أرشيف المقالات

رحلة في ديار الشام في القرن الثامن عشر (الثاني

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 عشر الهجري) (الحلة الذهبية في الرحلة الحلبية) لمصطفى البكري الصديقي للأستاذ أحمد سامح الخالدي كان الداعي إلى هذه الرحلة، رغبة الشيخ مصطفى البكري في زيارة بغداد فيقول في مقدمة رحلته (كان كثيراً ما يختلج في بالي، فيهيج أشواقي وبلبالي، زيارة بغداد ورجالها الموالي.
فأصد عن الشرب من نهر دجلتها وقربانه، والغرام يزيد إلى علم الشرق الفريد وصاحب المذهب المذّهب السعيد والكاظم وولده الوحيد، السامي كل منهم على أقرانه، وغيرهم من أعيان، أرباب عيان) الخ.
.
ويخص من الأعيان سلطان الأولياء سيدي عبد القادر الجيلاني، وكان قد انتسب إلى طريقته وتراءى له في المنام فعزم على التوجه إلى حلب ومنها إلى بغداد، ولكن زوج والدته منعه من ذلك مخافة الحر، وخشي تعرض العربان له بسوء.
فعدل عن زيارتها، ورأى أن يتوجه من حلب إلى زيارة مقام سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم في جبلة ومنها إلى طرابلس الشام فبيروت فبيت المقدس.
وكان رفيقه في الطريق السيد مصطفى بن عبد الرحمن المنيني وأخاه لامه أحمد. وقبل ما تحرك خاطر الشيخ، لتلك المنازل العواطر، سأل الشيخ أحمد، فكاشفه قبل الاستشارة وصرح وما اعتنى بالإشارة.
وجاءه في هذه الأثناء الأخ الشيخ مصطفى بن عمر الخلوتي وطلب للولد القلبي إسماعيل الحرستاني بالدعوة والإرشاد، ولبس الكسوة على المعتاد، فأذن له. ثم كرر الشيخ الاستخارة في السير، موقع الإذن بالمسير يوم الجمعة لعشرين خلت من شهر رجب سنة (112هـ - 1715م) فتوجه وبات في قرية (القصير) ورافقه بعض الإخوان مودعين ثم سار إلى أن وصل (القُطيفة) ومنها إلى (قارة) ومنها إلى (النَبْك) المشتية أهلها فيها والمصيفة، ثم إلى (حسية) ومكث يومينومنها إلى حِمْص وهو بلد يذكر ويؤنث.
وأقام في جامعها الكبير، وزار من بعيد مقام خالد بن الوليد، مات بحمص س إحدى وعشرين (641م). ويقول الشيخ (ولم يعشم لنا نصيب، بدخول مدينة حمص العجيب، تكويناً ومزدرعاً وأمواهاً، لأن الخراب عمها حتى فيها ظهورها تناهي، وكان أكثر خرابها من الموالي الذين منوالاهم لم يوال الموالي، على أن فيها من المزارات السادات الكثير ويغلب على أهلها البلاهة والتغفل مع الجد والتشمير، ولقد دخلت جامعها الكبير فرأيته آيل إلى التعمير، فصليت فيه الظهر والعصر، بنفر غير كبير). وفارق حمص في الصباح، ولم يسر غير قليل حتى بزغت الشمس وإذا بخيول كأنها سيل يسيل من عرب يفسدون في الأرض دون إصلاح، لا يعرفون صلاحاً ولا سلاحاً حتى في صلاح، يرون نهب أموال الخلق مغنماً، وسلامة الخطار من شرهم مغرماً، فأنعمت القافلة كالحرف المشدد، وانحازت المقاتلة إلى جهتهم بالرأي المشدد، فصرف الحق قلوبهم وفَلوا وبعد الكثرة والاجتماع تفرقوا وفلوا وشم الشيخ قرب انصرافهم رائحة قرنفل فقال (قُرِن فلُّ ربِهم) فولوا، ولم يحصلوا على ما أملوا، وأصابهم من الله ضيراً، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراُ، وعند قرب جسر الدستن كرف ورداً، فقال الشيخ وراد فإذا قافلة تكد كداً). وفي قرية الرستن مرقد الإمام أبي يزيد طيفور بن عيسى السطاوي، والمذكور له مشيخة على الشيخ، فقرأ له الفاتحة.
وقرب العصر وصل حماة، ونزل في جامع مطل على العاصي.
وسأل الشيخ من أهل البلد عن سبب خراب ديرتها، فقالوا له قبيلة العرب الموالي التي تنفر الطباع من سيرتها.
وقد أشجاه صوت نواعيرها السامي، وأبكاه سراً إذ أنكاه جهراً تذكار مربع مربع وطنه الشامي، غير أن نواعيره صغيرة، وهذه كثيرة كبيرة، وأنشد بيت الصلاح الصفدي: أبدى لنا الدولاب قولا معجباً ...
لما رآنا قادمين إليه إني من العجب العجيب كما ترى ...
قلبي معي وأنا أدور عليه قال في القاموس: العاصي العرق لا يرقأ ونهر حماه واسمه الميماس والمقلوب، لقب به لعصيانه فإنه لا يسقى إلا بالنواعير. وسار إلى المحطة ونزل على العاصي، قرب ناعورة تسقي مروجاً أنيقة فتنبت النبات الحسن النهج والطريقة، وفي الصباح سار يقطع البطاح، ويوصل الليل بالنهار من السهاد، وكان قد وصل إليه كتاب من بعض الأحباب، صدره ب: يا نسيماً هب من وادي قبا ...
خبرينا كيف حال الغربا كم سألنا الدهر أن يجمعنا ...
مثل ما كنا عليه فأبى وتوجه نحو (المعرة)، وهي على مرحلتين من حلب فبات بها، ثم سار إلى قرية (سرمين) المحتوية على الألوف لا المئيين، ونزل في جامعها الحصين وسار ليلا قاصداً حلب وشهباء، وأصابه عطش لقيظ وحر، حتى وصل سبيل المرأة المرحومة، فشرب وشربت القافلة، وكان معه أخوه لامه أحمد فسبقه معلماً والده الحاج إبراهيم الطويل، فأخذه إلى بيته في القلعة، وكانت تصعب عليه الطلعة، وبعد ثلاثة أيام نزل إلى خلوة في العادلية.
وكان الوصول إلى حلب في أوائل شعبان المبارك. وبعد أيام جاءه رفيق السفر السيد مصطفى المنيني يرجوه بإلحاح أن يمدح مفتي الديار الحلبية أبي السعود الكواكبي.
فتردد الشيخ مراراً من الظهور ولكنه نزل على إصرار رفيقه فقال: سماء الدنيا قد زينت بالكواكب ...
كما زينت الغبرا ببيت الكواكبي أناس لهم في ذروة المجد منزل ...
يجل ويعلو فوق كل المراتب الخ. وقد سر بها المفتي، ودعا الشيخ إلى داره ولما استقر به المقام جاءه عمر أفندي النقيب وسأل عنه، وعن ابن عم الشيخ، وسبب تغير مزاجه، وكان قد اجتمع به لما أتى مع أعيان الشام لملاقاة الشيخ مراد، فأجابه أن هذا الأمر أخبر عنه الشيخ عبد الغني النابلسي.
ثم استفسر عن قضية الدراهم التي طلبت منه بعزمان، فلخص له القصة وأنها كانت زوراً وبهتاناً، ومن جملة الشهود على أنها باطلة الشيخ عبد الغني، وأعيان الشام وقد أعلم الشيخ المذكور الوزير بالقضية في مكتوب كبير فجاء العفو، وقبول شهادته.
ولم يجتمع الشيخ البكري بالمفتي إلا في العيد بعد الصيام، وكان يتردد وهو في حلب على تكية الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، وليس في خارج حلب أنزه من تكيته وأعجب، ولذا قيل فيها صالحية حلب واصطحب معه شيخ التكية، الشيخ على، وتردد عليه مراراً، وتمرض هو والدادة علي، وعوفي المذكور وتوفي الدادة.
وطلب الشيخ مصطفى المنيني رفيقه في الطريق الرجوع، فكتب الشيخ كتاباً إلى الشيخ إسماعيل الحرستاني وطلب منه أنه يسلم له على الحاج إبراهيم الدكاني ويستدعيه فلما حضر، أذن للشيخ مصطفى بالسفر. وممن زاره في حلب الحاج على الكارجي (وطلب منه الخوة، ورجا الذكر يوم الفتوة) فأنا له مأموله، واستصحبه معه إلى (الحلوية) وحضر ذكر السيد محمد، خليفة الشيخ قاسم الخاني وكان المنشد الشيخ حسن، وكان ينشد أبيات سيدي أحمد ابن عبد الله الإسكندري ولما وصل إلى قوله: أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ...
ولو لم يكن ذنب لما حسن العفو فبكى وأبكى الحاضرين.
وكان الشيخ يتردد على هذا المجلس لالتماس البركة مستعملا الذكر القلبي الخالي عن الحركة ويقول عن أهل حلب والعهدة عليه (ورأيت في هذه الكرة أن أهل حلب عندهم رقة وخلاعة بالمرة، وأنهم أخلع من أهل الشام للعذار وأشجع في تناول أقداح الغرام لوجد ثار، وأهل الشام أجلد في السير وأخلد في طلب المير لأرض الخير، فإني كنت أراهم عند سماع الأشعار المديحية في رمضان يبكون ولدى قراءة القرآن لهم خشوع وسكون). ولما سمع زوج والدته الحاج إبراهيم الطويل بنية الشيخ زيارة بغداد منعه وأقسم عليه، خوفاً من الحر ومن شر العربان.
فعزم على زيارة سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم.
فتوجه في منتصف شوال إلى تلك المحال، وسار إلى قرية (كفتيين) وهي من قرى طرابلس الشام، وهم ليسوا من أهل السنة، ينتظرون نزولالحاكم بأمر الله، ووصل (جبلة) وزار مقام إبراهيم بن أدهم وأقام هناك ذكراً. وسار في اليوم الخامس والعشرين من رجب ومر على طرسوس، ورأى قلعة ارواد، وجاء الرفاق منها بزاد، وشاهد قلعة المرقب المنيعة، وبات قريباً من البلد في مكان نزيه يقال له بركة البداوي.
وقدم إليه الشيخ مصطفى القلا ونزل مدرسة الحدادين ثم خلوة الجسر المكين، ثم القادرية البهية، واختلى بها عشر ذي الحجة.
وكان الشيخ عبد الله الخليلي المهتدي يتردد عليه، ومدرسة الحدادين قريبة من دار السيد مصطفى القلا، وانضم إليهم الحاج محمد بن الحاج موسى العطار، ثم الشيخ مصطفى الرفاعي ودعاه لداره، وطلب الطريق وتبعه الشيخ عامر الصعيدي، وكانا لا ينفكان عن قرائه الأوراد الأول في تكيته، والثاني في (المنية) في مسجده عند جماعته. وكان جناب الصديق السيد محمد التافلاتي نجل مولاي أحمد وهو ابن عم مولاي إسماعيل ملك المغرب، ينتهي نسبهم إلى سيدي عبد الله المحض، قد ورد إلى طرابلس من بيت المقدس، ولم يكن الشيخ قد اجتمع به قبل ذلك، فأرسل يطلب الاجتماع بالشيخ فسر به ولكنه لم يطل الإقامة، وكرر الزيارة.
وذهب الشيخ بعد ذلك إلى قرية (المنية) لزيارة مقام النبي يوشع، وقرائه الأوراد، واصطحب معه زمرة من أفاضلها كالسيد علي ابن دبوس، وأخيه السيد محمد والسيد أحمد المفتي، ومن بيت السيري، الشيخ أبي حامد العمري، ومن أولاد السيرمي الشيخ عمر. وأكثر الشيخ التافلاتي التردد على الشيخ، وكذلك الشيخ عبد الله، وتردد الشيخ عليه في المدرسة التي نزل منها في سوق الحدادين، وتوجه للمنية غير مرة وبات لدى الشيخ عامر الصعيدي.
وورد عليه كتاب من الشيخ أحمد الميقاتي بالقدس، يبلغه حلول دار السلامة بسلامة، وضمنه سؤال طويل، عن بيت لسيدي عمر الفارض الذي يقول في مطلعه: (أروم وقد طال المدى، منك نظرة) فأجابه برسالة سماها (رفع السير والردا عن معنى قول العارف أروم وقد طال المدى).
ثم كروا على زيارة يوشع بن نون، للوداع، وصحب كل واحد منهم زاد قناق، وجاء السيد محمد بن أحمد التافلاتي بصحن كبير من المغربية ما لها نظير فأكلوا بعد الشبع.
وبعد العشاء أقاموا مجلس ذكر وكان الحادي الأخ إبراهيم الحرستاني، وغيره ممن صحب الشيخ في سيره الرباني. وفي أول جمادى الثاني عزم الشيخ على التوجه للقدس، ولم ينثلج صدره إلا للتوجه في البر دون البحر، فبات ليلة الوداع عنده الشيخ مصطفى بن الشيخ سليمان الرفاعي، والسيد مصطفى القلا، والشيخ عبد الله وجماعته، وكانوا قد تجمعوا فوق الثلاثين، وتوجه الشيخ إلى بيروت وقطع نهر الديمور.
ونزل في جامعها الكبير المعمور، ودعاه الشيخ مصطفى الحجيجي الشامي ومر بعد الظهر بصيداً، وقطع جسر نهر الكلب ليلا، أقام فيها خمسة عشر يوماً ينتظر السير براً فما تيسر إلا بحراً، فركب منها ضحوة وضل قبيل الغروب عكا، ونزل في جامع البحر، واجتمع فيها بصديقه القديم الشيخ أحمد، وسار بعد العشاء مع القافلة نحو جينين وقطع نهري النعائم والمقطع ثم أتى جينين وبات فيها ليلتين عند الحاج عبد الرحمن وفي صبيحة الليلة الثانية سار إلى نابلس، وبات عند أولاد سيدي يعقوب، وفيما هو هناك وفد عليه السيد محمد السلفيتي بغير اتفاق فسر به.
وقرأ له الموشح الأول الذي نظمه ومطلعه: إن رمتموا تشربوا الحميا ...
وتستقوا من دنان ريا والميت يغدو بالقرب حيا ...
وفي حبيب الحشا تباهوا فشنفوا سمعي وقولوا ...
الله الله الله يا هو والموشح الثاني ومطلعه: بارق القرب حين لاح لعيني ...
غبت عني وزال عني أيني وانمحت ظلمتي بذاك وغيني ...
وشهدت الحبيب في المحراب وقد بكى السلفيتي عند سماعهما.
وارتأى عليه المنام عند المحب الشيخ خليل الحارثي خليفة الشيخ محمد المزطاري، فبات في خلوته التي في المارستان ليلتين، وبعد الشمس سار إلى قرية (حجة)، فتلقاه أهلها بالترحاب، ونزل في الخلوة المرفوعة، وبات ليلتين، وتوجه عشية النهار إلى (دير أسطيا)، ورأى مجذوبها الشيخ خاطر في بعض القرايا خاطر.
وكان الشيخ وهو في نابلس أرسل للإخوان في القدس، خبر قدومه على الديار ليأهبوا له محلا للنزول، وبعد صلاة المغرب سمع عن بعد صهيل خيل، ورأى عجاجة، فسأل فقيل إخوان صفا من سكان القدس، وكانوا السيد أحمد الموقت ونور الدين الهواري ومعه جمع من الإخوان فسر بهم كثيراً.
واقترح بعضهم زيارة سيدي علي ابن عليل، فوافقوا وكدوا السير إلى (كفر ثلث) واجتمع الشيخ فيها، بالشيخ علي الرابي، ووصل المقام بعد أن دخل الغابة ليلا خوفاً من الطير وجاءه هناك الشيخ رضوان الزاوي ومعه كبكبة من أهل الود، فبات ليلة طيبة، وسار على طريق الطواحين وأقال لشدة الحروبات في (الزاوية) عند رضوان، ودعاه إلى (مسحا) الشيخ طه، ومنها إلى (بديا) ثم (سرطا) فتلقاه بها مصلح بن صلاح الدين وزار الولي المشهور فيها الشيخ عبد الله.
ثم أتى (كفر عين) ونزل عند مقام العيص، وفي أواخر جمادى الثاني دخل بيت المقدس ونزل في الخلوة البيرمية الفوقانية.
وتردد على دار الشيخ نور الدين الهواري.
وفي أوائل شعبان وصل جناب الشيخ محمد الخليلي وصحبته، الشيخ إسماعيل ين جابر بن رجب النبيل بن أحمد البغدادي، وكان أرسل للشيخ محمد من حلب كتاباً صدره بقصيدة يعارض فيها قصيدة شيخه، الشيخ عبد الغني النابلسي: صرفنا عنان العزم عن غيرها صرفاً ...
وقمنا إليها نحتسي خمرها صرفاً كما أرسل له من طرابلس الشام ثلاثة كتب ضمنها أكثر من قصيدة.
وانتقل في أول رمضان من البيرمية إلى خلوة جار الله. (البقية في العدد لقادم) أحمد سامح الخالدي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣