أرشيف المقالات

بين القديم والجديد

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ محمد فريد وجدي منذ أن أعلن العلم الحرب على الدين في القرن السادس عشر، لم ين عن مناوأته حيث ثقفه، اعتقاداً منه أن الدين لا يقوم على أصل ثابت له علاقة بإيصال الإنسان إلى كماله ولكنه قائم على الأهواء التي يبعثها حب الذات في النفوس، وعلى الأوهام التي لا يمكن أن يقام على وجودها دليل، والتي يكفي في دفع سحرها عن العقول نشر العلم الصحيح بين الناس، والعلم قد بنى على أساس دستوره المعروف، وهو أن لا يقام لمعقول وزن إلا إذا أيده دليل من الحسن، وأني للعقائد الدينية أن تجد دليلاً محسوساً لتقيم عليه وجودها؟ وقد وفق رجال العلم إلى جانب هذا لكشف الكثير من مساتير الوجود، ودرسوا نواميسها، وأقاموا عليها مخترعات ووسائل ذات أثر بالغ في كل فرع من فروع المحاولات الإنسانية؛ فكما ترى أثر العلم في المدن بادية في مصنوعاتها ومنتجاتها المحيرة للعقل، وفي علاجاتها وذرائعها المخففة للآلام، المزيلة للأمراض، ترى في القرى في آلات الحرث والري ةالبذر والتسميد والحصاد والنقل الخ الخ، فهذه المظاهر كلها أثرت في العقلية الإنسانية، وخاصة عقلية المتعلمين تأثراً عظيماً جعل للعلم فيها منزلة للقوامة عليها؛ فإذا بدا لهم مجهول، أو أعوزهم ترجيح، رجعوا فيه إلى العلم، ووقفوا منه عند حكمة، وقد علمت رأي العلم في الدين، فماذا تنتظر أن يكون عليه الناشئون بين حضنيه، المعولون في بناء أحكامهم عليه؟ هذا الأثر قد لحظناه في أنفسنا ونحن في دور الدراسة، وكابدنا للتوفيق بين عقيدتنا والعلم مشاق مضنية، وعملنا لنشر ثمرات ما حصلناه كتباً، ولا نزال جادين في هذا الطريق ثقة منا بأن مستقبل الإسلام بموافقته للعلم، أن الذين لا يتطلبون هذه الموافقة ولا يتكلفون لإيجادها مثل ما تكلفناه، تساورهم الشبهات والشكوك من كل مكان، وينتهي بهم الأمر إلى الإلحاد. أن أشد ما يصادفه طالب الأيمان من طريق العلم هي ما في الأديان من شئون ما فوق الطبيعية، فالعلم الرسمي لا يزال قائماً على ما كان عليه من نفيها نفياً باتاً، وحسبان كل ما يتعلق بها من بقايا الخرافات الساذجة، فالتوفيق بين العلم والأيمان من المحالات البعيدة الوقوع، لذلك يشيع الإلحاد في طلبة العلوم الكونية في أساتذتهم؛ ومن كان منهم يعطف على الأيمان بها، يكون مقوداً إليه بعاطفة لا بدليل، ولا يعتبر هذا أيماناً في نظرنا. فهل من مخرج من هذا المأزق؟ نعم، وقد وجد منذ مائة سنة وهو ما كشفه العلماء العالميون من خصائص الروح الإنسانية وعلاقتها بعالم ما فوق الطبيعة بعد دراسات عميقة وجهود مضنية صرفوها في تتبعها في جميع حالاتها ودونت في مئات من المؤلفات القيمة. أن هذه الدراسات العلمية المحضة التي عاداها ولا يزال يعاديها ممثلو الأديان في جميع الملل، قد محصت تمحيصاً لم تنله العلوم الطبيعية ذاتها، وذلك لغرابتها وشدة ما كانوا يكذبون بها.
فقد أثبتت هذه الدراسات والتجارب العلمية وجود عالم فوق الطبيعة متحكم في عالمنا الأرضي، ومصرف له على مقتضى النظام الخاص به.
عالم تعلل بعوامله جميع ما عجز الفلاسفة والعلماء عن تعليله في العالم الأرضي، وتخيلوا له عللاً وهمية أو سكتوا عنه حيرة وعجزاً. كانت الحاجة ماسة جداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى هذا الفتح العظيم في العلم، فقد كانت المعلومات التي لم تقبل التعليل قد بلغت حداً مؤيساً، واكتشفت النقدة العلميون جهات ضعف في العلم نفسه لا يمكن الإغضاء عنها. وقد بين هذا الأمر الأستاذ الكبير (جوستاف لوبون) بأوفى بيان في كتابه القيم (تحول المادة) الذي ظهر في سنة 1910 فقال: (إذا اتفق أن فيلسوفاً من المنصرفين إلى دراسة الموضوعات ذات الحدودية المبهمة، قرأ منذ عدة سنين كتاباً في العلم الطبيعي كان يدهش من وضوح التحديدات فيه، وصحة البراهين، وضبط التجارب، فكان لا يسعه إلا الانحناء أمام هذه النتائج الفخمة. (دامت هذه العقيدة في المقررات الكبرى حافظة لقوتها في العلم العصري إلى أن حدثت في الأيام الأخيرة مكتشفات غير منتظرة قضت على التفكير العلمي أن يكابد من الشكوك ما كان يعتقد أنه قد تخلص منه أبد الأبيد.
فان الصرح العلمي الذي كان لا يرى صدوعه إلا عدد محصور من العقول العالية، تزعزع فجأة بشدة عظيمة، وصارت التناقضات والمحالات التي فيه ظاهرة للعيان بعد أن كانت من الخلفاء بحيث يكاد لا تبلغها الظنون. (وقد صدرت مؤلفات على مثال الكتاب الثمين المسمى (العلم والافتراض) لهنري بوانكاريه، تؤتينا بالبرهان على ما نقول في كل صفحة من صفحاتها، فلقد أرانا هذا الرياضي المشهور أننا نعيش وسط الافتراضات والاتفاقات حتى في مجال العلوم الرياضية. (وقد كتب الأستاذ (لوسيان بوانكاريه) من جهته يقول: أنه لا توجد لدينا نظريات كبرى الآن يمكن قبولها قبولاً تاماً، ويجمع عليها المجربون إجماعاً عاماً، ولكن يسود اليوم العلوم الطبيعية ضرب من الفوضى.
.
ولم يظهر أن ناموساً من النواميس الطبيعية يعتبر ضرورياً ضرورة مطلقة.
والآراء التي كانت تظهر لمن سبقنا أنها تأسست تأسساً ثابتاً صارت اليوم لدينا موضوعات تحت المناقشة. وجتم الأستاذ (جوستاف لوبون) الآراء التي أوردها لكبار العلماء بقوله: (من حسن الحظ لا شيء أكثر ملاءمة للرقي العلمي من هذه الفوضى، فالوجود بمجهولات لا نراها، والحجاب الذي يحجبه عنا منسوج غالباً من الآراء الضالة أو الناقصة التي توجبها علينا تقاليد العلم الرسمي.

الخ) نقول وفي أثناء هذه اليقظة من الغرور العلمي ظهر علم ما فوق الطبيعة، ودرست ظواهره، ومحصت تمحيصاً دقيقاً، وتولاها رجال من ذوي الكفايات الممتازة أوصلوها إلى غايات بعيدة، وأقعدوها على أصول وطيدة، بحيث صارت أهلاً لأن تخصص لها دراسات في بعض الجامعات الكبرى كجامعات أكسفورد وكمبريدج ويورك، وجامعات أمريكية أخرى. هذه البحوث الروحية التي أمضت قرناً كاملاً تحت فحص أعتى العقول البشرية، وأشدهم شكيمة في العقيدة المادية، قد أثبتت وجود عالم روحاني، وشاهدت حوادث من قبيل تحكم الروح في المادة تحليلاً وتركيباً، وخرقاً للنواميس الطبيعية خرقاً لا هوادة فيه، فاتسعت أمام أنظارهم منادح النظر العالي، وأدركوا بالحس فساد النظرية الآلية التي كانوا يعللون بها وجود الكون المادي ونظامه واتساقه، والحياة نفسها وما إليها، وأصبحت النواميس الطبيعية في نظرهم ليست بالقوى الأزلية الأبدية التي صاحبت الكائنات في وجودها، وكلنها مظهر لقوى مدبرة أرفع منها. هذه المستكشفات الحديثة تفتح أمام العقل الإنساني حقائق كانت فلسفة العلم المادي قد جعلتها من المحالات العقلية، مثل وجود قدرة عالية تدبر الكون والكونيات، ووجود روح في جسم الإنسان مستقلة عنه تخلد بعد انحلاله، ومثل بعثة أرواح عالية للأمم في فترات من الدهر سموهم الناس بالرسل ليهدوهم إلى الخيور، ويزغوهم عن الشرور، ويمهدون لهم سبيل الارتقاء. هذه البحوث لم تجتز عتبات الجامعات وتأخذ مكانها في مصاف العلوم، إلا لأنها قد جاوزت دور الفحص العلمي، وأصبحت حقائق لا يمكن التماري فيها. فالسد الوحيد الذي أراه يقاوم تيار الإلحاد المندفع الذي يكتسح أمامه الأمم والشعوب ويلقي بها إلى مكان سحيق من الفوضى والفساد الخلقي والتناحر، هو أن يتضلع علماء الدين من هذا العلم الجديد، ويستخدموه لحل شبهات المشتبهين، وكبح جماح المستهترين.
وما المانع له من ذلك وهو يزيد في دعوتهم تأثيراً ويلقي على حججهم نوراً، ويقدع من معاطس المتفلسفة الذين يتخيلون أنهم وحدهم الذين خلصوا من أوهام العقائد، وكل من عداهم يرسف في أغلالها ويتعثر في أذيالها، ويحمل عقله تصديق خيالات لا وجود لها. هذا الموقف وحده يحفز المدافعين عن العقائد أن يحذقوه لكم أفواه المتحذلقين من الماديين.
فما ظنك والضرورة أصبحت تقتضيه. نعم تقتضيه لأن انتشار التعميم في الأمة الإسلامية تتسرب معه كثير من الشبهات القوية على وجود الروح والملأ الأعلى، وهذه الأمور كلها أحاطها الماديون بشبهات لا يقوى على محقها إلا هذا النور الجديد، الذي أشرق من صوب المباحث النفسية.
فإذا أهملوا الاستفادة منهم اضطروا للاقتصار في دفاعهم عن الدين على استعمال الأسلحة القديمة وقد أصبحت لا تغنى حيالها شيئاً فيكونون قد رضوا لأنفسهم في هذا الصراع العنيف بين الإسلام والإلحاد بهزيمة ساحقة. محمد فريد وجدي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١