أرشيف المقالات

فلسفة طاغور في العلم والعمل

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأديب عبد العزيز محمد الزكي يعرف عن طاغور أنه صرح في مناسبات عدة، أنه ليس بفيلسوف ولم يحاول قط أن يبتدع مذاهب جديدة في الفلسفة، وأنه كان يعمل دائماً على إحياء الحكمة الهندية القديمة والتعاليم الهندوسية حتى تساير روح العصور الحديثة واتجاهات المدنية الغربية، ولكن بدون أن تفقد في الوقت نفسه شيئاً من أصالة مقوماتها الروحية، أو تتعارض مع نزعات الهنود الأساسية. أحسب أن أرى هذا عمل شاق! إذ كيف يمكن التوفيق بين تعاليم متعارضة ومبادئ متناقضة؛ فإن تعاليم الهند الروحية تزهد في متع الحياة، وتحتقر ميدان المادة والقوة، وتنفر من الحياة العملية النافعة، وتكره أن تخوض معترك التوسع الاستعماري وبسط النفوذ، ولا تتمسك إلا بالفضائل الخلقية والقيم المعنوية، وتدفع الهندي لأن يؤمن باتحاد الوجود الشامل، وتلزمه بان يسعى لكي يدرك الله ويلاشي فرديته فيه، فيشعر بالوحدة المطلقة التي تبعث في نفسه السعادة والحرية.
بينما مبادئ الحياة الغريبة ترحب بمختلف متع الدنيا الحسية، وتحث على كل عمل يجلب أي نفع مادي، وتشجع على الاندماج في الحياة الاستغلالية والمغامرة في ساحة المادة والقوة، كما لا تتمسك إلا بالفضائل النفعية والقيم العملية، ولا تكترث للدين بقدر ما تكترث للدنيا؛ فأقبل الغربي على ملاذ الحياة الأرضية إقبالا جنونياً غافلا عن أصول تعاليم ديانته المسيحية التي تنشد الخلاص من الحياة التي تجذبه مفاتنها، فشمله الطمع والجشع والأنانية، ووقع فريسة للفوضى والاضطرابات والقلق، وحرم من الأمن والسلام والاطمئنان. ويخيل إليّ أن طاغور لم يفكر في أن يوفق بين هذه النزعات المتضاربة، وإنما لاحظ على الغرب شغفاً عميقاً بالعلم وجداً مستمراً ونشاطاً متواصلا في العمل فاستحق كل ذلك منه الإعجاب والتقدير.
بينما وجد تعلق الهند بالزهد والانصراف عن الحياة شغلها عن كل شيء إلا عن تحقيق الاتحاد بالله والاندماج في اللانهاية؛ فأصيبت بالجمود والموت، وكسيت بصبغة التقاليد العتيقة التي لا تلائم روح الحياة العصرية، وبدت الهند كأمة كسولة عاجزة في عالم كله حركة وتغير وتقدم فأراد طاغور أن يبعث حيويتها من جديد، ويخ عنها رداء القدم والعجز؛ وأن يبين لها الوسائل التي تمكنها في الاندماج في الحياة العملية، والمساهمة بنصيب وافر في تقدم العلم وترقية العمل.
وكان طاغور في ذلك كله حريصاً كل الحرص على المحافظة على الطابع الهندي، فإن بدت كتاباته كأنها تحث الهنود على كشف القوانين العلمية، والابتكار في ميدان العمل، ومحاكاة الغرب في مختلف نشاطه الحضاري، إلا أنه عمد أن لا تكون بواعث الهندي أو غاياته في بحثه في العلوم وتجديده في العمل هي عين بواعث الغربي وغاياته، كما حرص على أن تستمد هذه البواعث وتلك الغايات من صلب الحكمة الهندية عامة، ومن أصول الدين الهندوسي خاصة. ولكي نفهم كيف استعان بالكتب المقدسة في تشكيل دوافع طلب العلم، وأهداف أداء العمل المستمر المتجدد حسب المزاج الهندي الخالص، يحسن بنا أن نعرج أولا إلى نظرات الدين الهندوسي - كما فهمه طاغور - إلى النفس الإنسانية التي تكشف المعرفة وتعي العلم، وإلى الإرادة البشرية التي تنجز الأعمال الدينوية ويتنكر فيها. أولا: أما عن النفس فيقول طاغور إن الدين الهندوسي يؤكد لنا أن الكون وحدة شاملة، تضم كل ما يوجد فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان، ويتجلى الله فيها جميعاً.
وأن النفس الإنسانية جزء من أجزاء الكون المتعددة المتنوعة التي يتجلى فيها الله، إلا أن لها استقلالها الخاص، ووجودها المنفرد، وكيانها القائم بذاته بالرغم من اتحاد أجزاء الكون الشامل، وتجاذبها الشديد.
إذ أن استقلال النفس له قيمته، فعن طريقة يمكن للنفس أن تحقق وحدتها بالكون في صورة أروع وأقوى مما لو كانت راقدة فيه غير شاعرة باستقلالها، فضلا عن أن هذا الاستقلال لا يفصلها تماماً عما في الوجود، ولا يقطع صلتها بالحقيقة الكامنة في جميع نواحي الكون، وفي أعمق أغوار النفس.
فهي مرتبطة بالله وكيانها قائم به، بل إن كمالها لا يتحقق ما لم تشعر بحضوره في دخيلتها، ولا تفز بحريتها الروحية إلا إذا خضعت لإرادته، ولا تحس بالغبطة إلا إذا اندمجت فيه وأمحت فرديتها في لا نهايته. وأما إذا شعرت النفس بنوع من الانفصال المطلق عن الكون المتحد الذي يكمن الله في جميع أشيائه، فإن مرجع ذلك إلى حبس حياتها في حدود فرديتها، وإلى خداعها بالمظهر الكاذب وإلى استسلامها لإغراء الوهم الباطل الذي يوحي إليها بأنها غاية ذاتها، ويشغلها عن أي حقيقة أخرى تتعدى هذه الذات، ويوقفها تحت تأثير شهوات الإنسانية والكبرياء والغرور فتندفع في طريق الآثام والجرائم التي تحجب عن النفس حقيقتها المستعمرة فيها، فتجهل أن الكون تجمع أجزاءه وحدة تامة يتجلى فيها الله ولا تملك أن تحقق كمالها بالاتحاد باللانهاية، وتفشل في إحراز حريتها الروحية، تحرم من الشعور بالحب الذي يفيض بالغبطة والسرور.
وإذا أرادت تلك النفس الآثمة أن تحقق كمالها، يجب أن تخرج ذاتها في حدود فرديتها العتيقة إلى نطاق اللانهاية الفسيح، وتسعى لأن تتحرر من أسر المظهر، وتكشف عن زيف الباطل؛ بأن تفد نفسها لمعرفة حقيقة وحدة الكون عن طريق معرفة قوانين الطبيعة العلمية، وعن طريق إنكار الذات وفعل الخير وتحذير النفس من الشهوات الدنيئة والرغبات المنحطة وعن طريق ملاشاة قرويتها في اللانهاية؛ فيجري فيها ذلك الحب الذي يجعلها تدرك حقيقة الجوهر الكامن فيها، وتعلم أنها في وحدة تامة مع الله والطبيعة، وتفوز آخر الأمر بكمالها. يفهم مما تقدم أن معرفة حقيقة اتحاد الكائنات الشامل هو السبيل الوحيد لكمال النفس الإنسانية، التي لا يمكن أن تدرك هذه الحقيقة الكبرى إدراكا عميقاً صادقاً، إلا إذا تكشف لها أولا ما تحتوي عليه هذه الحقيقة الكبرى من حقائق صغرى متعددة، ينطوي كل منها على أحداث متشابهة لا نهاية لها، لأن معرفة هذه الحقائق الصغرى، فضلا عن أنها تغنينا عن جمع أحداث متشابهة تشغل الذاكرة، ولا تزيد من معرفة النفس شيئاً، ولا تؤدي إلى معرفة شيء سواها؛ فإنها تمهد لنا السبل إلى إدراك الحقيقة الكبرى التي تعتبر كل حقيقة صغرى وجهاً من وجوهها.
فإن معرفة قانون الجاذبية مثلا، لا يحوجنا إلى جمع أحداث تماثل سقوط التفاحة من الشجرة ونزول المطر على الأرض؛ ونضع أيدينا على حقيقة عامة تفتح آفاقاً تقودنا إلى اللانهاية التي تبلغ كل الحقائق الصغرى العامة. فإن معرفة قوانين الطبيعة على ذلك، والجد في الكشف عن ما جهل منها، أمر ضروري يمهد لنا إدراك حقيقة اتحاد الطبيعة بالله، ومعرفة وحدة القانون في وجوه الطبيعة المختلفة أي أن طلب العلم لا يقصد به مجرد التثقيف وتوسيع أفق المعرفة أو أن معرفة قوانين الطبيعة ليست هي في ذاتها غاية بحثنا في العلوم فإن قانون الجاذبية يعني أكثر من سقوط تفاحة على الأرض، وأن قانون تطور الأنواع يعني أكثر من تعاقب المخلوقات؛ إذ أن معرفة مثل هذه القوانين يفسح لنا الطريق للاندماج في مكونات الطبيعة والاتحاد بمحتوياتها المتنوعة، فنحس أن هناك جسما شاملا واحداً عالمياً، ونشعر أن هذه القوانين الطبيعية تشملنا وترتبط بنا برباط واحد، وندرك أن أجسادنا وأعضاءنا أشياء عالمية، وأن البخار والكهرباء من أعصابنا وعضلاتنا، فنعرف أن هذا العالم جميعه ما هو إلا جسم واحد ممتد لنا. فالقوانين الطبيعية لا تنفصل عنا، وتدل على أن هناك صلة وثيقة بين الإنسان والطبيعة، فهي ملك لنا، ومعرفتها تمدنا بالقوة المعنوية إذا اتخذناها سبيلا للاتحاد بسائر الأشياء، وتضعفنا إذا استخدمناها في مقاومة أغراض الطبيعة في الحياة.
إذ لو انصرف العلم إلى تسخير هذا العالم لخدمتنا، وبسط نفوذ الإنسان على كل ما يحيط به، ونصره على سائر العوائق التي تعرقل مكافحته للطبيعة، أو تحول دون استعباده لشعوب الأمم الأخرى، لفقد قيمته الحقيقية، وبعد عن غايته الصحيحة، وخضع لشهوات الإنسان الدنيئة التي تفسد الانتفاع بالعلم، وتدفع الإنسان إلى القوة والوحشية والجشع، فترتكب الجرائم، وتندلع الحروب، فيعم الخوف والهلع والقلق والاضطراب، أما إذا قصد بالعلم الاندماج في موجودات الكون، والاتحاد باللانهاية، والخضوع لإرادة الله، لتمردت روح الإنسان وأمحت حقيقتها في الحقيقة الكبرى، فتتمتع بالحب، وتنعم بالسرور والغبطة. ثانياً: وما فهمه طاغور عن النفس من الكتب الهندوسية المقدسة، وكتب حكماء الهند، يشابه ما فهمه منها عن الإرادة فإن قال إن للنفس وجوداً مستقلاً عن الكون المتحد، فإنه يقول أيضاً إن للإرادة حرية السيادة على شئون عالمنا الصغير.
وإذا ذكر أن استقلال النفس المطلق وهم باطل، وفي المظهر، وأنها جزء من أجزاء الوجود المتحد، وتسمو وجودها من الله، فإنه يذكر كذلك أن حرية الإرادة المطلقة وهم باطل، وفي المظهر، أنها لا تعمل إلا في حدود، وأنها جزء من إرادة اللامتناهي وملكا له. البقية في العدد القادم عبد العزيز محمد الزكي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن