أرشيف المقالات

القَصصُ

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 أقصوصة روسية: تحفة يتيمة! للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف بقلم الأديب كمال الدين الحجازي وصل (ساشا سمير نوف) إلى عيادة الطبيب (كوشلكلوف) يحمل تحت إبطيه شيئاً ملفوفاً. كان ساشا وحيد أمه فسأله الطبيب: كيف حالك يا ولدي؟ فأجاب شكراً أيها الطبيب، إن أمي ليعجز لسانها عن شكرك على حسن صنيعك بشفاء ولدها! فقال الطبيب: إنني لم أعمل سوى ما يفرضه الواجب على كل طبيب.
فقال الولد: إن أمي فقيرة أيها الطبيب الفاضل ولا تملك سوى هذه التحفة الثمينة التي أحملها بين يدَّي والتي أرجوا أن تتقبلها.
فقال الطبيب: لا داعي لذلك ولا ضرورة له.
ولكن ساشا أصرَّ على تقديم الهدية إليه وألح عليه بقبولها، وقال إن رفض الهدية يعد إهانة له وتصغيراً من شأنه ومن شأن أبيه الذي أورته ذلك الأثر الفني والذي هو بمثابة تذكار منه، فقد اعتاد أبوه أن يشتري الآثار البرنزية ويبيعها من عشاق الآثار القديمة.
ثم وضع الأثر على المنضدة. كان الأثر شمعداناً من البرنز، جلس على قاعدته تمثالان كالمرأتين عاريتين على هيئة حواء، يستحي المرء من وصفهما، كان هذان التمثالان يبتسمان ويميل أحدهما على الآخر بدلال كأنه يقبله ويتأهبان للرقص! ولما أنعم الطبيب النظر في الهدية حك رأسه وقال: لا ريب أها تحفة فنية ولكنها.

لست أدري ما أقوله، فالشيطان يوسوس في صدور الناس! وهل من اللائق أن أضع هذا التمثال الملوث على المنضدة؟ فقال ساشا غاضباً: ولم لا يا دكتور؟ إنك تحمل على الفن حملة شديدة.
إن هذا عمل فني خالد.
إن الروحانية تتمثل فيه بأجمل صورها.
ولا ريب أن الناظر إليه سينسى كل ما يحيط به من الأمور المادية ويتطلع إلى المثل العليا! دقق النظر فيه تجد الجمال والروحانية تدعوانك إليهما! فقال الطبيب: إنه أثر خالد يا ولدي، ولكنك تعلم أنني متزوج، وأعتقد أن من غير اللائق أن أضعه في هذه الغرفة التي يغشاها كثير من النساء والأولاد دائماً.
فقال ساشا: أنك تنظر إلى التمثال نظرة الشك والريبة وتتطلع إليه بأعين السوقة وعامة الناس، ويجب أن تسمو عن ذلك يا دكتور.
إنه الأثر الوحيد الذي أورثنه أبي وقد آليت لأهدينه إليك، فقد شفيتني من المرض.
فقال الطبيب، وقد أراد التخلص من هذه الورطة، لا بأس يا ولدي، ضعه على المنضدة.
وضع ساشا الشمعدان كما أشار وقال للطبيب: آسف إذ لم أجد رفيقه ولكني سأجد في البحث عنه، ولم يدر الطبيب ما يقصده ساشا من رفيقه أو شريكه، ثم ودعه وخرج. أراد الطبيب التخلص من هذا التمثال ونظر إليه ملياً، فخطر بباله أن يهديه إلى صديقه المحامي الذي كان مديناً له ببعض النقود وقال في نفسه: إنها فكرة حسنة، سأقدم إليه هذ التحفة وهو رجل أعزب كالطير الطليق.
سار الطبيب إلى مكتب صديقه المحامي، وبعد أن شكره على حسن دفاعه عنه وخدماته السابقة له، رجا منه أن يتقبل منه هدية متواضعة وهي تمثال البرونز النفيس.
وما إن وقع نظر المحامي عليه حتى أعجب بجماله ولكنه بعد أن أدمن النظر فيه قال: أعتذر يا صديقي من قبوله، فإن أمي تزورني دائماً، كما أن مكتبي يؤمه كثير من الناس كل يوم! فقال الطبيب: لا تقل ذلك يا صديقي، إن مع نكران الجميل أن ترفض مثل هذا الأثر الفني.
فقال المحامي متهكما: (حبذا لو كانت السيقان مصقولة أو مغطاة ببعض ورق التين على الأقل) ولكن الطبيب لم يأبه له واغتنم فرصة انشغاله ببعض شأنه ووضعه على مكتبه وانصرف. تأمل المحامي في هذا الأثر وهم يقذفه من نافذته ولكن يده لم تطاوعه فقد كان الأثر جميلا، وقال في نفسه: ليس لي إلا أن أقدمه هدية إلى الممثل الفكاهي (شوشكين) فإن الممثلين يحبون مثل هذه الأشياء الفنية البديعة. ولما قدم الأثر إلى شوشكين أعبج به أيما إعجاب، كما أعجب به كثير من الناس الذين رأوه، وقد غصت غرفته بالمتفرجين والممثلين الذين كانوا يأتون إليه في أي وقت يشاءون.
ولما رأى شوشكين هذا العدد الغفير من الناس لم يجد بداً من التخلص من هذا الأثر الذي جلب إليه كثيراً من التعب والشقاء، وتمنى لو كان التمثال صغيراً ليتمكن من وضعه في درج مكتبه، ففكر في بيعه لإحدى النساء المولعات بمثل تلك التحف الفنية، ولم يلبث أن باعه لها. وبعد يومين بينما كان الطبيب كوشلكوف جالساً في عيادته، فتح الباب فجأة ودخله ساشا وهو يحمل شيئاً ملفوفاً بين يديه، والابتسامة تداعب شفتيه وقال للطبيب: إنك لا تستطيع أن تتصور مقدار سروري وابتهاجي، فقد استطعت بعد جهد جهيد أن أحصل على رفيق التمثال وشريكه، وأن والدتي تشاركني الفرح أيضاً، ثم وضع ساشا الشمعدان على الطاولة فرحاً مسروراً وخرج. نظر الطبيب إلى التمثال وقال في نفسه: (ترى هل شعر ساشا بأن تمثال حواء الذي أهداني إياه قبلا كان ينقصه تمثال آخر لن تستطيع حواء أن تعيش بدونه، فأحضر لها تمثال آدم!!. (القدس) جمال الدين الحجازي الندوة الأدبية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢