أرشيف المقالات

الخلان والزمان

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 بين أبي فراس والبارودي للاستاذ محمد محمد الحوفي (تتمة) ويقرن أبو فراس الدهر بالخلان مكرراً ذلك في غير موضع: فهو يستنكر أن يعاتب أحداً، لأن العتاب إنما يكون للأوفياء والناس كدهرهم غادرون: ما لي أعاتب ما لي أين يذهب بي ...
قد صرح الدهر لي بالمنع والياس أبغي الوفاء بدهر لا أنيس به ...
كأنني جاهل بالدهر والناس والدهر متحالف مع خلافنه على الخيانة: يا دهر خنت مع الأصادق خلتي ...
وغدرت بي في جملة الإخوان والأيام حية لبست ثوب ناصح: تصاحبنا الأيام في ثوب ناصح ...
ويغتالنا منها على الأمن أرقم ويكرر هذه الصورة فيقول: تكاشرنا الأيام فيمن نحبه ...
ويختلنا منها على الأمن أرقم وفي أرجوزته الطردية، يعرج على الدهر فيرميه بالجور والغدر: ما أجور الدهر على بنيه ...
وأغدر الدهر بمن يصفيه ولا يزال الدهر يتمثل لأبي فراس في كل شيء حتى في عيادة سيف الدولة فقد أخرَّه الدهر عنها: لقد نافسني الدهر (م) ...
بتأخيري عن الحضرة ويزهو بكثرة حساده، وحقد دهره عليه: ولم أر مثلي أكثر الناس حاسدا ...
كأن قلوب الناس لي قلب واحد ألم ير هذا الدهر قبلي فاضلا ...
ولم يظفر الحساد قبلي بماجد! ولما كان هذا الدهر هو (صهيونية) أبي فراس الذي يبغضها وتبغضه، وينازعها وتنازعه - رأى أن السلامة والسعادة هي النجاة من غوائل الدهر، ولذا تراه يدعو لأصدقائه أ يقيهم الله صروفه فهو يدعو لصديقه وقريبه أبي العشائر، ألا يمسه الدهر بسوء في أية حال: لعاً يا أخي لامسك الدهر إنه ...
هو الدهر في حاليه بؤس وأنعم ويدعو كذلك لقريبه أبي زهير بأن يوقى بلايا الدهر: يا ابن نصروقيت صرف الليالي ...
وصروف الردى وكر الخطوب دهر البارودي وكما نعى أبو فراس على دهره، ينعى البارودي على دهره؛ لأن البواعث متشابهة، بل هي واحدة: فقد مات والد البارودي وهو في السابعة من عمره فلما شبَّ تلفت حواليه ليدفئ قلبه بحنان أبيه فلم يجده، فهاج على دهره الذي غال أباه وما كان قد تملاّه. وكان البارودي سليل المماليك ومعتزاً بنسبه كأبي فراس، وتربى في المدرسة الحربية، وطابعها السيادة والعزة يومئذ، ولذا لم يكن يدخلها غير أبناء الطبقات الراقية، فقوت هذه التربية الحربية نزعة الكرامة والاعتزاز في نفس البارودي. وشعر البارودي أنه فوق أقرانه بعبقريته الحربية: إذ هو أولى من أبلى في حرب إقريطش، وفي روسيا، وسطع نجمه في سماء القيادة الظافرة. وأحس كذلك أنه عبقري في السياسة: فقد كان أثير الخديو وأمين سرِّه ورسوله في المفاوضات، وتقلب في مناصب عالية، فكان مدير الشرقية، ثم محافظ العاصمة. وكذلك في عهد توفيق عين مدير الأوقاف، ثم ناظر الحربية مع الأوقاف عندما ثار الجند على ناظر الحربية عثمان رفقي. ولأمر ما وشى رياض باشا رئيس الوزارة إلى الخديو توفيق بأن البارودي يحابي الشعب ويؤثر مصالحه على مصلحة الخديو، فاستقال. ولما أسندت الوزارة إلى شريف - لم يقبل البارودي الاشتراك فيها حتى ألّحَّ عليه الخديو توفيق واستسمحه، ثم استقال شريف، فرأس البارودي الوزارة وفي هذا الحين قامت الثورة العرابية، فكان من أمرها أن نفى البارودي مع المنفيين. وكذلك أحس البارودي أنه عبقري في الشعر: إذ كان شعراء عصره أمثال الساعاتي ومحمود صفوت يتكسبون بشعرهم، وكانوا يقلدون الشعراء المتأخرين في تكلف المحسنات البديعية التي تنسيهم جمال المعنى، ولم يبتكر هؤلاء الشعراء المعاصرون للبارودي جديداً، أو يُحْيُوا من التراث الأصيل تليداً ولكن البارودي جاء فأحيا القديم، وولد منه الجميل الكريم، ولم يتكسب مثلهم بشعره، فعزت منزلته في نظر الناس وفي نظر نفسه وبعد: فليس عجيباً أن أدرك البارودي سمو مكانته النسبية والحربية والسياسية والشعرية - أن تحدثه نفسه بأن يستولي على العرش حينما فكر الضباط في خلع الخديو، ولاسيما أنه سليل المماليك، ملوك مصر السابقين. وإليك هذه الأبيات التي اقتبستها من قصيدة له، لترى فيها طمع البارودي في أن يستعيد ملك أجداده: لكننا غرض للشر في زمن ...
أهل العقول به في طاعة الحمل قامت به من رجال السوء طائفة ...
أدهى على النفس من بؤس على ثكل من كل وغد يكاد الدست يدفعه ...
بغضاً، ويلفظه الديوان من ملل ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ...
قواعد الملك حتى ظل في خلل وأصبحت دولت الفسطاط خاضعة ...
بعد الإباء وكانت زهرة الدول إلى أن يقول: فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم ...
ولا تزول غواشيكم من الكسل وتلك مصر التي أفنى الجلاد بها ...
لفيف أسلافكم في الأعصر الأول قوم أقروا عماد الحق وامتلكوا ...
أزمة الخلق من حاف ومنتعل فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ...
شكالة الريث فالدنيا مع العجل وقلدوا أمركم شهماً أخا ثقة ...
يكون ردءاً لكم في الحادث الجلل تلمس في هذه الأبيات إشارة إلى ضعف الخديو واضطراب أمره، ودعوة مستورة إلى أن يحل محله شهم أخو ثقة، يريد البارودي نفسه، ومن لها غيره؟ وهو الحربي المظفر والسياسي المحنك والشاعر الأبي، وهو بعد ذلك سليل المماليك ووارث ملكهم. قلنا ما تقدم لنخرج منه إلى أن البارودي نشأ يتيما، ولابد لليتيم أن يحقد على دنياه، وكان سليل أسرة مالكة اندثرت، فلابد أن يذم الدنيا التي أدالتها، وكان يتطلع إلى إعادة مجدها فلم يفلح، فنقم على حظه ومعاكسة زمانه.
.
وكان يثق بعبقريته الحربية والسياسية والشعرية، ومع ذلك أهين كغيره في الثورة العرابية، ونفي نفياً قاسياً، فجرح هذا العقاب عزته وكبرياءه، فسب دهره الجائر. وهل رأيت عند أبي فراس أسباباً للنقمة على دهره غير هذه الأسباب التي ذكرتها للبارودي أخيراً، وسيخيَّل إليك لقوة الشبه بين الأسباب أنني سأعيد عليك شعر أبي فراس تحت اسم البارودي: فكما كان الدهر حية رقطاء في شعر أبي فراس، يكون في رأي البارودي ثعباناً لادغاً، أو ذئباً مراوغاً، وليس الدهر ملهاة أو ملعبة، ولكنه أزمات وفجائع، تبخل بالسعادة على المكدود، وتجود على الوادعين الرقود: ألا إنما هذي الليالي عقارب ...
تدب وهذا الدهر ذئب مراوغ فلا تحسبن الدهر لعبة هازل ...
فما هو إلا صرفه والفجائع ألا إنما الأيام تجري بحكمها ...
فيحرم ذو كد ويرزق وادع ولا عهد للدهر، يفتك بالآمن، ويخرس القوالة اللسن: إن الحياة وإن طالت إلى أمد ...
والدهر قُرحانُ لا يبقى ولا يذر لا يأمن الصامت المعصوم صولته ...
ولا يدوم عليه الناطق البَذِر ولما كان الدهر في رأي البارودي مقياس القوة والتأثير شبَّه الشعر به في رفع الوضعاء وإسقاط الشرفاء، وتراه يكرر الدهر أربع مرات في كل هذه الأبيات الأربعة: للشعر في الدهر حكم لا يغيره ...
ما بالحوادث من نقص وتغيير يسمو بقوم ويهوي آخرون به ...
كالدهر يجري بميسور ومعسور صحائف لم تزل تتلى بألسنة ...
للدهر في كل ناد منه مهجور لولا أبو الطيب المأثور منطقه ...
ما سار في الدهر يوماً ذكر كافور وكأنما يريد البارودي بذلك أن يعلي الشعر على الدهر، وأن يغيط الدهر بغيض بما ينسبه للشعر وحده من فضل وفخر وكما يدعى أبو فراس ثباته أمام صدمات الدهر، وأن عزيمته لا يمسها وهن أو كسر، وكذلك لا يفوت البارودي هذا المعنى فيقول: وإني أمرؤ تأبى لي الضيم صولة ...
مواقعها في كل معترك حمر أبى على الحدثان لا يستفزني ...
عظيم ولا يأوى إلى ساحتي ذعر إذا صلت صال الموت من وكراته ...
وإن قلت أرخى من أعنته الشعر ويقول وهو أضعف حماسة من سابقه: فإن تكن الأيام رنقن مشربي ...
وثلمن حدى بالخطوب الطوارق فما غيرتني محنة عن خليقتي ...
ولا حولتني خدعة عن طرائقي ولكنني باق على ما يسرني ...
ويغضب أعدائي ويرضى أصادقي فحسرة بعدي عن حبيب مصادق ...
كفرحة بعدي عن عدو مماذق فتلك بهذي والنجاة غنيمة ...
من الناس والدنيا مكيدة حاذق وكما تجلد أبو فراس أمام ريب الدهر، ثم عاد فأبدى تخاذله وضعفه يعود البارودي كذلك بعد تشجعه وتأبيه، فيستسلم للدهر ويقرر أنه اضطر إلى الصبر، ولولا اللوم لهلج وجزع: صبرت على ريب الدهر ...
ولولا المعاذر لم أصبر ويعزو إخفاقه إلى عجزه وتخاذل طاقته لا إلى جهالته: فلا تحسبني جهلت الصواب (م) ...
ولكن هممت فلم أقدر ويعجب أن يرد الهرمان عوادي الدهر وفي هذا ما يشعر بتهيب البارودي له وحذره من نوازله: سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر ...
لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري بناءان ردَّا صولة الدهر عنهما ...
ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر وكما لم ينس أبو فراس الدهر وأحداثه وهو حظٍ بلقاء حبيبته مشغول بمحادثتها فيقول: فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا ...
فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر وقبلت أمري لا أرى لي راحة ...
إذا البين أنساني ألح بي الهجر فعدت إلى حكم الزمان وحكمها ...
لها الذنب لا تجزى به ولي العذر فكما ترى في هذه الأبيات أن أبا فراس أسلم نفسه لكم زمانه وحبيبته، واستكان لسطوتها وسطوته - ترى أن البارودي أيضاً خفض جناحيه لعيني حبيبته وخضع لجمالها كما خضع للدهر وقوته، حيث يقول: لها لفتة الخشف الأغن ونظرة ...
تقصر عن أمثالها الفتكة البكر ترد النفوس السالمات سقيمة ...
وتفعل ما لا تفعل البيض والسمر خفضت لها مني جناحي مودة ...
ودنت لعينيها كما حكم الدهر وكما اعتذر أبو فراس عن إخفاقه بأن الدهر حاربه وغالبه فقال: تطالبني بيض الصوارم والقنا ...
بما وعدت جدي في المخايل ولكن دهراً دافعتني صروفه ...
كما دافع الدين الغريم المماطل بعتذر البارودي كذلك بجبروت الزمان، ودوائر الحدثان: فإن كنت قد أصبحت فل رزية ...
تقاسمها في الأهل باد وحاضر فكم بطل فل الزمان شباته ...
وكم سيد دارت عليه الدوائر وبعد فهذا الذي ذكرناه من دهريات البارودي قليل من كثير اتخذناه شاهداً على اتحاد الفكرة عند البارودي وأبي فراس اتحاداً عجيباً.
وكأنما بعث الله في البارودي روح أبي فراس،.
.
فرجَّعت ما قاله شاعر حمدان فيما قاله شارع المقياس، أو كأنما عاد التاريخ فصار الزمان أبي فراس هو نفسه زمان البارودي وصار كذلك ناسه هم الناس. محمد محمد الحوفي معهد التربية العالي للمعلمين

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣