت الخطوة الثانية في شهر ديسمبر من عام 1945 نفسه ولكن الاجتماع كان في موسكو هذه المرة لمناسبة انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول الكبرى.
وأقر موسكو نفس المبدأ الذي أقره اجتماع الحلفاء الأنجلوساكسون في واشنطون في اجتماعهم الأول.
وقررت الدول الثلاث الكبرى (روسيا وبريطانيا وأمريكا) في اجتماع موسكو هذا دعوة فرنسا والصين وكندا لوضع مشروع دولي لمراقبة الطاقة الذرية وتقديمه إلى الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة في دورتها الأولى بلندن في مطلع عام 1946.
وقررت الجمعية العمومية في تلك الدورة تأليف (لجنة الطاقات الذرية) لتحقيق مشروع مراقبة الإنتاج الذري على نطاق دولي. وهذه اللجنة مؤلفة من 11 عضوا هم أعضاء مجلس الأمن الدولي مضافا إليهم كندا، لأن كندا إحدى الدول الثلاث التي تملك سر القنبلة الذرية. وأعطيت الصلاحية للجنة الطاقة الذرية هذه أن تضع مشروعات عملية لتحقيق المراقبة الدولية على جميع أنواع الإنتاج الذي تستعمل فيه الطاقة الذرية والتأكد من أن الدول التي تستطيع الإنتاج الذري لا تستعمله لبناء أسلحة، بل لخدمة الصناعة السلمية والطب وما إلى ذلك من نواحي الحضارة والعمران، وكلفت اللجنة باتخاذ خطوات عملية لمساعدة هيئة الأمم المتحدة لتثبت من صرامة المراقبة الدولية ومفعوليتها بالتفتيش والاستقصاء وما إلى ذلك. واجتمعت لجنة الطاقة الذرية هذه لأول مرة في نيويورك في صيف عام 1946 ووضع أمامها اقتراحان لمراقبة الإنتاج الذري أحدهما قدمته أمريكا وهو يشمل وجهة نظر الحلفاء، والآخر قدمته روسيا السوفيتية.
وقد مضى على اللجنة عامان كاملان دون أن تصل إلى الموافقة النهائية على أحد الاقتراحين في أحضان الجمعية العمومية التي تجتمع بباريس أما فحوى الاقتراحين فهي كما يلي: 1 - الاقتراح الأمريكي يدعو إلى إنشاء سلطة دولية لتحسين الإنتاج الذري ليخدم الصناعة السلمية والطب والمواصلات وما إلى ذلك.
ويكون لهذه السلطة حق الإشراف على جميع وسائل الإنتاج الذري في جميع الدول ويكون لهل الحق كذلك في أن تمنع أي دولة من الدول من صنع المنتجات الذرية الفتاكة. ولهذه السلطة الدولية أن تصل إلى فرض مراقبتها على خطوات إلى أن تستطيع نهائيا منع إنتاج القنابل الذرية منعا باتا وعلى نطاق دولي واسع.
وقد نص الاقتراح الأمريكي على التخلص من القنابل الذرية الموجودة الآن بحوزة بعض الدول الكبرى، كما نص حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الدول الكبرى في هيئة الأمم المتحدة يجب أن لا يطبق على الدول التي تخالف هذه السلطة الدولية لمراقبة الإنتاج الذري.
وبالإجمال فإن الاقتراح الأمريكي يدعو إلى التعاون الدولي لمراقبة التسلح الذري على أسس عملية تتطلب حسن النية والرغبة في خدمة السلام. 2 - أما الاقتراح الروسي فهو يختلف اختلافا جوهريا عن الاقتراح الأمريكي في جميع النقاط.
ويدعو إلى تحطيم القنابل الذرية الموجودة في حوزة حلفاء الغرب.
ومنع إنتاج الأسلحة الذرية من قنابل وغيرها منعا باتا، ويدعو الاقتراح الروسيالأمم المتحدة لمؤتمر دولي يسن القوانين لمنع التسلح الذري ويضع أسس المراقبة الدولية على نطاق عالمي.
وأصر الروس على الاحتفاظ بحق الفيتو فيما يخص بشؤون الإنتاج الذري. ولم يوافق الروس على الرأي الأمريكي القائل بضرورة وضع جميع مشاريع الإنتاج الذري التي تقوم بها الدول تحت سلطة عالمية واحدة تسيطر على جميع وسائل الإنتاج وحدها وتمنع جميع الدول من العمل في الإنتاج الذري منفردين.
ورأى الروس أن تظل حرية الإنتاج الذري في يد الدول، ولكن يجب أن يأخذ عليها عهد بعدم استعماله للتسلح وصنع القنابل الجهنمية. وظلت لجنة الطاقة الذرية تبحث هذين الاقتراحين الروسي والأمريكي سنتين، وكانت نتيجة مراحل البحث أن وافقت أكثرية أعضاء اللجنة ومن بينها - سوريا - على الاقتراح الأمريكي ولم يصوت مع روسيا سوى حليفتها أوكرانيا. ويقول مناصرو الرأي الروسي أن الاقتراح الأمريكي لمراقبة التسلح الذري وإنتاج الطاقة الذرية يرمي إلى جعل الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الأعظم في الإنتاج الذري، خصوصا وأن أمريكا هي الدولة الوحيد التي أتقنت صناعة هذا الإنتاج، وأن رغبتها في تقييده الآن يرجع إلى رغبتها في منع الدول الأخرى عن بلوغ المستوى الذي بلغته هي في التقدم الفني والصناعي في شؤون الطاقة الذري.
وينتقد أنصار الرأي الروسي الاقتراح الأمريكي أيضا بأنه يشتمل على التدخل في شؤون الدول المستقلة وهو اعتداء على سيادتها واستقلالها الداخلي. ويجيب أنصار المشروع الأمريكي على ذلك قائلين أن أمريكا بموجب اقتراحها قد تنازلت عن حقوقها في احتكار إنتاج الطاقة الذرية ووضعتها في يد سلطة دولية تستطيع روسيا المشاركة فيها في إخلاص وحسن نية.
أما أن الاقتراح الأمريكي يتضمن التدخل في شؤون الدول المستقلة سيادتها فهو لا يتفق مع روح التعاون الدولي، وأن أي مشروع يتطلب التعاون الدولي لا يجب أن يكلف الدول التنازل عن بعض حقوقها في خدمة السلام والتعاون الدولي. هذه بإيجاز مشكلة مراقبة الطاقة الذرية - وهي مشكلة خطيرة، وهي في ظروف دولية تضع الشعوب على أهبة الاستعداد العسكري، وهي مشكلة مخيفة لعلها أهم المشاكل الدولية قاطبة. وهي الآن معروضة على الجمعية العمومية بباريس.
ترى هل تستطيع الثماني والخمسين دولة المجتمعة هناك أن تحلها؟ يقول الخبراء أن هذا مستحيل - لأن في المشكلة نقاطا فنية وعسكرية لا يحلها الجدال السياسي، وليست الجمعية العمومية إلا برلمانا دوليا محصوله السياسة والجدل القانوني. وأغلب الظن أن مشكلة الطاقة الذرية ستظل شوكة في حلق هيئة الأمم - وستعاد إلى لجنة الطاقة الذرية من جديد لعلها تقنع الدول الكبرى المتنافسة بأن تتفق على حماية نفسها من ويل هذه الذرة الجهنمية. عمر حليق سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية بنيويورك

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢