أرشيف المقالات

القتل في الشرائع

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 لحضرة صاحب العزة الأستاذ علي بك حلمي مدير البحيرة قتل النفس بغير حق جريمة من أقسى الجرائم وأشدها إخلالاً بالأمن العام.
فهي تقضي على حياة الإنسان فتسلبه صفة الوجود دون رحمة ولا شفقة.
وكثيراً ما تعتمد على الغدر والخيانة، فلا يجد المجني عليه فرصة للدفاع عن نفسه والذود على وجوده. وقد نشأت هذه الجريمة منذ وجدت الجماعة وحدث بين أفرادها تعارض الرغبات والشهوات.
وورد ذكرها في جميع الشرائع والديانات القديمة، ونص فيها على عقوبة مقترفيها بجزاء يختلف شدة وضعفاً باختلاف درجة الجماعة من رقي واضمحلال. القتل قبل الشرائع: لم يكن لجريمة القتل جزاء محدود ولا تشريع مرسوم.
ولقد حدثنا القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة المائدة: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) عن أول جريمة وقعت من الإنسان على أخيه، وعن أول تشريع جنائي لهذه الجريمة.
وروي عن النبي ﷺ أن قال: (ليس من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل) القتل في التوراة: فرقت التوراة بين الأحوال المختلفة لجريمة القتل وبين العمد منها وغير العمد، ورسمت لكل نوع عقوبة خاصة تتناسب مع درجتها في الإجرام.
ومن نصوصها: (من ضرب إنساناً فمات فليقتل قتلاً؛ فإن لم يتعمد قتله بل أوقعه الله في يده فسأجعل له موضعاً يهرب منه.
وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالاً؛ فمن قدام مذبحه يأخذه ليقتل.
ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً.
وإذا تخاصم رجلان فضرب أحدهما الآخر بحجر أو تكلم ولم يقتل بل سقط في الفراش؛ فإن قام وتمشى خارجاً على عكازه يكون الضارب بريئاً إلى أن يعوضه عطلته، وينفق على شفائه.
وإن حصلت أذية تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكياً بكي وجرحاً بجرح ورضاً برض)
. ومن هذه النصوص يظهر للباحث أن شريعة اليهود تنص على القصاص في كل الحالات دون ذكر العفو عن أية حالة منها. القتل في الإنجيل: جاء في إنجيل متي: (سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر؛ بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر، ومن رأى أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين) وبمقارنة هذه النصوص مع نصوص التوراة نجد أن الأولى تقرر العفو دون القصاص مما حدا ببعض الناس إلى القول بأن الإنجيل لا يجعل القتل من شرائعه - وقال آخرون إن الذي لم يذكره الإنجيل إنما هو القود؛ إذ أن الدية كانت واجبة في جريمة القتل العمد، وأنكر ذلك الشخ الإمام محمد عبده في رواية عن السيد رشيد رضا.
ويتفرع عن هذا البحث آراء كثيرة لا يتسع الموضوع لذكرها الآن؛ غير أننا نلاحظ فارقاًَ بيننا في تقرير عقوبة القتل في كلا التشريعين السابقين - فبينما نرى التوراة تميل في تشريعها إلى جانب المجني عليه فتفرض القصاص وتتجاهل العفو نجد الإنجيل يفرض العفو على ولي الدم ويمنع مقابلة الجرم بمثله؛ ولذلك يقال: إن في التشريع الأول تفريطاً في شأن الجاني وفي التشريع الثاني إفراطاً في النظر إليه. القتل عند البدو: كان العرب قبل الإسلام أمة فطرية تعيش على البداوة بنظامها وعاداتها الخاصة - وقد شاع في بيئتها القتل وجرت عاداتها على قتل القاتل - ولكن بالنسبة لما جبلت عليه العرب من الحمية الجاهلية والعصبية وكلفهم بالأخذ بالثأر أسرفوا في القصاص وتمادوا فيه فأصبحت الجماعة تقتل بالواحد دون النظر إلى قواعد العدل والإنصاف، ولم يرفع هذا الظلم إلا بنزول القرآن وظهور الإسلام. القتل عند الرومان: يتساوى الرومان والعرب في أن جريمة القتل عرفت عندهم من قديم الزمان واعتبروها عقوبة لنفس الجريمة - غير أنهما يختلفان في ناحيتين جوهريتين. فالأولون ينوعون في تطبيق عقوبة القتل ولا يسرفون في القصاص؛ كما كان عليه الشأن عندالعرب - والناحية الثانية أن نظام الطبقات عند الرومان كان ملحوظاً في تطبيق هذه العقوبة؛ فإذا كان الجاني من الأشراف استبدل النفي بعقوبة القتل وإذا كان من الطبقة الوسطى كانت عقوبته قطع الرقبة؛ وإذا كان من الطبقة الدنيا كانت عقوبته الصلب أو إلقاءه طعاماً لحيوان مفترس، أو يشنق. وقد دخل على هذا النظام عدة تغييرات انتهت بتدخل الحكومة في إقرار العقوبة وتنفيذها، كما هو الحال عليه في القوانين الحديثة القتل في الإسلام: نزل في عقوبة القتل آيتان أولاهما مكية وهي أول ما نزل في القتل وهي قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) والأخرى مدنية وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان؛ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة؛ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم.
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)
.
كما وردت نصوص أخرى متفرقة في القرآن نهت عن القتل منها: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).
ومنها قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً.
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا.
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)
وقد روي عن النبي ﷺ قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر فيها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أسباب النزول: روي في أسباب نزول القصاص أن بدوياً قتل آخر من الأشراف؛ فاجتمع أقارب القاتل عند ولي المقتول وسألوه عما يريد، فخيرهم بين إحدى ثلاث قالوا: ما هي؟ قال: إما أن تحيوا ولدي، أو تملأوا داري من نجوم السماء، أو تدفعوا لي جملة قومكم ثم لا أرى أني أخذت عوضاً. تبين هذه الرواية مقدار ما جبلت عليه نفوس العرب من الإسراف في طلب القصاص والتعنت فيه كأخذ الجاني بغيره والجملة بالواحد استمر العرب يقتلون الجماعة بالواحد والرومان يفرقون بين الشريف وغير الشريف؛ والتوراة تحابي المجني عليه؛ والإنجيل يفرط في شأنه حتى ظهر الإسلام فنزلت آيات القصاص التي تنظم جزاء جريمة القتل وترسم عقوبتها على أسس من العدل والإنصاف سنذكرها في مقال تال إن شاء الله فارتفع من الشرائع الأخرى مساوئها واستقرت محاسنها. علي حلمي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣