أرشيف المقالات

من قصص العصر الفاطمي:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 خاتمة حياة للأستاذ أحمد أحمد بدوي خذ يا نصر، فليس هذا بكثير عليك. قال ذلك خليفة مصر الظافر بأمر الله وهو يقدم إلى نصر بن عباس عشرين طبقا من الفضة مملوءاً كل واحد منها بعشرين ألف دينار.
فأجابه نصر: شكرا يا مولاي، إنني لم أزد على أرحتكم من وجه كنتم تبغضونه، وإن سرور مولاي هو كل ما أسعى إليه وأبغيه.
قال الخليفة: ذلك قليل يا نصر، لقد قضيت أكثر من أربع سنين وأنا احمل هذا الوزير شجي في حلقي، وقذى في عيني، ومن الغريب انه كان يسمي نفسه الملك العادل، وأي ظلم أكبر من سلب حقي واغتصاب سلطاني! هذا أول يوم أشعر فيه بمجد الملك وعظمة الخلافة، وستكون تلك الليلة تذكارا لهذا العهد الجديد السعيد. وما إن أقبل الليل حتى كان قصر الخلافة جوهرة غارقة بالنور، وجاء الندماء يمنون النفس بليلة سارة وساعات شهية، ولم تلبث جنبات القصر أن تجاوبت بأصداء الغناء، ودارت الساقيات الجميلات ببنت الكروم تلعب بالرءوس وتفعل ما تشاء بالألباب، ولما انقضى من الليل أكثره تفرق الجمع، ولكن الخليفة لم يرد أن تنقضي تلك الليلة من غير إنعام جديد على قاتل وزيره ابن السلار، فوهب نصراً مدينة قليوب، وأوصاه أن يبكر في الحضور إليه، فإنه ما كان يصبر على البعد عنه. خرج نصر فرحا بما أعطي، ولما قابل أباه عباسا (وقد صار وزيرا) أخبره بأمر هذه الهبة، فما زاد أسامة بن منقذ أحد جلساء الوزير على أن قال: (ما هي في مهرك بكثير يا نصر). وهنا أربد وجه الفتى، وغلى الدم في عروقه وأقبل يدافع عن نفسه في حماسة وقوة، حتى قال له والده: (نحن لا نصدق يا بني ما يقال، ولكن الناس يلوكون عرضك وعرض الأمير، فبالله إلا غسلت هذا العرض.
إن جمال الوجه كثيرا ما يجلب على صاحبه الأقاويل، ولقد خجلت لكثرة ما سمعت عنك وعن مولاك)
.
فخرج نصر وقد صمم على أمر. لم يبد على صلة الصديقين فتور، بل اطردت كما هي: يقضي نصر معظم وقته الخليفة، حتى إذا كان يوم اشتد فيه إقبال الظافر على نصر، قال له نصر: (لقد نلت منك يا مولاي كل أنواع التكريم؛ فهل يضيف سيدي إلى نعمه تشريفه إياي في وليمة خاصة بنا في منزلي الليلة، وسوف أفاجئ مولاي بما يلذ له من جيد الغناء، وعتيق الخمر، وأجمل النساء).
ولم يكد نصر يسمع من الخليفة ترحيبه بالدعوة وقبولها قائلا له: (ذلك هو العيش يا نصر)، حتى خرج يعد للأمر عدته. وفي الليل الساجي، والظلام الذي لا تتبين فيه شخوص السائرين، خرج الخليفة الشاب من قصره مستخفيا، لا يصاحبه غير خادمين، ولا يكاد يتميز عمن حوله من الناس، حتى إذا دخل منزل مضيفه، أنقض عليه وعلى أحد خادميه من أعدهم نصر للانقضاض، وبعد بضع دقائق كانت جثة الخليفة ملقاة في بئر هناك، ومضى نصر يخبر والده بما فعل! تنفس الصبح فشاهد الناس في البكور الوزير عباس ميمما قصر الخلافة يتبعهم ألف جندي شاهرون سلاحهم، ودخل القصر، وطال جلوسه، فاستدعى زمام القصر وقال له (إن كان لمولانا ما يشغله عنا في هذا اليوم عدنا إليه في الغد)؛ فمضى الزمام وهو يبحث عن الخليفة في كل مكان، ثم عاد ليقول لعباس: (خرج الخليفة البارحة لزيارة ولدك نصر فلم يعد! فقال عباس تكذب يا عبد السوء! لقد دبرا أخواه قتله حسدا على الخلافة، واتفقتم على هذا القول)؛ فقال الزمام: (معاذ الله!)؛ قال عباس: (فأين هما؟)؛ فخرجا إليه، فسألهما عن أخيهما، فأنكرا معرفة مكانه، فأمر غلمانه بقتلهما، فقتلا بين يديه!! وفي ليلة حزينة ثقل فيها الهم على عباس وابنه، فقد آذاهما أن يشتركا في قتل ابن مصال وزير الظافر الأول، وقتل ابن السلار وزيره الثاني، وان يقتلا الخليفة وأخويه، ثم يبحثا حولهما فيجدا السلطة التي جدا في الحصول عليها تكاد تفلت منهما وتمضي، فأقبل أحدهما على صاحبه ودار بينهما حديث: - أرأيت يا نصر: إن الأمر لم يصف لنا كما كنا نؤمل، وإن الجمهور لم يجز عليه ما أحكمناه من حيلة وتدبير! - الذنب في ذلك ذنب رجالي يا أبي، فإن خادم الظافر الذي أفلت من يدهم هو الذي أذاع سر الجريمة، وكشف ما كنا نحرص على ستره. - وهذا الشعب الذي ألفنا منه الطاعة أصبح ثائرا متمردا يسمعنا أنى سرنا أوجع الكلام وأحط أنواع السباب، ينادي بالثأر، ويهتف بالانتقام. - ليت الأمر يا أبي وقف عند الهتاف والكلام، فإن الفتنة قائمة، والأنصار الذين كنا نعتمد عليهم قد انفضوا من حولنا، وأصبحت لا أرى إلا وجوها عابسة، ونفوسا متبرمة، وجوا ينذر بعاصفة. - لقد كنت يا بني سائرا بالأمس فرأيت هاوناً ألقي علي، ولولا حظي الحسن لحطم رأسي.
وأول أمس ألقي علي ماء مغلي كاد يحرقني لولا فضل الله! - وهل جاءك نبأ طلائع بن رزيك، لقد بعث إليه الأمراء يستنجدون به ليأخذ بثأر من قتلناه.
أما أخوات الظافر فقد بعثن إليع بشعورهن في كتب سوداء، وأطلعني جاسوس لا يزال مخلصا لنا على قصيدة طويلة أرسلها إليه القاضي الجليس يحثه فيها على الانتقام، ولا أخال طلائع إلا منتهزا تلك الفرصة النادرة، وقادما إلى القاهرة ليجلس على كرسي الوزارة الذي ينتظره، ويثأر منا غن ظفر بنا. وهل ننتظر حتى يظفر بنا لابد من الهرب يا بني! - وإلى أين يا أبي؟ - إلى الشام عند نور الدين محمود، وسنطلعه على ما وصلت إليه مصر من الضعف والانحلال، ونزين له فتحها ونكون له عمالا عليها، وسوف يمهد لنا الطريق إليه الأمير أسامة بن منقذ رفيقنا في رحلتنا. حث الرسل الخطى إلى طلائع فاستشار من حوله من رجاله، وأجمعوا أمرهم بينهم على الزحف السريع إلى القاهرة، وانضم إليهم قبائل كثيرة من العرب والسودان، حتى إذا دنوا من القاهرة لبسوا جميعا ملابس سوداء ورفعوا رايات سوداء، ونشروا شعور السيدات على أطراف الرماح، وخرج أهل المدينة لاستقبال الجيش الزاحف هاتفين بالثأر من القاتلين. لم ينتظر نصر ووالده ومن معه حتى يدهمهم عدوهم في عقر دارهم، بل جمعوا ما بقي لديهم من رجال، وحملوا كل ما يملكونه من متاع ومال، ولما جن الليل فروا من القاهرة مهطعين، غير إن عيون بنات الظافر سرعان ما نقلوا خبر فرارهم إليهن، ففكرن في الأمر مليا: هل يتركن الأسير يفلت؟ وهل يدعن الانتقام ممن حرمهن الأخ الصغير والأخوين الكبيرين؟ وأهان عرش الآباء والأجداد؟ أو يكتفين بأن يذهب العدو ويدعهن أحرارا في بلادهن؟ وهل يأمن جانب هذه الأفعى وهو رأس المؤامرات وأساس الفتن والدسائس؟ إنهن لا يأمن جانبه ولا يعرفن قصده ونواياه.
ومن يدري ماذا تكون النتيجة ذا ترك حيا، فربما كان في بقائه خطر جديد يهدد الأسرة والعرش. والآن، لابد من التفكير السريع قبل أن يطير العصفور من القفص، وتفلت الفرصة من اليد.
سيهرب نصر ووالده إلى الشام وسيمران بأرض الصليبين في طريقهما، وإذا كان الصليبيون أعداء مصر فلا بأس من الاستعانة بهم في القبض على القاتل الفار؛ ولما كان المر يتطلب سرعة في التنفيذ، أرسلن رسول يثقن فيه كل الثقة، وطلبن منه أن يسابق الريح حتى يصل هدفه قبل أن يفر نصر. وجد القائد الصليبي لقلعة عسقلان فيما عرض عليه الرسول ما يغريه ليقابل بمقابلة نصر وأبيه، فالقائد مطمئن إلى الظفر والنجاح بما مع الفارين بما مع الفارين غنيمة باردة وبما وعدت بتقديمه أخوات الظافر من المال، فأصدر أمر إلى الجند بالتأهب لمقابلة الفارين.
وبينما كان نصر وعباس يمنيان النفس بكبار الآمال ابصرا جند الصليبين يحيطون بجمعهما، فلم يجدا بدا من الدفاع عن أنفسهما في معركة خاسرة، مات فيها عباس وابن له صغير، بينما حرص الجند على إن يظفروا بنصر حيا ليثابوا - كم وعدوا - بأجزل الصلات، فلما سقط في أيديهم وضعوه في قفص من جديد. الركب سائر إلى القاهرة وقلب نصر قد ملئ بما شغله من الهم، فظل قابعا في قفصه يفكر في ماضيه، ويتخيل الوزير ابن سلار وهو ينقض عليه من غير ذنب جناه، والخليفة الظافر وقد انساب إليه الرجال يغتالونه على مرأى منه وفي داره، وهاهو ذا يفقد أباه وأخاه ويقاد إلى مصير لا شك في قسوته وشدته. لقد جاءت رسل من القاهرة تتعجل قدومه فأنبأته بأن جثة الخليفة أخرجت من بئر في بيته، وأن طلائع بن رزيك وضعها في تابوت سائر خلفه حافيا حاسر الرأس، وتبعة الأمراء والقادة والشعب حفاة حاسري الرأس، وأن الجميع في انتظار نصر على أحر من الجمر. كل ذلك وأسير القفص لا ينبس ببنت شفة طول الطريق، حتى إذا أشرف على القاهرة وبدت لعينيه أبوابها الضخمة ومآذنها العالية تنهد وقال: بلى، نحن كنا أهلها، فأبادنا ...
صروف الليالي والجدود العواثر ومرت برأسه ذكريات مجده القريب، وذكر المواكب التي كان يختال فيها على جواده، تعقد عليه الآمال، وتستعظمه العيون والنفوس، أما اليوم، فها هو ذا يدخل القاهرة مقيدا مغلولا، وما أن لمحه الجمهور حتى هاجت المدينة وماجت كل يريد أن يراه في قفصه الحديد، ولم يدع الشعب إهانة ولا سخرية لم يلحقها بنصر ووالد نصر.
أما أخوات الظافر فما كدن يسمعن بقدومه حتى أرسلن يستعجلن حضوره، وقد سمح لهن طلائع أن يفعلن به ما يشفي غليلهن، وكم حزن عندما علمن أن الموت حال بينهن وبين الانتقام من عباس! لم تستقبل أخوات الظافر نصرا إلا بالأخفاف والقباقيب، حتى إذا تعبن من ضربه وأدمين وجهه وجسمه ورأسه، أرسلن إلى أحد الأطباء، فصلم أذنيه، وجدع أنفه، وأخذت هذه الأشياء فطهيت، وأجبر نصر على أكلها، ثم وضع في قفصه الحديدي، وطيف به في القاهرة لم يترك شارع ولا حارة ولا درب إلا شهد الأصلم الأجدع واشترك في إهانته والسخرية منه، فإذا تم طوافه بالقاهرة أخذ حيا وعلق على باب زويلة، وظل هناك عدة أشهر حتى مل الناس رؤيته، فانزل وأحرقت جثته وذريت في الهواء. أحمد أحمد بدوي مدرس بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢