أرشيف المقالات

على نفسها جنت براقش

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ نقولا الحداد صرنا في هذه الأيام نسمع قول بعض الساسة أنه إذا لم ينفذ تقسيم فلسطين فهيئة الأمم تفقد هيبتها.
أجل تفقد هيبتها من غير شك.
ومشروع التقسيم لن ينفذ على الإطلاق، وهيئة الأمم ستفقد هيبتها حتماً؛ ويكون موتها فجأة لا كموت جمعية الأمم المرحومة، لأن هذه كانت مريضة بالسل وهيئتنا مريضة بالذبحة الصدرية.
فبنوبة اخرى تقضي نحبها. من الملوم على هذا المصير الفادح؟ هيئة الأمم نفسها ملومة.
وعلى نفسها جنت براقش. لأنها لم تكن محكمة للقضاء العادل كما كنا نظن، بل ظهر لنا أنها كمحكمة صلح، لا تقضي بين محكمتين بل تحاول مصالحة العرب واليهود مصالحة قهرية.
ولكنها مصالحة مستحيلة، لأنه ما من أحد في الدنيا يصالحك على بيته وأنت تحتله عنوة وتعمد إلى اقتسام شطر منه وليس لك فيه حق لا أولاً ولا آخراً. أجل لم تكن هيئة الأمم محكمة قضاء ولا محكمة صلح؛ بل كانت سوقاً للمساومة على المصالح الشخصية على حساب صاحبها.
فالإنصاف لا يمكن أن يكون رائدها بتاتاً.
بل كانت ساحة مناوأة بين الدول ذوات المصالح التي كانت تتذرع بالمسألة الفلسطينية إلى اقتناص أغراض اقتصادية واستراتيجية ونحوها. وقد رأينا في عرض قضية فلسطين في هيئة الأمم كيف كانت هذه الأغراض تتبارى بلؤم ودناءة.
فلكي يرقى شخص واحد لا عبقرية له إلى كرسي الرئاسة يستغيث باليهود القابضين على زمام الدعاية.
وقد ساعده مركزه الوقتي في كرسي الرئاسة على أن يضغط على بعض الدول الصغيرة بالوعود والوعيد لكي يصوتوا مع التقسيم، فأطاعوا كما يطيع صبيان المدارس.
ولما كسب مشروع التقسيم الأكثرية ظن الصهيونيون أنهم امتلكوا نصف فلسطين وأنهم سيمتلكونها كلها ثم يمتلكون جميع البلاد العربية من النيل إلى الفرات.
فصاروا يرقصون في الشوارع.
ولكن ما لبث هذا الرقص أن تحول إلى مناحات. والغريب العجيب المدهش أن اليهود والذين انحازوا إلى جانبهم لم يفكروا في كيفية تنفيذ هذا المشروع السخيف بل ظنوا أنهم بمجرد صدوره يصبح العرب أمام أمر واقع وأ العرب يسلمون حالاً ويخنعون.
وما عتموا إن رأوا أن دون التنفيذ خرط القتاد.
وأن الأمر الواقع هو العكس. تطاولوا على العرب كما تطاولوا على الإنجليز.
ولكنهم ما لبثوا أن رأوا أن العرب لا يستخذون لهم كما يستخذي الإنجليز بل كالوا لهم الصاع صاعين.
فزعوا وجعلوا يستغيثون بالقوة الإنجليزية لكي تحميهم من العرب. أين السبعون ألف هاجانة الذين طلبوا للعالم بهم؟ لم يظهر من السبعين ألفاً سبعون صعلوكاً.
وأخيراً اعترفوا في الأسبوع الماضي أن عندهم ثلاثة آلاف وخمس مئة، وسيجندون عشرة آلاف آخرين ثم 15 ألفاً! هذا ما يدعونه الآن وهم كاذبون. وهكذا على الرغم من انفضاح كذبهم ما زالوا يخدعون العالم بقوتهم الوهمية وبضعف العرب الذي يزعمونه.
فلماذا إذن يستغيثون بهيئة الأمم وبمجلس الأمن وبأمريكا كلها لكي ترسل لهم قوة بوليسية لكي تنفذ التقسيم؟ وما هي وظيفة الهاجاناه إذن؟ ولكن ليس لمجلي الأمن بوليس دولي ليقوم بدور التنفيذ.
وما من أميركي أو غير أميركي يبعث إلى فلسطين لكي يوطد دولة يهودية وما من أحد ممن صوتوا لقرار التقسيم يتجاسر أن يطلب من دولته أن تساهم بقوة عسكرية لتنفيذ التقسيم بل أن كلا منهم يقول: لقد أعطيناكم أصواتنا , أفلا تكفي؟ والآن تطلبون جنودنا أيضاً! ما هو فضلكم على البشرية؟ حكمنا لكم بنصف فلسطين.
فخذوه إن كنتم قادرين. إني أراهن على أن مجلس الأمن لا يستطيع أن يحصل على جندي واحد لكي يرسله إلى فلسطين لأجل زرقة عيون الصهيونيين وشقرة وجوههم وصفرة شعورهم.
كما إني أراهن على أن لجنة الدول الخمس لن تأتي إلى فلسطين لكي تنفذ التقسيم.
لأنه ما من أحد منهم بائع دمه جزافاً لأجل خاطر كوهين وليفي وشارول وإضرابهم. إن الصهيونيين الماكرين خدعوا ترومان وأمثاله من أنصار التقسيم بأكاذيبهم في جرائدهم ودعاياتهم لكي يوهموا أن عندهم سبعين ألفاً من الهاجانة وكذا ألوفاً من الإرهابيين مدججين بالسلاح الحديث، وأن العرب تنقصهم الشجاعة والسلاح والإنفاق فلا يمكن قرار التقسيم حتى يخروا ساجدين مستسلمين للأمر الواقع. طالما طلبوا وزمروا بهذه الدعاية حتى تجاوبت أصداؤها في أقاصي الدنيا، وصدقهم سذج الأمير كان وعلى رأس قائمة الساذجين السيد ترومان فانحازوا إلى جانبهم.
وقبل أن يجيء دور التنفيذ رآهم أولئك المنخدعون يستغيثون طالبين النجدة. في أثناء كتابة هذه العجالة ينعقد مجلس الأمن للنظر في القضية.
ولا يلبث أن يقع في حيص بيص لا يدري ماذا يفعل فيها لأنه يدرك أن التنفيذ لا يمكن إلا بإرسال قوة عسكرية.
وهو ليس عنده من القوة ظلها.
وزد على هذا أن الخواجة ترومان هرب إلى جزر الكاريبي لكيلا يمشي في جنازة المشروع ولا يرى النائحين اللاطمين وقد أدرك بعضهم هذه الخيبة فرأى أن يتداركها باقتراح تأجيل القضية عسى أن تمكن تسوية الأمر بين العرب واليهود بطريقة ودية.
رأي سخيف مضحك.
ما أسخف منه إلا رسالة ترومان إلى حكومة العراق يناشدها بأن ترد العرب عن اليهود في هذا الصراع الرهيب. فما أدرك هذا المخدوع أن اتفاق اللصوص معه على سرقة منزله أسهل جداً وأمكن من اتفاق العرب واليهود.
أفما علم حتى الآن أن العراق وكل دولة عربية تحسب نفسها ضلعاً من فلسطين. ليست هيئة الأمم ومجلس الأمن والحكومة الأميركية أقل حيرة في هذه القضية وأقل ارتباكاً من الصهيونيين الذين رأوا أنفسهم الآن أمام أمر واقع عكس ما كانوا يتوقعونه.
لم يخدعوا العالم بأكاذيبهم وتهويلهم أكثر مما خدعوا أنفسهم.
هم الآن في ورطة لا يدرون كيف يخرجون منها. لقد عرضوا في أول الأمر على بريطانيا أن تحسب دولتهم من جملة الدومنيون التابعة لها، يعني أن تجعلهم تحت حمايتها.
فظهر أن إنكلترا لم تطمئن لمعاملة اليهود فنفرت من اقتراحهم هذا.
ثم جعلوا يتقربون إلى روسيا.
ولكن هذه السياسة الخرقاء لا تجوز على بريطانيا وأميركا ولا على روسيا. لم يبق في قوس الصبر منزع.
لقد جنت على نفسها براقش وقد وقعت الحرب بين العرب والصهيونيين فلم يعد في وسع هيئة الأمم ولا مجلس الأمن ولا أميركا ولا دول أوروبا الصغيرة أن تنقذهم من براثن العرب الأشاوس. مهما تكن نتائج مساعيهم ومساعي أحبابهم فقد استل السيف من غمده ولا يمكن أن يغمد في غمده ثانية إلا بأحد أمرين: إما أن يقاتلوا حتى يفنوا ويبقى العرب أهل بلادهم ولا شركاء لهم فيها، أو أن يرجعوا قانعين بالسلامة. وأما أن يقترحوا اقتراحات متوسطة أو أن يأملوا أن يكونوا وطنيين في الحكومة العربية المستقلة ذات السيادة فلم يعد العرب يقبلون اقتراحات كهذه.
لقد خسروا القضية فخير لهم أن يرحلوا.
وأن قبلت الحكومة الفلسطينية بقاءهم فلا يعتبرون فلسطينيين لهم ما للشعب الفلسطيني بل يعتبرون غرباء عن البلاد. كل يوم تذيعون أن مالاً يجمع لكم من أميركا فمهما وفر هذا المال المزعوم المكذوب فلا يكفيكم لأن الألف التي تكفي المجاهدين العرب تحتاجون مقابلها إلى مليون، فلا تهولوا بملايينكم. أنتم في الشرق لا تبلغون مليوناً.
والعرب يبلغون الثلاثين مليوناً على الأقل.
فقبل أن يفنى من العرب ألف يكون مليونكم قد فنى.
فعودوا إلى رشدكم وارحلوا قبل أن تفنوا. نقولا الحداد

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢